هي ورقة بيضاء مبسوطة على قدم جبل، جاء شامخا من بعيد، وانحنى خاضعا لأمواج بحر جائع يفتت صخوره ويرسم منها لوحات حجرية، مثل أسنان منشار حاد….
البرتغال يقولون أن ميرلفت هي وطنهم وأرضهم المقدسة، والحق حق، فتسمية ميرلفت هي لهم، وبعض الآثار في الساحل تشهد لهم على ذلك. بعض المغاربة المستعربين الذين يزعمون أنهم من النبلاء الذين أرسلهم الله من المشرق إلى المغربِ، يزعمون أن شريفا من وزان نزح إلى هذه الأقاصي الجنوبية الحرشاء، ووصل إلى هذه الناحية وجلب معه اللفت وأمر الناس بزرعها في الحقول الصغيرة على ضفاف وادي “إمي نترݣا”…ثم هكذا تبدلت الأحوال من “مول اللفت” إلى ميراللفت….هكذا دائما ما يخلطون الأسطورة بالذاكرة لتشويه التاريخ الحقيقي، إنهم يدخلون السوق “باللفت”…ويطمحون أكل اللحم…
الاسبان أعلنوا منذ البداية تجاهلهم وجهلهم لميرلفت، لا يحبون ذكرها وتذكرها إنهم لا يطيقون سماع حروف إسمها، واكتفوا بوضع المتاريس خلفها. أما الفرنسيس فقد وقعوا في حبها ولكن في وقت متأخر جدا، وتظاهروا بتجاهلها، للانقضاض عليها بأرخص الأثمان، يعشقونها أيما عشق ويدخلون إليها متنكرين في أزياء أقوام أخرى….
ماذا تبقى ؟
اليهود، هؤلاء يقولون أن هذه القرية يسكنها الجن. واذا كان هناك شمهروش الجبل المعلوم، فإن هذا الجن الذي يسكن هذه القرية هو شمهروش البحر، وهو الأخطر من كل أنواع الجن، فبذلك كتبوا وصية في ألواحهم المدفونة تحت الأرض بداخل ضريح لهم بقرب سيدي وسيدي بتارودانت، يوصون بعدم الدخول الى هذه القرية المسكونة، وبعض شيوخهم يوصون حتى بعدم المرور بها. واكتفوا باحتلال مرفأ “ݣرايزييم”. ..لمراقبتها أو ربما لحمايتها..
هكذا هي منذ الأزل، تحوي كل أقوام الدنيا، من دخل إليها لا يخرج، يقطن بها ويقعد لا يقوي على مغادرتها، ولا يعرف حتى مِن أين أتى لكي يعود، هي صغيرة جدا ولكنها تستوعب كل هذا الخليط العجيب من الشعوب. إلى درجة أنني سمعت هذه الأيام قصة غريبة، لسيدة أجنبية، أستسمح على استعمال كلمة أجنبية، فهؤلاء لا يحبون سماع هذه الكلمة، لأنهم لا يشعرون أنهم أجانب في ميرلفت، قصة هذه السيدة التي جاءت من دولة أوروبية، تركت عملها هناك وزوجها وأولادها، وكل شيء. وجاءت إلى هذه القرية الساحلية، وصعدت إلى جبل بالقرب منها وسكنت داخل غار، عدة أيام، وسببت مشاكل مرعبة للسلطة، وفروا لها منزلا، لا ترغب في دخوله، ذهبوا بها الى فندق ونفرت منهم، تتحدث معهم بكامل قواها العقلية، وتتشبث بمسكنها الذي اختارته بذلك الجبل المقابل مع البحر…وفروا لها حراسة خاصة، ونهرتهم عن ذلك، وهي تقول كيف تخافون على سلامتي، وانا اخترت المجيء إلى هنا بعد أن زرت وتجولت في كل أصقاع العالم، هذه الارض هي أرض سلم وهناء…ابتعدوا مني لا تخافوا علي، ابعدوا عني حراسكم أنا مطمأنة على سلامتي…أليست هذه هي ميرلفت….أليست هذه هي ميرلفت….ثم نادت على كلبها الجميل ودخلت إلى غارها…
داخل سوقها المتواضع، وبين حوانيته الصغيرة ذات الأبواب المقوسة، المصبوغة باللون الأزرق، يجلس شاب أسمر اللون ذات الشعر الكثيف المتدحرج على كثفه، على شكل عقد ملتوية، يميل لونها إلى لون الذهب، يجلس بجانب اشخاص من بلدان متعددة، يبدو أنهم من أوروبا…ولكنهم يتحدثون بالانجليزية…الشاب ابن ميرلفت وكجميع أقرانه من الشباب يتحدثون الأمازيغية والفرنسية والانكليزية والالمانية والاسبانية والايطالية، أما العربية بالكاد ينطقون بعض الكلمات التي تعلموها في المدرسة، التي تدرس لهم جميع المواد بالعربية، وبالرغم من أن الأغلبية من الشباب لا يجيدون ولا يرغبون في التدرس بها ولكنهم مرغمون ومكرهون وملزمون، لأنها لغة الدولة ولغة المدرسة….
شيخ كبير في السن، تجاوز السبعين من العمر، يسمع مجادلة ذلك الشاب مع جالسيه من جنسيات مختلفة…واثار انتباهه الكلام الدائر بينهما، حول تاريخ ميرلفت، وتدخل في النقاش بكل أريحية …وانجدب إليه شاب من انكلترا، الذي بدأ في تعلم الامازيغية، تاشلحيت كما يسمونها، واعجب الشاب الإنكليزي بكلام الشيخ…ودعاهم إلى منزله بدوار صغير بجانب القرية، يسمى تيكمي أوكليد…دخلوا إلى منزله الطيني، وقال لهم، أنظروا أبواب منازلنا دائما تبقى مفتوحة…وضحك قائلا بركات بركات …يعني مرحبا مرحبا….
جالوا في النقاش، طولا وعرضا، وأفصح لهم الشاب الإنكليزي أنه يقوم ببحث انثروبولوجي حول شعوب البحر، أو سكان السواحل…فوجد في ذاكرة الرجل كنزا لا ينضب من المعلومات، وذاكرة قوية، حول الثقافة البحرية لدى الأمازيغ، وأكد له الشيخ أن جميع المدن الساحلية في بلاد المغارب، كلها مدن أمازيغية، ولكنها تتعرض للتحولات كثيفة وسريعة جدا، على مر العصور، في القبل ومنذ الأزل، كانت الاقوام تدخل الى اليابسة عبر الماء، وكان اجدادنا الأمازيغ يمارسون التجارية عبر البحر،…فنحن نعرف البر عبر البحر، ونمارس الصيد والتجارة والملاحة ونصنع السفن ونمارس الحرب في البحر، وأول دوار هنا يسمى أفتاس…
لا نبالي بمن يقول أنه هو من بنى ومن جيء بالحضارة إلى هنا، نحن لن نسمع بذلك، لأننا نحن نعرف حقيقة تاريخنا ….
أنظروا؛ الجميع يريد ضم ميرلفت إليه، الجميع يريد أن ينتسبها إلى نفسه….ولكن نحن نعرف لمن تعود….
إنها عروستنا البديعة الجمال التي نخرجها في الصباح …يسقط الجميع في حبها وعشقها، وفي المساء نعيدها إلى بيتها…إنها كالشمس…
لن يغتصبها أحد…لأنها أسطورة جميلة …
عبدالله بوشطارت
مناقشة هذا المقال