محمد جواد سيفاو
ظهرت المدرسة كمؤسسة اجتماعية تربوية تهدف إعداد المتعلمين و تمكينهم من الإندماج في المجتمع كذوات فاعلة و منتجة في مجالها المحلي و الكوني، و عدتها الرئيسية لتحقيق ذلك الهدف النبيل، هؤلاء المعلمين و المربيين الشجعان الذي يمثلون حراسا أشداء ضد الفقر الفكري و الأنانية و التقوقع حول الذات ورفض الآخر و غيرها من السلبيات المفزعة التي باتت تزعجتمكينهم من الإندماج في المجتمع كذوات فاعلة و منتجة في مجالها المحلي و الكوني، و تكون عدتها الرئيسية لتحقيق ذلك الهدف النبيل، هؤلاء المعلمين و المربيين الشجعان الذي يمثلون حراسا أشداء ضد الفقر الفكري و الأنانية و التقوقع حول الذات ورفض الآخر و غيرها من السلبيات المفزعة التي باتت تزعج المجتمعات المتقدمة والنامية على السواء .
و عليه يمكن القول بدرجة كبيرة من الثقة أن المعلم الملتزم الأمين يمثل أحد ينابيع الحب والفكر الإنساني و العمل الجاد، حيث يسكن هذا الينبوع قلوب المتعلمين و يفيض عليهم بالأمل و الابتسامة والحرية، و يتيح لهم فرصة كاملة للتجوال في الآفاق الفكرية الممتدة إلى حدود يعجز بصر الإنسان العادي تداركهاأو الوصول إلى نهايتها، كما يساعدهم على تفعيل تفكيرهم نحو الأفضل بما يواكب ظروف الزمان والمكان، وبما يحقق تفاعلهم مع الإنسان على المستويين: المحلي و العالمي ليكون الجميع سيمفونية متسقة رائعة الأداء في الوجود على حد زعم الروائي الروسي الشهير دوستويفسكي، حيث تجمعهم انسانية الإنسان تحت مظلة واحدة، وأيضا يعمل المعلم على على تهدئة روعة و سطوة وجدان المتعلمين المتفاعل الملتهب ليؤدي على أساس ثنائية : العقل/ابجنون، وبذلك يستطيع المتعلمون من خلال التهور العاقل، أو قل الجنون الهادئ، أن ينطلقوا خارج حدود المنطق لتظهر ابداعاتهم واضحة جلية، حيث يتحقق ذلك في ظل استيقاظ عقولهم بين وقت و آخر ليمارسوا الإمعان و التحليل و ترتيب حيثيات المقدمات و الأسباب و النتائج في المعامل و شؤون التربية و التدريب و التعليم.
مدرسة التلقين و التدجين :
كيف لنا أن نتحدث عن صيرورة التربية و التعليم و المدرسة في المغرب المعاصر دون النظر لمادة التعليم الخام، ولجوهر التعليم والمعرفة، وخطاب الحرية والسلطة، وأيديولوجية وسيكولوجية الجماهير والمؤسسات البيروقراطية التي تجعل من فكرة التعليم كما يسميها المفكر الكوني “باولو فريري” “نموذجا قهريا” تنتج من خلاله منظومة ممنهجة من القهر المكرر، والبهائمية الفكرية، والتبعية الأيديولوجية والخواء الروحي”. المعرفة بنت الحرية والسؤال وهي في أصلها الأبيستومولوجي نزعة إنسانية حُرَّة ومُحرِّك فاعل للتحرر والنضال المستمر في مواجهة تشييء الإنسان وتسليعه وقهره وتذويب فردانيته في وهم الجماعات المتخيلة كما يسميها “أندرسون.”
من الغباء والسذاجة تغريب المدارس والجامعات وفصلها عن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تتشابك معه الجماعات والأفراد، لأن هذا التغريب والفصل يجعل المؤسسات التعليمية والمعرفية أداة أيديولوجية في يد السلطة لتدجين المتعلم وقهره وتسليعه في السوق الحرة ضمن نسق بيروقراطي يتعامل مع الإنسان والحقل المعرفي كسلعة يتطلب ترويجها بكل الوسائل الرأسمالية المتاحة، ليصبح الإنسان المحلي مغتربا في تفاصيله الفردية والجمعية في عقر داره، ومغتربا عن حقيقته الجوهرية كإنسان يصنع التاريخ لمجرد سن في دولاب تتحكم به مصانع التعليم والمعرفة، وتعيد إنتاجه كمواطن مجهول كما يسميه الشاعر الأمريكي “أودين.”
