يجزم المفكّر الأميركي نعوم تشومسكي، لقارئ كتابه بالإنجليزية “من يحكم العالَم؟”، بأنّ الكتاب لا يقدّم جوابًا بسيطًا ومحدّدًا حول مَن يحكم العالم اليوم؛ فالعالم بات متـنوّعًا ومعقّدَ العناصر بنحو تغيب فيه الملامحُ الواضحة لهويّة من يستأثـر بقيادة دفة الحضارة الإنسانية في عصرنا هذا.
يستدرك تشومسكي بالقول إنه من السهل ملاحظة الجهات الدولية الفاعـلة، والقدرات المتباينة بين الدول في رسم ملامح العلاقات الدولية والتأثيرات الاستراتيجية. فالولايات المتحدة تتشارك في الهيمنة الدولية مع “حكومة الأمر الواقع العالمية” المؤلفة من قوى الرأسمالية المتصدّرة، وتوابِعِها من مؤسسات “العصر الأمبراطوري الجديد”؛ كصندوق النقد الدولي ومنظّمات التجارة العالمية.
يقول تشومسكي إنّ الهبّة الشعبية التي حدثت في العالم العربي منذ سنوات كانت تمثّل الشجاعة والتصميم والالتزام من قِبل القوى الشعبية. وقد تزامنت هذه الهبّة مع مثيلة لها في الولايات المتحدة، قام بها مئات الآلاف دعمًا للطبقة العاملة والديمقراطية في ولاية ويسكونسن وغيرها من المدن الأميركية. إلّا أنّ الحراك الشعبي الذي حصل في القاهرة، إنما كان بهدف كسب حقوق أوّليّة، منع النظام الديكتاتوري الحاكم شعبَه منها؛ فيما كان الحراك الساري في أميركا يهدف إلى الدفاع عن حقوق تأتّـت للشعب الأميركي بعد نضالات طويلة، وقد صارت اليوم مهدّدة بهجمة سلطوية قاسية.
ويكمل تشومسكي بأنّه ثمة اليوم كل الأسباب التي تحدونا على الاقتناع بأنّ صنّاع السياسات يحتكمون إلى القاعدة التي وصفها أدولف بيرل، مستشار الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفيلت؛ ومفادها أنّ السيطرة على احتياطات الطاقة الكامنة في الشرق الأوسط، هي مقدّمة للسيطرة الجوهرية على العالم.
لقد بدأت بلورة مشروع الهيمنة العالمية الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية، وتمّ الحفاظ عليها في وجه طيف من التغيّرات في النظام العالمي منذ تلك الحرب. فقد اجتمع مسؤولو وزارة الخارجية الأميركية واختصاصيّو السياسة الخارجية في واشنطن، منذ بداية الحرب في العام 1939، لوضع خطط الهيمنة الأميركية على العالم بعد انتهاء الحرب. فحدّدوا “مساحة كبرى” أرادوا للولايات المتحدة أن تهيمن عليها، تشتمل على مصادر الطاقة الكامنة في الشرق الأوسط. وضمن هذه “المساحة الكبرى”، تسعى الولايات المتحدة باستمرار للحفاظ على السلطة بقواميّة عسكرية واقتصادية، وفي الوقت عينه تعمل على كبح أي ممارسة للسيادة في الدول الواقعة في إطار هذه المساحة. هذه الخطّة الأميركية سرعان ما تمّ تنفيذها إثر الحرب العلمية الثانية.
يقول تشومسكي إنّ الأميركيين لاحظوا أنّ أوروبا قد تختار سبيلًا في الاستراتيجيا الدولية يكون مستقلًّا عن الهيمنة الأميركية؛ لذا كان تأسيس حلف الـ”ناتو”(شمال الأطلسي)؛ ومعه جملة من الأسباب الأخرى. لقد أصبح حلف “الناتو” قوّة تدخّل تقودها الولايات المتحدة، بهدف بسط النفوذ الغربي (لا سيما الأميركي) على المناطق التي يتمّ منها سحب النفط والغاز، بحماية من جنود “الناتو”، إلى مكامن تلقّيهما في الغرب الصناعيّ.
تسمح عقيدة “المساحة الكبرى”، التي سنّها الأميركيون، بالتدخّل العسكري (في بلدان حول العالم) بمقتضى المصلحة الأميركية، ووفق المشيئة الأميركية. لقد أعلنت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، أنّ من حق الولايات المتحدة استعمالَ القوة العسكرية لضمان النفوذ الأميركي إلى الأسواق الأساسية العالمية، ومصادر الطاقة والموارد الاستراتيجية؛ وأنّه على الولايات المتحدة إبقاء قواتها العسكرية في أوروبا وآسيا بهدف تشكيل وبلورة نظرة الشعوب إلى أميركا، والمشاركة في رسم معالم الأحداث التي ستؤثّر على الأمن والديمومة الأميركيّينِ.
هذه المبادئ أطّرت الغزو الأميركي للعراق. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2007؛ أصدر البيت الأبيض “إعلان مبادئ” يطلب إبقاء القوات العسكرية الأميركية في العراق، إلى أجل غير مسمّى؛ بما يضمن مصالح المستثمرين الأميركيين. ورفض الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش (الابن) تشريعًا يرمي إلى تقييد الوجود العسكري الأميركي في العراق، أو تقييد السيطرة الأميركية على مصادر النفط العراقية.
