أوطم حبلى… () الى روح الشهيد ” بنعيسى ” وعبره الى كل الشموع التي احترقت لتنير دروب الظلمة الدامسة… قد تكون كلماتي الآن مجرد عتاب يشبه صيحة غريق في بحر مهجور… لكن اسمح لي صديقي أن أهمس لك بأشياء أخفيتها في صدري انتظارا لفرصة تجمعنا كي نتبادل فيها حديثا يخرج عن المألوف، مألوف ضمنا إليه كلية، إنه لساننا الجمعي الذي تحول الى دماء تمنحنا الحياة فعلا، فبرحت أنتظر الذي يأتي ولا يأتي وهاهي كينونتك تصادر مبكرا… أحس وأنا أنسج هذه العبارات الجريحة أنك تخاطبني من حيث أنت مرتاح للأبد: ” لا داعي للحسرة…حدثني خارج المألوف”… نعم سأحدثك…سأروي لك ما استطعت لأني أشعر أن المألوف يشدني إليه بعمق، أشعر بشلل يخترق قدرتي على التعبير وأنا أتأمل ابتسامتك الوديعة التي أقلقت أمن وراحة الكائنات السادية فحفزتهم على اغتيالك…الاغتيال يا رفيقي مصدر لذتهم الصفراء القاسية… القلب يدمع، و الغضب ينتشر في جسدي على نغمات صرخاتك المنبعثة من حس مرهف و التي لا تزال أصدائها تهز كياني هزا…أتذكر يا رفيقي و نحن في ساحة المجابهة اليومية لانتزاع الاعتراف بوجودنا و حقنا في حياة إنسانية؟ … أتذكر؟..قلق دائم و هم غير مرئي يسكنان أعماقك، يوحيان باستحالة أن ينال عقلك، مفكرتك و جسدك قسطا من الراحة…لقد كنت يا رفيقي قاسيا مع نفسك التي لم ترسم لها مكانا اسمه ” العودة الى ذاتك الصغيرة “…حتى نظراتك تومئ بانشغال دؤوب و بحث مضني عن آليات اختراق واقع التدمير البطيء… بل حتى عندما كنا نستعمل ما يعرف ب ” اللغة الحضارية ” كانت دقة استعراضك للسهوب الشوكية التي يزرعونها في طريقنا الشاقة تزعزع سباتهم الخشبي… رحلت قسرا و لم أودعك رفيقي الوداع الأخير…امتدت الى روحك الطاهرة أيادي القذارة و الغدر فقط لأن الابتسامة الوديعة لا تفارق شفتيك، و عيونك تشع نورا يعكر أجواء عشاق ليالي السواد الحالك و الغيم الكثيف الذين ينسج لهم تاريخ جرائمهم البشعة بشاعة وجوههم الدنيئة محاكمة كبرى لأن الفكرة النبيلة لا تموت رغم تغييب صانعيها…فالعناق المتهيج حرارة لرفاقك : عمر بن جلون، حسين مروة ، مهدي عامل، المعطي بوملي، …شاهد على أنهم يعيشون على هامش المسار المعطاء الذي تنحته الشعوب المكافحة…شاهد على أنهم عاجزين عن صنع تاريخ غير تاريخ إبادة المختلف عن نمط تفكيرهم المتحجر و عبادتهم الطقوسية للعنف القروسطوي المنتمي الى عهود مظلمة و ظلامية تحمل عوامل موتها في ذاتها… صدقني رفيقي المرح ” بنعيسى ” – كما اعتدت و اعتدنا المناداة عليك في ساحات المعركة و حلقات النقاش الطويلة و الغنية التي كنت تديرها بكل جدارة و استحقاق و تفان و دون تمييز بين وجهات النظر – أني رأيتك و أنت تجري لتذهب بعيدا…نعم تعدو وسط غابة من الأشواك تخترقها بقوة جنونية تحول معها جسدك الى نافورة دم و ورائك كائنات مسعورة تطاردك و هي تنبح كأنها مصابة بداء الكلبي، لعاب كريه يسيل من أفواهها البادية منها أنياب حادة تدل على أنها مصرة و عازمة على قنص حياتك و قرصنة كل شيء جميل فيك…المسافة بينكما تضيق و أنت تعدو و الأشواك رغم لدغاتها السامة تنحني أمام إصرارك الحديدي على البقاء منتصبا شامخا…إنها وحوش ضارية لا أدري من أي كوكب هي…كل ما أدريه أنها ليست من كوكبنا، ليست من عالمنا…عالم تعبر فيه الكلمة عن جمالها من خلال لاصمتها… رأيتهم يدنون منك…خطوة واحدة ويفترسوك…فجأة ينقضون عليك وإذا بي أسيتيقظ على نبأ استشهادك…كان حلما مزعجا فأصبح واقعا مؤلما… اختطفتك منا الخفافيش الحقيرة كما اختطفت قبلك رفاقك الغائبين الحاضرين معنا…لا شك أنهم يعانقونك الآن بحرارة…يهنؤونك على عرسك، عرسنا المتجدد دوما بزغاريد الحلم الطفولي الذي تلهث الذئاب المتلثمة بلبوس دينية على مصادرته… غيبوك عنا رفيقي ” بنعيسى ” دون لحظات الوداع الأخير…لكن كل حركاتك، كل نظراتك، قرأنا فيها وصية من سبقوك: أن يكون اليأس عدونا وحامليه الجبناء الذين اغتالوك أعدائنا…الاغتيال السياسي سلاح الجبناء يا رفيقي… مرة أخرى يصيبهم الذهول وطيور الفنيق المنبعثة من رمادها تطاردهم وهي تنشد عاليا سمفونية غنيناها معا: أوطم حبلى بالأحرار…هي حبلى وستبقى حبلى… و أخيرا نعدك رفيقي أننا سنزور قبرك و ننشد على مسامعك أسطوانة شعرية جميلة قالها الشاعر ” أحمد المسيح ” عن ” عمر اسم لكل الشهداء ” : ” انهض عمر، فالبيضاء الحمقاء تشق قصيصها.. انهض عمر، فخيول الخليفة تعبر قبرك.. انهض عمر، فقد نصبت الدمى شاهدات على الجراح.. انهض عمر، رفاقك حزانى / رحلت بدون وداع انسج من لحمك حبلا – اخترق قبرك- مزق كفنك و اجعل ريح بالدك شراع.. ……………………………………….. دمك إدانة لزمن الخلفاء… يقول الراوي : التقيت به و بالمهدي يتحاوران يقول المهدي : أنت أيضا قتلوك؟ نعم ! في بلاد تحل فيها المشاكل بالقتل ” () م. امباركي فاس (حي مونفلوري ) يوم من أيام مارس 1993 () مرثية في حق الشهيد آيت الجيد محمد بنعيسى…كتبتها مباشرة بعد اغتياله…لم سبق لي نشرها…والآن أخرجها من أرشيفي وأنشرها كما كتبتها في تلك المرحلة دون أي تعديل وذلك استحضارا لروح رفيقي الشهيد ” بنعيسى ” بمناسبة الذكرى 25 لاستشهاده…
الشهيد تقاسمت معه لحظات عديدة من داخل نضالنا في أوطم بفاس خلال بداية التسعينات…
() مجلة ” أمفي ” العدد 23 ماي 1983
مناقشة هذا المقال