من جحيم أوفقير إلى زنازين البركاوية بالجزائر
حاصرتني وزارة الدفاع الجزائرية بإقامة جبرية لعدة سنوات ضدا على كل المواثيق الدولية وحقوق الإنسان. الدكتور ومعاونوه لم ينفكوا في تتبع حركاتي وسكناتي، فمن حين لآخر يرن الهاتف، وبمجرد محاولة الإجابة، ينقطع الاتصال، من باب التأكد هل أنا موجود في البيت ، بل وإمعانا في استفزاز العائلة وحرق أعصابها، بجعلها تحت توتر دائم، لم يكتفوا بوضع حراسة دائمة أمام مقر سكناي، فعبؤوا جيراني من الأمن العسكري كي تظل عيونهم مفتوحة، وقد حكيت لكم قصة السفر في عطلة العيد مع العائلة إلى وهران، وكيف طلب مني الدكتور العودة الفورية إلى العاصمة لأن الجماعة “تبحث عني”.
تطلب مني مواعد من حين لآخر بالقرب من بيتي، ويختلف موضوع اللقاء، لكن مضمون اللقاء كان بالأساس أن أرى وجها من الوجوه التي كانت تسهر على تعذيبي.
كاتبت الرئيس الشاذلي بن جديد، فكان رد الفعل أن وجهت إلي دعوة إلى مقر وزارة الدفاع الوطني، بواسطة شاب ألفت وجهه بالمكتبة الوطنية، كان يجلس بجانبي، منذ سنوات ويحرص على أن يقدم لي التحية.توهمت أنه طالب فإذا به رجل مخابرات.
بعد استقبالي في مقر وزارة الدفاع من طرف الشخص الذي أشرف على اعتقالي، شرح لي بأن “ما تعرضت له شيء طبيعي من طرفهم لاعتبار مهمتهم القمعية”صمت الجهات الرسمية المغربية.
ألمني، ويؤلمني ولحد كتابة هذه السطور، صمت الجهات الرسمية، وسلوكها الذي لن أنساه ما حييت، وتتمثل ذلك في العديد من المناورات.
المناورة الأولى تمت قبيل اعتقالي من طرف الأمن العسكري بمدة شهر، ذلك أن ادريس البصري بعث لي مبعوثا خاصا في شخص السيد فيصل، مرفوقا بأحد أفراد العائلة، ليرتب موضوع دخولي إلى المغرب، بالموازاة، اتصل بي الحسين الخضار.. قبل الموعد ينصحني بالحذر من اتخاذ قرار الدخول…لأن كل العائدين بمن فيهم هو تركز التحقيق معهم حول العلاقة معي.
في المساء نفسه، سيتم اللقاء بمحطة الأبرا بباريس التي قدمت إليها مباشرة من الجزائر العاصمة.
لم يكن مفاوضي موفقا في إقناعي، تحدث عن جديد المغرب، خاصة حرية الصحافة، ليخبرني بأن بإمكان الجماعة التي انتمي إليها في المغرب إصدار جريدة، وأن بإمكاني طمأنتهم إذا كانوا يرغبون في ذلك، وذكرني بتجربة 23 مارس التي خاضت تجربة جريدة “أنوال”.
“أوضح الهدف، فالسلطة لها سياستها وفهمها للتعددية”. أردف مفاوضي: “إن للحرية طبعا حدودها، فهناك أيضا العصا لمن عصى”، أحسست بقشعريرة وحسمت موقفي في الحين..
ثم تقدم باقتراح، أدعوكم لتفسير لغزه، وسأعفي نفسي من التعليق عليه…يمكنك “اسي احمد- يعنيني- الدخول معي إلى المغرب وسأرافقك لزيارة الأقاليم الصحراوية، وتتم زيارتك في سرية كاملة، ثم تعود إلى الجزائر.ومن الناحية العملية، أقترح أن تدخل إلى المغرب عبر اسبانيا، لأن وضعنا على مستوى العلاقة الأمنية أحسن بكثير من الدخول عن طريق فرنسا”.
