تخليدا لليوم العالمي للفلسفة أعيد نشر هذا النص / المرافعة دفاعا عن الفلسفة (22 فبراير 2018)..
بصوت مرتفع
وتستمر محنة الفلسفة…
نقاش مهم تشهده فرنسا مؤخرا حول مشروع إصلاح البكالوريا حيث بعد انتخاب ” ماكرون ” رئيسا للجمهورية وعد هذا الأخيرفي برنامجه الانتخابي بإصلاح نظام البكالوريا في أفق 2021، بغض النظر عن تفاصيل و حيثيات و خلفيات هذا المشروع ، فالملفت للانتباه فيه هو مقترح إدراج أربع مواد يمتحن فيها التلميذ خلال نهاية السنة، و من بين هذه المواد الفلسفة باعتبارها من جهة تقليدا فرنسيا غير قابل للتراجع، ومن جهة ثانية الحاجة الى الفلسفة لاستنبات و تطوير الروح النقدية في تكوين أجيال المستقبل.(1) و هل يمكن تصور خصومة هذا البلد مع الفلسفة و هي التي شكلت التربة الخصبة لفكر الأنوار كأرضية صلبة لثورة تاريخية نقلت فرنسا من عهد الحروب و الظلمات و سطوة و استبداد الكنيسة الى عهد التقدم و الحداثة و الديمقراطية والعلمانية؟.
إن استحضار هذا المثال ليس للمقارنة خاصة أن هناك تباعد كبير جدا بين بلد أنجز إصلاحه الديني العميق و تمكن من إزاحة المؤسسة الدينية أي الكنيسة و أساقفتها الى الزاوية الضيقة و هي الزاوية الإيمانية القحة المؤمنة هي ذاتها بحرية المعتقد و ممارسة أو عدم ممارسة الشعائر والطقوس الدينية، و بالتالي دخل التاريخ من بابه الواسع أي باب العلم و إعمال العقل و العقلانية، و عالمنا العربي الإسلامي الذي لازال يصر تحالف الاستبدادين السياسي و الديني على أن يظل يراوح مكانه في الماضي على حساب المستقبل، و بالتالي فالعداء المضمر و غير المضمر للفلسفة كإعمال للعقل و تربية على التفكير و السؤال و النقد يندرج في هذا السياق، سياق أن يظل مستقبلنا رهينا للماضي و بالتالي أن نظل على هامش التاريخ.
من هنا، ومهما تكون طبيعة الجدل الذي رافق القرار الخاص بتنظيم امتحانات نيل شهادة البكالوريا المنشور بالجريدة الرسمية عدد 6647 (12 فبراير 2018) والقاضي بتحويل الامتحان في التربية الإسلامية من الوطني الى الجهوي وعدم إدراج الفلسفة أصلا في الامتحان النهائي لنيل شهادة البكالوريا المهنية مع العلم أن هاته الأخيرة حديثة العهد في المغرب (2014) ولازالت طريق إرسائها تعترضها صعوبات جمة، فالسؤال المطروح: لماذا لم تدرج الفلسفة في الامتحان النهائي للبكالوريا المهنية؟ إذا كان الأمر كذلك لماذا تدرس أصلا؟ وإذا كانت تدرس فقط دون أن يمتحن فيها التلميذ، كيف يتم تقييم وتقويم مستوى ومردودية التلميذ في هذه المادة الحيوية والاستراتيجية بكونها تتقاطع مع جميع الشعب والمسالك؟ وطالما أنها غير مدرجة في الامتحان النهائي للبكالوريا المهنية لماذا يتم إبعادها من الامتحان الجهوي تدريسا وامتحانا؟
على أية حال، حتى وإن لم يتم تعويض الفلسفة بالتربية الإسلامية في القرار الجديد، فهناك تغييب حقيقي للفلسفة بمبررات غير علمية وغير تربوية إطلاقا مهما كانت تلك المبررات، والأخطر هو أنه بهذا القرار يتم بوعي أو دون وعي التقليص من القيمة العلمية والرمزية للبكالوريا المهنية التي لا زالت مرتبطة بتمثلات سلبية في الوعي الجمعي، وبالتالي قتل رمزي ومادي متواصل للعقل النقدي …
وهكذا تستمر محنة الفلسفة بأشكال وطرق متعددة من الاستبعاد المؤسساتي الى التشويه الاجتماعي داخل الصف الدراسي وخارجه من خلال ربطها ب ” الإلحاد ” وفساد الأخلاق، وفي الأخير الهدف واحد: اغتيال العقل وتكريس ذهنية التسليم والخضوع وبالتالي ضمان شروط إعادة إنتاج الثقافة السائدة باعتبارها اديولوجية التحالف الطبقي المسيطر والمحتكر للثروة المادية والرمزية وغير مستعد للتشكيك في شرعية ومشروعية تلك السيطرة.