إن القصة المثيرة لعبقري الاختراع توماس أديسون تؤكد أن التفكير المدرسي حتى في الثقافات المنفتحة مناهض للإبداع وأن معيار التقييم المدرسي يقوم على الحفظ والاسترجاع وأن التفوق المدرسي ليس دليلًا على أصالة التفكير كما أنه ليس علامة على إمكانات النبوغ، بل ربما كان العكس هو الصحيح فالانسجام التام مع التلقين هو برهان على سهولة الانصياع وهو شاهد قوي على قابلية البرمجة التلقائية والمتعمدة دون فحص ولا تمحيص فتوماس أديسون لم يتلق تعليمًا نظاميًا ولكن لأنه من أهل النبوغ فقد بقي عقله على بكارته المشحونة بالتساؤل والدهشة كما بقي على نقائه في التطلع والانفتاح ولم يخضع للتدجين والبرمجة ولم يتعوَّد الرتابة والانغلاق…
دخل توماس أديسون المدرسة الابتدائية ولكنه لم يمكث فيها طويلًا فقد ادعت المدرسة أنه غير قابل للتعلم بل أكثر من ذلك زعمت المدرسة أنه بليد ومعاق ومتخلف العقل فلم تسمح له بمواصلة الدراسة!!
إن التفكير المدرسي الذي ضاق بتوماس أديسون هو ذاته التفكير الذي ضاق بأينشتاين وغيره من النابهين فتاريخ الفكر والعلم والفن والأدب مليء بالنماذج المضيئة التي حَكَمَ عليها التفكير المدرسي بضعف قابلية التعلُّم ولكن الأيام أثبتت أن استقلال التفكير لدى النابهين هو الذي يضايق التفكير المدرسي، فالنابهون يضيقون بالتلقين ويأنفون من غطرسة بعض المعلمين الفارغين كما أن كثرة أسئلتهم وحدَّة تساؤلاتهم ووضوح شدة اعتدادهم بفرديتهم.. كل هذا يتعارض مع التفكير المدرسي.
التعليم البنكي :
يرى المفكر “باولو فريري” في كتابه المشهور “تعليم المقهورين” أن التعليم التلقيني يتميز بلهجة متعالية جدا في تأصيله لبيروقراطية المجتمع ورداءة الأداء التدريسي، فهو يرى أن الطالب يحاصر بنظام معرفي قمعي ومتخلف كما كان في البرازيل في القرن الماضي، إذ ينحصر دور المعلم في دور الإيداع المعرفي والذي يختزله في الحفظ والتذكر واجترار المنهاج المدرسي والجامعي في صورته المسخ دون مراعاة الفروق الفردية، أو محاولة صقل الروح الإبداعية والعقل الناقد في مجابهة العقل اليقيني والثابت. ما زال الطلبة لدينا مجبرين على حفظ النشيد الوطني المفرغ من روح الإنسان والحرية والكرامة والحياة. التعليم أصبح شكلا من أشكال القمع الفكري والإنساني، بل وأداة فعالة في تحويل الشعوب لقطيع من العبيد السعداء، كما يسميهم “مالكوم أكس”. ولعل الواقع التعليمي المعاصر في بلادنا لا يختلف كثيرا عن هذه الصورة السوداوية التي يتحدث عنها “فريري.
مدرسة الإبداع و التفكير
لكي يكون ابداع المدرسة واقعا قائما، يجب أن يعمل المعلم على تعزبز تفكير المتعلم و تطويره و توسيعه، بما يؤكد أهمية استخدام المتعلم عقله فب تقوبة حالة التفكير و الإسترسال فيها، فعصرنا يرفض تماما أن يكون المتعلم عنصر في لآلة صماء، يظهر دوره السلبي حسب الإشارة الصادرة له بالعمل، إننا نعيش في عالم من التفاعل، بحيث بات من الصعب أن يتقوقع الفرد حول ذاته فقط، و تنقطع صلته بالآخرين أو تتم في أضيق الحدود.
