تأُزّ الرياح كل شيء بالمدينة أزّا حتى حبيبات الرمل الدقيقة حملتها حملا لدلوك الشمس إلى غسق الليل دون انقطاع .. دون كلل.. كأنها تفتش عن شيء مهم أضاعته بشارع “أ‘حمد حيدر”، الشارع الذي يعج بالحركة عند الأصيل يمتدّ في شموخ وزهو من مدخل المدينة إلى الباب الرئيسي للميناء؛ حيث تستقبل الزائر صيحات بائعي خيرات اليم الأزرق وطيباته.
الرياح تبدو غاضبة هذه الليلة، أرغمتْ رواد مصلى “الشيخ مربيه ربّه” على استعجال السير لفيفا.. لقد انفضوا وكلًّ أحكم شدّ لثامه الأسود كي لا يطير في السماء، فترى أجسادا آدمية تترنح في “ضراعيات” زرقاء ينفخ فيها الريح من كل جانب !
الليل بدأ في عمله فأرخى السدول غير آبه بما يقع، فموعده حان.. ضمّ مدينة “طرفاية” إلى صدره كأب رؤوف يخاف على فلذة كبده لئلا تخسف بها الأرض.
تبددتِ الأنوار العمومية، إلا عمودا استبسل واستمسك مصباحه ببعض الالكترونات، كان يطلّ على زنقة “القائد با با حمد ولد يوسف” بفضول بائن، يرسل إلى الزقاق شذرات نور عساها تكسر ظلمة الرواق؛ حيث الحارس “المكي” يجوس طائفا بين البيوت الهادئة والدافئة..
على عتبة دار التاجر “عبد الصادق” المنحدر من منطقة “صبويا” قعد رجل هزيل البنية الأُربعاء وهو يذرف دموع الجوى والأسى أو هكذا يبدو. على محياه تجاعيد رسمتها المتربة والفاقة. دق الباب دقة فدقتين متتاليتين إحداهما محتشمة والأخرى مستفزة، فالجوع أمر جيوشه بالانتشار في أحشاءه الممزقة.. شعر الرجل الستينيّ بدوامة مُغيثة تضغط على هامة رأسه وتلاعب به في دوران عنيف، وحركات مزمجرة بنقرات الناقوس أشبه.
من نافذة الدار تحديدا الطابق العلوي تنفلت موسيقى رائقة وشائقة لمجموعة “السلام” الغنائية، وشعر “محمد لمين” الحساني الأصيل يجوب المكان الجميل، كأنه يحاول صد هبوب الريح الشديد في ليلة غاب عنها القمر المنير.
سمعتْ “نورا” بنت التاجر “عبد الصادق” دقات الباب، فأطلت من النافذة ونصف جسدها الضئيل متوارٍ. اصطادت مقلتيها سُحنة الرجل الهتكة فرأفت لحاله، كيف لا والبنت ترعرعت في مدينة تعلم لبني البشر كل خلق حميد. استأذنت من أبيها أن تأخذ له وجبة العشاء كاملة، فالرجل على شفى حفرة من الانهيار جوعا.
نظرتْ إلى والدها وقالت: ما بالُكَ معتصما بالصمت يا أبتي ؟
سدد التاجر نظراته إليها فابتلت عيناه دمعا ثم رد استبشارا: ونِعْم التربية يا ابنتي، لكن دعيني أحمل طبق السمك بنفسي، فالرياح قد تسرقكِ مني..
قالها بهجته المعهودة التي تتسم بميسم الرزانة وطلاوة البيان.
نزل “عبد الصادق” على مَكْث كي لا يُسقط ما بيده أرضا، كنّن الطبق بحذر كأنه يحمله إلى شخص عزيز، هاشا باشا تارة ومضطربا منزعجا طورا. فتح الباب بصعوبة، فالرياح اهتزتْ أريحتها لنشوة الهبوب مجددا. ألقى التحية على الرجل فوضع له الطبق سائلا إياه: أأنت جائع؟ !
نغَض المتوسل برأسه وأجاب بصوت يمزج بين الألم والكبرياء: ماذا يبدو لكَ؟ شبعان أنا وأستمتع بهذا الجو المكفهر؟ !
صُدم “عبد الصادق” بجواب الرجل، فاعترته نوبة عاتية وانتابه دوار عنيف، يتغلغل في ذهنه، ويداعب حلقه، حتى خُيّل له أن الدنيا تمر تحت قديمه.
صوت هذا الرجل المختبئ وراء الجلباب المهبّب يرن في أذن التاجر الشاب كالصليل، فأحس بسماء الذكريات تسقط على رأسه كِسفا. نظر إلى وجه المتسول وأمعن النظر، فبدت له عينه اليمنى تلطخت بالرماد. وحين همّ المتسول بقضم السمكة سحبها “عبد الصادق” بعنف، خطفها كعقاب أرعن ينتشل أرنبا مدحورا. كأن نشوة الشر تسللتْ إلى فواده بدون إذن ولا ترخيص، ثم رمى بالسمكة في اتجاه قطة ابنته “نورا” التي كانت تتمسح بالباب الحديدي خائفا من زفرات الريح.
فغر المتسول فاه من فرط الدهشة، ثم همس التاجر في أذنه همسا ثقيلا لم يتجمل بالصبر أبدا:
– أنا “عبد الصادق ” يا “سي سلام” أو بالأحرى أنا “لانشوبة” كما تنعتني تبّرك الله يا ظالم.. أنا من فقعت لك العين اليمنى ذات صباح شتوي بقلم رصاص حاد النصل تغلغل رأسه في بؤبؤك، حين أردت هتك عرضي وأنا مازلت صبيا، نزغك شيطانك المارد فكنتَ له وفيا.. عذبتني .. شردتني .. من لقمة العيش منعتني ومن طفولتي سلبتني كرها.. جعلت يدك مغلولة إلى عنقكَ فلم تطعمني أبدا.. تمشي على الأرض مرحا وأشبعتني التنكيل قهرا.. قتلت قطتي “ميمي” ونيسة وحدتي ولم تدعني أطعمها سمكا .. أليس الصبح بقريب بعد كل هذا السواد الذي ذقته منك يا “سلام” ؟؟
أغلق التاجر الباب .. ونورا تسأل عن مآل السمكة وصوت الحارس “المكي” يجلجل في الزقاق: هيا يا رجل ابحث لك عن مكان آخر لا تزعج الناس.. هيا تحرك.
مناقشة هذا المقال