الفلسفة تاريخيا ارتبطت بالحكمة و المعرفة و النقد و السؤال حتى في أولى مراحلها لما كانت امتدادا وتطويرا ثم تجاوزا للأسطورة و الفكر الأسطوري الغني و المتعدد…و لم يدع الفلاسفة أبدا أنهم جاؤوا بفلسفة بديلا عن الدين …هذا النوع من الطرح يجعل بوعي أو دون وعي من الفلسفة عقيدة…بل هناك من الفلاسفة من كانوا فقهاء كالغزالي و ابن رشد، و هناك من كانوا متضلعين في الطب و الهندسة و الرياضيات كابن سينا و بابن رشد و الفارابي…كما أن هناك من الفلاسفة من ربط الإيمان بالعقل و ليس بالنقل و التقليد الحرفي الأعمى كما يدعي رجالات الفقه المتزمت الذين شكلوا تاريخيا تحالف قويا مع السلطة السياسية القائمة من أجل محاربة الفلسفة الى درجة يمكن القول معها أن تاريخ الفلسفة في العالم العربي الإسلامي هو تاريخ محنتها، أي محنة العقل والعقلانية و التي لازالت للأسف مستمرة….محنة ممتدة في التاريخ ودشنت مراحلها الأولى مع فكر المعتزلة التي تعرضت أعمالهم و أدبياتهم للحرق إبان الزواج ” الكاثوليكي ” الذي حصل بين السلطة ( المتوكل ) و المذهب السني المنغلق، و كذلك هجوم الغزالي في كتابه ” تهافت الفلاسفة ” حيث أدان احتكاك وتفاعل الفلاسفة المسلمين مع الفكر اليوناني أمثال سقراط وأفلاطون و أرسطو، بل و بلغ الأمر الى حد تكفيرهم واعتبارهم مصدرا للخداع و التهافت، و قد رد عليه لاحقا ابن رشد في كتاب “تهافت التهافت”، بالإضافة الى محنة ” الكندي” أول فيلسوف عربي أدرك سطوة رجال الدين و فقهاء المذهب السني و عدائهم للفكر الفلسفي..
و قد دافع ” ابن رشد ” عن الفلسفة كضرورة حياتية و ظل ينافح عن مشروعية النظر في كتب الفلسفة اليونانية معتبرا أن كل من يصادر الحق في التعامل معها كمن يمنع العطشان من الارتواء و هو المشهور في الغرب بالشارح الأكبر لأرسطو، و هذا يعني ربط الفلسفة بالعقل والحياة ، الأمر الذي عرض “ابن رشد ” لتهم التكفير و الزندقة على يد فقهاء السلطة وبالتالي إحراق كتبه… و قد ضحى دفاعا عن السؤال الفلسفي فلاسفة كبار أمثال سقراط، الكندي، ابن رشد الى درجة تم فيها تعريف الفلسفة بكونها ممارسة للموت، و هكذا ظل التراث الرشدي مجهولا في العالم العربي الإسلامي، ولم يقرأ بشكل جيد العقلانية الرشدية و يستفيد منها غير الغرب حيث شكلت تلك العقلانية إحدى ركائز الطفرات النوعية لتطوره الحضاري و تقدمه البشري.
عموما، يشهد تاريخ الفلسفة و الفكر الإسلامي في العالم العربي الإسلامي منذ بداية الاحتكاك بالفكر والفلسفة اليونانيين الى يومنا هذا، فترات حالكة شاهدة على محنها ومحاولات اجتثاثها من خلال الدعوة الى رفض الفلسفة باسم الدين و خاصة خلال مراحل الاستبداد السياسي واحتكار السلطة، و بالتالي البحث عن مسوغات دينية لإضفاء القداسة على السلطة المستبدة مما ينتج عنه التعصب و الاضطهاد واللاتسامح خاصة و أنه- كما يرد العديد من المؤرخين والباحثين- أن فترات ازدهار الفلسفة في الحضارة العربية الإسلامية قد تحققت لما كان التسامح الديني يميز المناخ السائد ودعم السلطة السياسية للإبداع الفلسفي وإعمال العقل وتشجيع الترجمة والاطلاع على التراث الفلسفي اليوناني…