و على صعيد آخر، ليكون للمدرسة المبدعة واقعها الحقيقي، يجبب عليها أن تتفبل المتعلم،وتهتم به، عن طريق توفير مناخ تربوي صالح يحقق متطلبات المتعلم، و يزوده بمطالبه التعلمية، و يشعره بأهميته و احترامه،ككائن حي فريد من نوعه، قادر على التفكير فيما يعود عليه وعلى و على الآخرين بالفائدة والنفع،و أن يكون لديه الرغبة أيضا في استخدام عفله و فكره بشكل أوسع و أعمق للحصول على المعلومات والإحصاءات و البيانات التي يحتاج إلبها.
إذن لتكون المدرسة مبدعة، يجب أن تهتم بالتفكير كمنهجية تتمحور حولها موضوعات المنهج ، و طرائق التدريس، و أساليب البحث و التقصي بالنسبة لعملية التعليم والتعلم، لذلك يجب تنمية وتطوير مهارات تفكير المتعلم، مع تأكيد أن هذه المهارات ليست إضافة لشيء و لا هي تركيز سريع للمعلومات.
و إذا كان على المدرسة المبدعة ان تعمل باجتهاد لتحقيق تقدم ملموس في تليم التفكير،فإن عليها أيضا في أي عملية تطوير المنهج أو تحسين تربوي أن تضم في ثناياها استخدام المنطق و العقل و إشاعة جو من الهدوء ،، وذلك يلزمه تحصيص الوقت الكافي إذ أن كل شيء لابد أن يأخذ و قته اللازم للوصول إلى مرحلة الإتقان،فعلى سبيل المثال إتقان تعلم مادة أكاديمية أو أية مهارة فنية يدوية كانت ام ذهنية يقتضي توفير الوثت الكافي، واستعمال كل فرصة ممكنة تحقق الهدف كالممارسة العلمية و القيام بانشطة و امتلاك المعرفة اللازمة و إجراء ما يتطلبه العمل من مناقشة وحوار.
و ترفض المدرسة المبدعة اتباع الأسلوب النمطي التقليدي في تقويم المتعلمين الذي يتمحور حول قياس مستوى تحصيلهم فقط، وانما تبحث عن دليل جديد لتقف به على مستوى المتعلم في الإنجاز، إن الإمتحان هو أداة المدرسة باعتباره المعبار الذي نقيس به تحصيل المتعلم، نتيجة ذلك أن تقوم بعملية تقويم له، و لكن في المدرسة المبدعة الامر يتعدى حدود الإمتحان ، و أيضا حدود التحصيل ليشمل جميع مستويات المتعلم العقلية والنمائية و الإجتماعية و التفاعلية …
و تعلم المدرسة المبدعة أن مسألة تعليم و تعلم الفكر تتعدى كثبرا الحدود المحوة للمعلمين او السلطات التي تتحملون مسؤلياتها، إذن أن هذه المسألة صعبة و معقدة، و يتطلب حلها مشارك أولياء الأمور و رجال الأعمال، و ما يؤكدما تقدم انه في بعض البلدان المتقدمة بدأرجال الصناعة ينهون إلى رجال التربية حاجتهم في القرن الحادي والعشرين، ليأخذوا ذلك في الحسبان حين إعداد شباب المستقبل، فالقوة العاملة ي المستقبل تتطلب مهارات في العمل المشترك، والتعاون الجماعي لمجابهة أي مشكلة طارئة حال نشوبها، والقيام بجمع الكثير من المعلومات و الأساليب التي تتسم بالتفكير للوصول إلى أقصى طاقة ممكنة للإبداع، في أقل وقت ممكن، و بأقل تكلفة ممكنة .
لا يمكن للمدرسة أن تتطور دون تحقق روح المواطنة وفكرة المدنية التي تحدث عنها “باروخ سبيوزا”، والتي تجعل الجميع متساوين أمام العقد القانوني والاجتماعي للدولة. ربما آن الأوان أن نعيد النظر في اختبار التوجيهي والمناهج التعليمية كوسيلة تقييم كمي واجترار معرفي ممل وبعيد عن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ولهذا تبدو فكرة خصخصة التعليم ومؤسساته فكرة مرعبة لأنها تطبق بصورة رأسمالية بحتة تجهز على قيم المعرفة وأخلاقياتها الجوهرية: العدل والمساواة والرفاه الاجتماعي ، ولهذا تصبح مسألة الإنتقال من مدرسة التلقين والتدجين إلى مدرسة التفكير و الإبداع ضرورة وجودية وملحة أكثر مما نتخيل.
مناقشة هذا المقال