عندما رحل الدكتور حسن السيوطي نقص العالم العربي و الإسلامي من أطرافه، وانطفأت منارة تافراوت الكبرى التي كانت ترسل إشعاعات خيرها ونورها في ربوع الكون، عندما رحل ابن أكلز انفطرت لذهابه القلوب، لكونه أحد أدمغة البحث العلمي و النبوغ التي تلألأت في زمن فقد فيه الرجال من عياره. ابن أكلز و تافراوت وركنهما الركين، وصمام أمان قيمها ومبادئها التي ترتفع بها إلى مصاف الأمم الخالدة ذات الإسهامات الكبرى في حياة البشرية.
لا أرثي اليوم رجلا عاديا أو شخصا عابرا، بل أحد رموز الأمة المترامية من المحيط إلى الخليج..
أريد فقط الوقوف عند محطة هذا الرجل اليوم بمشاعر عميقة تشتعل فيها الحسرة والألم في موقع رثاء رجل بوزن جبال الكست.. رجل بعث تافراوت التي نكلت بها وجوه الإبتدال و التغريب والتحلل ، لقد كان الدكتور حسن السيوطي يعمل ليل نهار لخدمة قضايا إنسانية و ذات صبغة عالمية في زمن العبث والهوان والردة عن المبادئ التي تكفل العدالة الإجتماعية والمعاني الإنسانية الجميلة.
الدكتور حسن السيوطي واحد من العظماء الذين أنجبتهم أكلز واملن ، ووهبتهم جينات النبوغ وحبتهم بقدرات وطاقات متميزة ارتقت بهم إلى قمة المجد وذرى العمل.
ابن أكلز هامة أكاديمية ليس ككل الرجال، ورمز ليس ككل الرموز، فما تركه الرجل الفذ بين دفتي كتاب حياته الذي تتقاطر من صفحاته المضيئة كل صور العطاء والإبداع، يضعه -حتما ودون جدال- في المرتبة الأسمى التي لا يجاوره فيها إلا نفر قليل من علماء ومفكري وقادة المغرب في الآونة الأخيرة من بالغي التفرد والتميز والإبداع، في العصر الحديث.
ربما لا يعرف البعض ممن يؤرقهم اسم هذا الهرم سيرة حياة الدكتور حسن السيوطي الذي شكل نموذجا للإصرار والمواجهة والتحدي في كل الميادين وفي مختلف الأوقات، أو يدركوا بعضا من العناوين العريضة التي بزغت في مرحلة ما من مراحل حياة الرجل التي تختزن في صحائف أعماله على مستوى ميدان تخصصه كعالم فيزياء و على مستوى مسقط رأسه من خلاله تتبعه لكل ما يدور في فلك أدرار و دعمه لكل من دق باب كرمه.
نعم بصوت يردده صدى جبال الكست الذي جعل الأسد ينحني احتراما لروح الفقيد الطاهرة أقول لكل تافراوتي حر تسري في عروقه دماء الغيرة على هذه الأرض، أن كتابة مدونات بمداد الذهب غير كافية لإنصاف روح الفقيد الذي نهل من بحر المجد والفخر، على إيقاع مراحل حياته من أجل خدمة بلدته ووطنه و العالم الإنساني بكامله.
لقد مثل الدكتور حسن السيوطي مدرسة فكرية كبرى متكاملة الأبعاد والزوايا، وموسوعة سياسية شاملة طبعت بصماتها المؤثرة في كل مكان، وتركت آثارها العميقة في حياة بلدته ووطنه ومن زامنوه و خير شهادة على ذلك إطلاق اسمه على الجناح العلمي لجامعة الحسن الثاني عكس أبناء بلدته الذين تعمدوا تناسيه بلا وعي و لا إدراك.
لا تنبع أهمية ودور ومكانة الدكتور حسن السيوطي فقط من مواقعه الهامة التي تقلدها طيلة حياته كعضو لجمعية المهندسين النوويين المغاربة و كأستاذ باحث في عدد من الجامعات في مختلف بقاع المعمور و حضوره لعدد المنتديات العلمية على مستوى القارة حيث سجل مواقف المملكة المغربية الثابتة بخصوص الوحدة الترابية إضافة إلى حضوره الوازن في المنتدى الدولي للمناخ بإشراف من هيئة الأمم المتحدة و حضوره التاريخي في نسيج العمل الجمعوي البناء و الهادف لأملن قبل استعلاء الخيزران في ثنايا المكان على كل مفردات وتفاصيل الحياة المدنية وشؤون المجتمع المدني التافراوتي، بل إن الدكتور حسن السيوطي اكتسب أهميته ومكانته أكثر ما يكون كعالم فزياء نووية ومفكر فد على مستوى العالم ككل.