كان هذا هو اقتراحه على شخص بارز على المستوى السياسي بفرنسا إن لم أقل بأوربا، ومسؤول عن حزب القوات الشعبية في الخارج، وناطق رسمي باسم حركة الاختيار الثوري إلى جانب المرحوم عبد الغني السرايري، الدخول سريا إلى المغرب عن طريق اسبانيا والرجوع في ما بعد إلى الجزائر.بعد أن أنهى حديثه، حدثته بصفتي مناضلا سياسيا، وكنت أتعمد التكرار، حتى يحفظ موقفي، ويبلغه على أحسن وجه، إن لم تكن معه آلة تسجيل.
وقرت في ذهنه: أنني أولا أرفض كموقف سياسي و أخلاقي الدخول بهذه الطريقة و تحفظي أبديته لكل الإخوة الذين التحقوا بالمغرب بهذه الطريقة.
ثانيا: أبلغته بأني مسؤول سياسي، والمسؤولية تتطلب مني اتخاذ مواقف دقيقة وواضحة، وكل ما يمكن لي فعله هو إبلاغ ما عبرتم عنه للتنظيم الذي أنتمي إليه.
ثالثا : لن أدخل إلا في إطار عفو ملكي معلن.. مرفوق بإفراغ السجون من المناضلين القابعين فيها منذ سنوات.
في هذه الحالة فقط، سأضع حدا للجوء، لكني سأكون من أواخر المنفيين.
توادعنا إلى اللقاء.
ناورت وزارة الداخلية بواسطة الشخص نفسه، حيث سيكلمني هاتفيا في الثالثة صباحا رفقة عبد الكريم المحمدي، وبدأ الحديث في الهاتف باقتراح أن هناك امكانية لأخذ جواز سفري من السفارة المغربية، واتجه إلى أي بلد أريد، فالجواز مضمون – يقول مسؤول وزارة الداخلية- وبما أن هاتفي مراقب من الأمن الجزائري، طلبت منه تأجيل الموضوع إلى النهار، ونتحدث.
اقترح علي الاتصال بالقنصل المغربي العمراني، في انتظاري لتسوية أوراقي الإدارية. بعد تشاور مع تنظيمي السياسي، اتجهت إلى القنصلية، مع اتخاذي الاحتياطات اللازمة، فيكفي أن أشاهد داخلا إليها لأعتقل من جديد.
استقبلني العمراني بترحاب في مكتبه، قام بالإجراءات من أجل الحصول على البطاقة الوطنية، وحدد معي موعدا بعد شهر للرجوع إلى القنصلية قصد تسلم جواز السفر والبطاقة الوطنية.
واستفسرني عن رأيي في الدخول إلى المغرب، شرحت له من جديد موقفي السابق والثابت، بأنني لن أدخل لأدع رفاقي خلفي، وأمامي بالمغرب المئات من المعتقلين…أفهمته بأن المسألة ليست ذاتية، بل موقف سياسي جماعي.
بعد شهر، أخذت الاحتياطات من جديد واتجهت صوب القنصلية لاستلام البطاقة وجواز السفر، استقبلني القنصل في الباب، شرح لي الموقف، وأبلغني بأنه استشار مع إدريس البصري شخصيا حيث قابله في المغرب، وكان قراره أنه لا يمكنني تسلم البطاقة الوطنية وبالتالي جواز السفر.
رجعت خائبا وتغير العالم من حولي. وانسدت كل الأبواب، بدأت أفكر في الهروب…ليبيا، ساءت علاقتي مع مسؤوليها.
تونس، تحضرني صورة صديقي ورفيقي في المنفى الحسين المانوزي،الهروب أيضا مستحيل. مبعوث من الرئيس الأسبق أحمد بن بلا يعرض علي خدماته باسمه إن كنت في حاجة إليها.
” فسي” أحمد – يقول المبعوث – “يطلب منك أن تقدم اقتراحات عما يمكن أن يساعدك به.. تحدث عن جواز سفر، لكني تساءلت أي جواز؟
قررت الصمود..وتجنب الدخول في مخاطرة جديدة.
لقد كان لقرار السلطات المغربية القاضي بمنعي من البطاقة الوطنية وجواز السفر أثر بالغ في مساري في ما بعد، إذ ستتعمق أزمة الثقة بيني وبين الأجهزة الأمنية لبلدي، وتشكل عندي حاجزا نفسيا دفعني في ما بعد إلى تأجيل التفكير في الدخول النهائي للمغرب ما دام ادريس البصري على رأس وزارة الداخلية.
إعداد: يوسف الساكت من منشورات الصباح
مناقشة هذا المقال