ومن المشروع القول أن التضييق على الفلسفة في المغرب هو بشكل من الأشكال امتداد لتلك المحنة المتجلية في محاربتها في سياق الخوف من معرفة نقدية مزعجة لا تسلم ببداهة الحقائق و الأشياء و السلط مهما كانت طبيعتها، و غالبا ما شكلت شعبة الفلسفة والفكر الإسلامي بالحقل التعليمي الجامعي منه و الثانوي خلال مرحلة نهاية الستينات وبداية السبعينات مشتلا حقيقيا للفكر النقدي والمثقف المتنور والمعارضين للسلطة السياسية و الأديولوجية السائدة ومسائلة أسس ومشروعية هذه السلطة، مما حدا بهذه الأخيرة الى محاربة الفلسفة بدء بإغلاق معهد السوسيولوجيا سنة 1970 والتضييق على الباحثين في حقل الفلسفة والعلوم الإنسانية عن طريق القمع المادي والرمزي كمصادرة الكتب و المجلات و وضع العراقيل أمام البحث العلمي وتقزيم الرقعة التعليمية و الجامعية لتدريس الفلسفة و العلوم الانسانية و تعويض الفلسفة بشعبة الدراسات الإسلامية خلال بداية الثمانينات، و تتويج هذه الإجراءات القمعية بحملة تشويه واسعة قادها بالوكالة ” أشباه ” مثقفين و فقهاء تم تجنيدهم لنشر الفكر الوهابي عبر الترحيب الواسع بمتونه وكتبه و أشرطة زعمائه و بالتالي تشجيع الخرافة و ممارسات الدجل و ثقافة القبور و ” الفكر ” الميت في سياق تشجيع ال “الأصولية الدينية ” فكرا و ممارسة سياسية في المدارس والجامعات و المساجد و الإعلام و الجمعيات الدينية و ذلك خدمة لاستراتيجية اجتثاث اليسار و قوى الحداثة والتقدم…
إن إقدام الدولة المغربية على الحد من الفلسفة ظل ثابتا رغم بعض فترات العودة الى الفلسفة و طرح الحاجة إليها في سياق الأحداث الإرهابية ل 16 ماي 2001 بالدار البيضاء والتي كانت مؤشرا قويا لانقلاب السحر على الساحر، بمعنى أن محاربة الفلسفة والفكر النقدي لم تكن غير مصنعا للقنابل البشرية وانبعاثا قويا لكل مظاهر الارتداد والبؤس الفكريين وتكفير الدولة والمجتمع، و بالتالي هذا ما جعل بعض أقطاب الدولة يعي مخاطر و انزلاقات سياسة تعليمية و إعلامية لم تشجع الفلسفة كعقلانية ممانعة تتنفس أوكسجين السؤال والتساؤل…لكن وقت العودة الى الفلسفة كان متأخرا و لن يتحقق في ظل تلاقي استراتيجي بين ” أصولية ” الدولة وأصولية ” الجماعات” و التي تجلت مرة أخرى في ” دعم جبهة العداء للفلسفة و التفكير الفلسفي من خلال ما تضمنته برامج مادة التربية الإسلامية في التعليم الثانوي التأهيلي والمسيئة للفلسفة والعلوم وحقوق الإنسان والطفل ومكتسبات الحضارة الإنسانية المعاصرة و ذلك لما تضمنته من مس وتشويه وتحريف للمقاصد النبيلة للفلسفة والعلوم وربط الفلسفة – كما ورد في البيان الاستنكاري للجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة (2) _ بالغي و الضلال و الزندقة، وهو الربط الذي يستند سواء بوعي أو دون وعي على رأي ابن تيمية ( القرن 14 ) الأب الروحي للوهابية الذي أدرج الفلسفة ضمن لائحة المحرمات ، و هذا الموقف العدائي للفلسفة – كما أشرنا سابقا – هو بشكل من الأشكال امتداد لإغلاق معهد السوسيولوجيا سنة 1970 و محاربة الفلسفة بالجامعة المغربية في مقابل تشجيع الدراسات الإسلامية خلال بداية الثمانينيات و فتح الأبواب مشرعة أمام تدفق و انتشار الاديولوجية الوهابية الظلامية وتوظيف تنظيمات الإسلام السياسي في خطة اقتلاع اليسار و الفكر التنويري من الجامعة المغربية” (3).
إن هذا التلاقي الاستراتيجي بين ” أصولية الدولة ” و ” أصولية الجماعات ” في الحد من الفلسفة كوعي نقدي، لا يمكن أن ينتج غير الجهل المقدس، وبالتالي لا يمكن تفكيك بنيات هذا الجهل المقدس الضاربة في عمق الذهنية الجماعية و الفردية إلا من خلال ثورة سوسيوثقافية تنويرية يعتبر النضال من أجل مدرسة ديمقراطية علمانية و جيدة إحدى روافعها الاساسية.
هوامش :
(1) Baccalauréat 2021 : quelles nouveautés ? . http://www.oise.gouv.fr
(2) بلاغ المكتب الوطني للجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة. 15 يناير 2017
(3) الداعشية و “البلوكاج ” الثقافي. محمد امباركي. الحوار المتمدن-العدد: 5398 – 2017 / 1 / 10
محمد امباركي
22 فبراير 2018
مناقشة هذا المقال