فحسب رواية من زامنوه كان رحمه الله لا يؤمن بالقبلية و القطرية المحلية، كان برزخا منيرا يدافع عن حقوق وقضايا المستضعفين وفي مقدمتها كرامة المواطن الأملني و التافراوتي، حضوره كان يؤرق أصحاب الطرح البراغماتي، كان رحمه الله صاحب رؤى وحلول ومشروعات حضارية تتجاوز عناصره ومكوناته وتأثيراته الفضاء الجغرافي لأدرار إلى آفاق أكثر رحابة و اتساعا…..
لا تقتصر حياة الدكتور حسن السيوطي على المواقف الصلبة والقدرات الفكرية و الجمعوية و السياسية الباهرة، بل إن رجل العلم و البحث والفكر امتلك مرونة دبلوماسية مدهشة صقلتها التجارب والخبرات، ليشكل شخصية بديعة ذات ملامح ومكونات متكاملة توجت بكاريزما ذاتية وحضور لافت لا يختلف في جدارتها وأهليتها أحد.
من الصعب رثاء هامة كبرى كهامة الذي أفنى حياته في سبيل نصرة قضايا إنسانية وإعلاء شأن مسقط رأسه و بلدته الأم، وأعطى تافراوت الكثير و الكثير من الفكر التحرري لذا لم يكن مستغربا أن تفتح جبهات الحرب على الرجل نيرانها من كل حدب وصوب، وأن يكون قرار إقصاء إطلاق اسمه على مرفق من المرافق حاضرا على الدوام في كل المراحل والمحطات.
فحين نتحدث عن علاقة الدكتور حسن السيوطي بتافراوت نتحدث عن علاقة عضوية عقدية مصيرية لا انفصام لها، وحالة من حالات التجذر العميق في الوعي الفكري والثقافي والسياسي الذي يتأسس على رؤية شمولية ذات آفاق رحبة تدرك أبعاد الهوية الأمازيغية الخلاقة و المبدعة و المتميزة. وحقيقة مخططات عزل ذاكرة المجتمع التافراوتي عن قلبها النابض و المتمثل في رجالاتها كالدكتور حسن السيوطي و محمد خير الدين حتى لا تعي أن العمل لهذه الأرض وإنقاذها من براثن الهشاشة اجتماعيا و فكريا و بنيويا.
عاشت القضايا الكونية في روح وعقل ووجدان المرحوم الدكتور حسن السيوطي، فكان لها سندا وداعما وظهيرا ونصيرا أينما حل أو ارتحل، حتى غدت صنوا لقضايا بلدته الأم، ولحنا شديا تعزف حروفه وتطرب لأنغام في كل المحافل إلى أن قضى نحبه و هو في طريق عودته من مهمة أممية .
اليوم، تفتقد تافراوت كثيرا الدكتور حسن السيوطي الذي بصم في تاريخها حينا من الدهر، وزرع بذرة النهوض الواعد للطرح الأكاديمي في الوطن بكامله.
لكن ما يثير الغرابة أن أملن التي شرفها المرحوم الدكتور حسن السيوطي كواحد من أبناءها الوازنين تعزف اليوم على وتر التغاضي و التناسي اتجاه قامته الفذة و النظيفة، غير الملوثة بأدران الكذب والخداع و التضليل.
أعرف أن مغادرة هذا الهرم لها وقع كبير و لها مضاضة قاسية، لكن ما يؤلم الجوانح هو تناسي أبناء منطقته له، و عدم تفكيرهم في تكريمه أو تخليد اسمه، لكن ما يجب أن يفهموه أن المرحوم خرّج أجيالا من الباحثين النجباء والدارسين النبلاء الذين سيرفعون راية العزة والكرامة والحرية عاليا، وسيحملون على أكتافهم مهمة تكريمه و تخليد اسمه، مثلما كرمه آخرون غرباء عن بلدته و مسقط رأسه.
رحل الدكتور حسن السيوطي وغاب عن مشهد الحياة بصمت، وانطوت صفحة حياته، لكن فكره المبثوت في ثنايا المجلدات العلمية في كافة أرجاء وربوع الأمة ما زال متأججا يافعا يحمل الراية ويقود المسير.
خسرت تافراوت الكثير برحيل الدكتور الذي لم تتح لي فرصة لقاءه ، وفقدت رمزا من أوفى وأصلب وأكبر وأعظم رموزها على مر العصور ..
المرحوم الدكتور حسن السيوطي جسد حقيقة نجوميته وانتمائه وقضايا أبحاثه ليس عبر اسمه المجرد، بل عبر مسيرة حياته العامرة وتاريخه الحافل الذي لم يعرف يوما معنى التردد والتراجع أو الخور والانكسار.
اسم الدكتور أكبر من المساومات لأن فكره المحفور في ذاكرة البحث العلمي و تخصص الفيزياء النووية،و في قائمة العلماء الذي قضوا نحبهم صحبته من جنسيات مختلفة في كافة أرجاء وربوع العالم الإنساني سيبقى متأججا يافعا يحمل الراية ويقود المسير إلى حيث المجد والسؤدد.
عبد الرحيم/أ
فلترقد روحك بسلام.
مناقشة هذا المقال