ع.بوشطارت
كرس العالم السوسيولجي الفرنسي بيير بورديو جزءا مهما من أبحاثه ومحاضراته الجامعية لشرح مفهوم الدولة، وكان يسميه ب”المفهوم الوحش ” ومن بين المفاهيم التي وضعها تحت مجهر البحث والدراسة هو مفهوم الرأي العام. وتساءل أكثر من مرة هل يوجد شيء اسمه الرأي العام ، واذا كان شيء مثل هذا موجود من الذي يصنعه ؟ وكيف يتم صنعه وإخراجه ؟
لا تهم التسمية هنا هل هو رأي عام أو مزاج عام أو تصور عام… بقدرما يهمنا ما يقع في الآونة الأخرة بالمجتمع المغربي في ظل تزايد وسائل التواصل الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي، والتي يبدو أنها تشكل بمثابة الملجأ السياسي الوحيد للتعبير عن مواقف وعن السخط الذي يعاني منه المغاربة، أمام توغل الدولة ونكوص الأحزاب وترهلها بسبب مخزنتها وانتهازيتها الضاربة في جذورها وواعماقها افقيا وعموديا.
وحين اصبحت هذه الشبكات الملجأ السياسي للشعب، تعرضت هي الاخرى إلى الميكانيزم الموجه لصناعة الرأي العام وتحوير النقاش من القضايا المصيرية ذات الأولوية، والتي تتعلق بتوجهات الدولة والحكام في تدبير شؤون الدولة عن طريق سن قوانين مالية واقتصادية خطيرة، كالزيادة في الضرائب مثلا ومن اسعار الوقود او قوانين اصلاح التعليم او قرارات ذات الصلة بمستقبل المغاربة وابنائهم.
مثلا حين كان يجب على المغاربة والمثقفين والصحفيين والمؤسسات التي تحترم نفسها والطلبة والتلاميذ والشباب والاباء والامهات…حين كان على الجميع مناقشة قانون الاطار لتنزيل الرؤية الاستراتيجية للتعليم، وشرح بنوده وانتقاد ما يمكن انتقاده ومعارضة ما يمكن انتقاده، سواء فيما يتعلق عن ضرب مجانية التعليم او ما يرتبط بالهندسة اللغوية للاصلاح او قضايا عديدة يتحدث عنها الاصلاح…ذهب الجميع في غفلة من الجميع لمناقشة موضوع مغلوط هو استعمال كلمتين من الدارجة في مطبوع مستوى من مستويات التعليم الابتدائي . وبطريقة عجيبة وغريبة بل ومدهشة اصبحت صفحات ومجموعات من شبكات التواصل الاجتماعي تطرح وتنشر بسرعة هائلة وبوثيرة مكثفة جدا ومتنوعة صور البغرير والبريوات وفي اقل من اسبوع تم نشر ملايين الصور والتعاليق تسخر من البغرير وتم نقل النقاش الى الواقع حيث نزلت مواقع غير بريئة الى الشوارع والاحياء القصديرية تنقل تصريحات الفئات الهشة والمحرومة من ابسط وسائل العيش تستنكر بشدة استعمال الدارجة في التعليم ..وهي اللغة التي تمت بها التصريحات وهي اللغة الوحيدة التي تتكلمها وتتقنها تلك الفئات الهشة …ويبدو على وجوههم الشحب والشهب والصخب والغضب كأن الدولة تريد ادراج لغة قوم من الاقوام البعيدة عن البلد ..والواقع ان الامر يتعلق بلغتهم وباللغة التي انتجوها هم بانفسهم …وكان طريفا وسخيفا حين قالت امرأة من حي قصديري في البيضاء ” اش بغينا نقريو البغرير …راه حنا لي كانديروه يوميا وكنعجنوه ….” وهذا عمق المشكل ومحور الأزمة والمهزلة.. كأننا نريد ان نعلم للطفل في المستوى الاول او الثاني التلقين بأشياء لم يسبق له مشاهدتها …مثلا تريد ان يتعلم الطفل في سن السادسة او السابعة من عمره طرق صناعة الصواريخ والطائرات…
الاشكال هو ماهي الجهات التي تسهر على خلق هذه الفرقعات الافتراضية لتلهية الشعب في وسائل التواصل الاجتماعي وتتضييع الوقت وتسفيه النقاش العام على تلك المواقع الافتراضية حتى لا يتطور الى مبادرات ميدانية كما وقع في حركة 20 فبراير التي بدأت في الفايسبوك وتحولت الى انتفاضات شعبية في اكثر من 56 مدينة انطلقت في نفس الوقت وبشعار موحد ..حرية / كرامة / عدالة اجتماعية .
وقد عاد حراك الريف سنتي 2016 و 2017 استغلال مواقع التواصل لانجاح وتنظيم واستمرارية الحراك وعمل المناضل ناصر الزفزافي على استعمال تقنية اللايف على الفايسبوك لاعطاء الاستمرارية والزخم والقوة للحراك..
اذن، حتى لا يتكرر النقاش حول الحرية و الكرامة والثروة في شبكات التواصل الاجتماعي والتواصل الفوري، دائما ما يتم التركيز على بعض الأمور التافهة جدا من قبل بعض الاوساط التي يبدو أنها تتحكم في طرق استعمال هذه الوسائل من خلال خلق وتسيير صفحات مؤثرة في خلق وترويج الاخبار وتوجيه النقاش عن طريق تقنية المشاركة وطرق الاخرى المسموح بها في الفايس والتي يتم الاداء مقابل النشر على نطاق واسع جدا .
حين تم قتل الطالبة التي هاجرت على قارب الى اسبانيا رميا بالرصاص ، اعتقد الجميع ان شعب الفايسبوك سيشتعل بصور الشابة المقتولة حياة وستنتشر عبارات التنديد والتضامن كما حصل مع الشهيد محسن فكري …ساعات بعد انتشار خبر قتل حياة في بحر تطوان قلت ساعات فقط ..خرجت صور الوزير الاسلامي اليتيم برفقة صديقته الشابة في باريس ، وهي صور قديمة قيل انها تعود لشهر رمضان الماضي…وانفجر الفايسبوك المغربي بصور الوزير …في رمشة عين تم نسيان الشابة المقتولة بالرصاص البحرية الملكية …واصبح الكل ينشر ويعلق ويسخر من الحياة الخاصة لوزير مع ” خطيبته ” كما قال طبعا…
كثيرة هي الامثلة ، لا حصر . آخرها صور الحلوى في البرلمان بالرغم من ذلك الطقس يتكرر منذ زمن قديم ، حيث يلهث الجميع نحو الحلوى الملكية المقدسة..وهو طقس مخزني عتيق مرسخ ومعمول به…..فلا احد مستعد لنقاش ما جاء في الخطاب ولا يريد مناقشة والتعليق على ماتسرب من مشروع قانون المالية ..ولا احد يهمه أمر ترشيح بنشماش الى تجديد ولايته الرئاسية وعدم ترشيح الاغلبية لمرشح …ولا احد مستعد لخلق نقاش جدي في بداية الموسم السياسي الجديد في ظل ازمة اجتماعية واقتصادية حادة وقاسية جدا وظهور بوادر ازمة مالية الدولة ووضع سياسي مكهرب وغير مستقر ينذر بزحف المال عن السلطة مما سيخلق هزة في النسق.
قبل الزحف نحو السلطوية الجديدة … لابد من حدوث النزيف…النزيف من أجل خلق رأي عام يقدس التفاهة ويتماهى مع اللامعنى .
الإعلانات
مناقشة هذا المقال