ويجزم تشومسكي بأنّ الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين يحرصون على منع نشوء ديمقراطيات حقيقية في العالم العربي. وتشير وكالات الإحصاء الأميركية إلى أنّ غالبية ساحقة من العَرَب تعتبر الولايات المتحدة وإسرائيل تهديدًا كبيرًا للمنطقة: فحوالى 90 بالمئة من المصريين يرون هذا، ومعها 75 بالمئة من مجمل سكّان منطقة الشرق الأوسط. فيما تشير الإحصاءات عينها إلى أنّ 10 بالمئة فقط من العرب يعتبرون أنّ إيران تشكل تهديدًا للدول العربية… وإنّ غالبية من العرب تعتبر أنّ أمن المنطقة سيتحسّن إذا كانت لدى إيران قوّة عسكرية نووية—وهي نسبة تبلغ 80 بالمئة في مصر. ويقول تشومسكي إنّه لو كان الرأي العام يؤثّر على سياسات الأنظمة، لكانت الولايات المتحدة طُرِدت من الشرق الأوسط مع حلفائها.
على أرض الواقع؛ يسود كرهُ النُّخب النافذةِ للديمقراطية. ففي التعليق على كشوف “ويكيليكس”؛ نقلت وسائل الإعلام الرائجة أنّ العرب يدعمون موقف الولايات المتحدة من إيران. إلّا أنّ “العرب” المقصودين في التغطية الإعلامية كانوا الحكّام الديكتاتوريين أنفسهم (لا الشعوب العربية)… فيما لم يؤتَ على ذكر موقف الشعوب العربية.
وينقل تشومسكي عن الديبلوماسي الأدرنيّ مروان المعشّر؛ أنه قال: “إنّ الفكرة السائدة في العالم العربي هي أنه ليس ثمة مشاكل، وأنّ كل شيء تحت السيطرة… فبهذه الذهنية، تصوِّر القوى المفروضة على الشعوب خصومَها المطالبين بالإصلاحات، على أنهم يبالغون في وصف فظاعة الواقع على الأرض”.
الهيمنة الأميركية على العالم
في العام 1958؛ شرح مجلس الأمن القومي الأميركي للرئيس الراحل دوايت آيزنهاور أنّه ثمة نظرة في العالم العربي إلى الولايات المتحدة على أنها تدعم الديكتاتوريات القائمة وتقمع الديمقراطيات والتنمية، لضمان السيطرة على الموارد الطبيعية للمنطقة… وأكّدت دراسات أجرتها وزارة الدفاع الأميركية بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، أنّ النظرة عينها لا تزال قائمة اليوم في العالم العربي.
ويقول تشومسكي إنّه في سياق صناعة السياسات الغربية، وفي التعليقات السياسية؛ تصوَّر إيران على أنها التهديد الأكبر للنظام العالمي، لذا ينبغي أن تظلّ إيران محطّ تركيز السياسة الخارجية الأميركية، ومعها الدول الأوروبية المطيعة.
وينقل تشومسكي عن المؤرّخ العسكري الإسرائيلي، مارتن فان كريفيلد، أنه كتب يقول: “لقد شهد العالم كيف أنّ الولايات المتحدة غزت العراق بدون أي سبب… لذا، إذا لم يبادر الإيرانيون ليتحصّلوا على سلاح نووي (أمام التهديد الأميركي المستمرّ)، فسيكونون قومًا مغفّلين”.
ويعتبر تشومسكي أنّ الولايات المتحدة وأوروبا متّحـدتان في فرض العقوبات ضدّ إيران لأنها تهدّد “الاستقرار”—وهذا، بالمفهوم الأميركي، يعني أنها لا تخضع للمطالب الغربية!
إنّ المستثمرين والتجّار الصينيين يملأون اليوم الفراغ الذي تركه الأوروبيون بعد هجرهم التجارة مع إيران. فالصين باتت تتوسّع في دورها المهيمن في قطاع الطاقة الإيراني. فعمدت الولايات المتحدة إلى تحذير الصين بأنها إذا أرادت أن تكون مقبولةً في “المجتمع الدولي” – وهو اصطلاح مؤدّاه الولايات المتحدة ومَن يلفّ لفّها – فإن عليها ألّا تهجر مسؤولياتها الدولية؛ ويعني ذلك أن تتبع الأوامر الأميركية.
وفي الوقت عينه، يقول تشومسكي، ارتفعت تكاليف الحملات الانتخابية (الأميركية) بصورة جنونية؛ ما حدا الحزبَين السائدَينِ (الجمهوري والديمقراطي) إلى الخضوع للنزوات الرأسمالية. ولقد كلّفت الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، في العام 2012، أكثر من ملياري دولار، ومعظم التمويل كان من قبل الشركات العملاقة… ولهذا وجدنا أنّ أوباما عيّن قادة تجاريّين في أعلى مراكز السلطة في إدارته. قد يكون جمهور الشعب مغتاظًا من هذا الواقع، إلّا أنّه ما دام وصف مروان المعشّر قائمًا، فلا يهمّ ما يعتقده الشعب.
مناقشة هذا المقال