تأملات ابراهيم عفيف .
….وتستمر الوقفة التأملية التي خصصناها لمناسبة وطنية سنوية يحتفل بها وفق طقوس فنية واجتماعية نوعية. بعد إتمام الاستعدادات الخاصة بتزيين الساحة ” أسايس” بالأعلام الوطنية، وبصور جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله وولي عهده آنذاك سيدي محمد وصنوه الشريف مولاي رشيد…. المصابيح الملونة التي كانت تثير إعجاب الأطفال الصغار تكون معلقة على طول الساحة …يتم تهيئ فضاءات الساحة، بتحديد أماكن الجلوس الخاصة بكل فئة من فئات المدشر، فالجميع يشارك في هذه الحفلة…صغارا وكبار، نساء ورجالا وشيوخا….تــــوضع لوازم إعداد الشاي بالقرب من العمود الذي يتوسط الساحة….مجمر طويل ومقراج نحاسي منتصب كأنه طاووس، وصينية باريزية ” كما كنا نسميها” بها كؤوس وبراد كبير ….المكلف بالمهمة، يتجه بخطوات ثابتة للمكان المخصص له….رحمك الله يا ددا جامع….إنها لحظات حاسمة قبيل انطلاق الحفلة الرسمية. المكلفون بالتنظيم وتنسيق فقرات الحفلة الرسمية على أتم الاستعداد ….في ركن من الساحة تستمر الاستعدادات من نوع خاص…..فرقة رقصة أهياض المحلية تعد العدة….
خلال ما تبقى من هذه الوقفة سنركز على هذه الرقصة، لندخل إلى أعماقها الدلالية والرمزية…وننبش في خباياها ووظائفها الاجتماعية خلال هذه المناسبة الوطنية الغالية، وكذا خلال باقي المناسبات الاجتماعية والعائلية بالدوار….فمعلوم أن الشعوب الأمازيغية في القرى والحواضر، هي شعوب حضارة وقيم ، أو بتعبير آخــــر هي شعوب تتميز بحضارة القيم….ولعل أبرز قيمة معروفة على أهل القرى، ومنهم أهل قريتي، قيمة العمل الجماعــــي التضامني…هذا البراديغم الاجتماعي المسمى محليا “تيويزي ” Tiwizi ، يكون حاضـــرا طيلة الموسم الفلاحي عبر كل العمليات: الحرث، الحصاد ثم الدرس…كما رأينا سلفا….مظاهر الاحتفالات العائلية والاحتفالات الخاصة بالمواسم السنوية inmuggarn وبالمناسبات الوطنية وعلى رأسها عيد العرش المجيد، ليست استثناء إزاء هذا البراديغم الاجتماعي …الاحتفال الجماعي التضامني يكون حاضـــرا بقوة من خلال رقصة أهياض Ahyadd التي تعتبر عمودا فقريا لأنشطة الاحتفالات المحلية…فهذه الرقصة العريقة التي يؤديها رجــــال القرية بشكل جماعي متناسق ومنتظم، تدخل ضمن مكونات فنون أحواش التي تختلف من منطقة لأخرى (أتمنى من عشاق هذا الفن ان يمتعونا عبر تفاعلهم بأبجدياته عندهم/ سي محمد ننتظر تفاعلك) …رقصة لها مبادؤها وأساسيتها الفنية والاجتماعية، عكس التوجـــه الذي يفضل تصنيفها ضمن الفلكلور، وهي لن ولن تكون كذلك…إنها فن أصيل يتم وفق قوانين وطقوس خاصة، ذات دلالات عميقة …….
تبدأ الحفلة بإجراءات تنظيمية معهودة ومعروفة لدى الجميع…كنا نحن الأطفال ننتظر كثيرا تلك الفقرة التي يقدم فيها بعض رجال القرية مسرحية محلية الإنتاج والإخراج والتشخيص…كان السهل الممتنع عنوانها الأبرز….كل الأنظار تترقب دخــــول فرقة أهياض، التي تتشكل من ثلاثة أصناف من الموسيقيين: صنف العازفين الذين يتوسطون الساحة، وهم بو العواد و بوتالونت وبوالناقوس …..وصنف إمهضرن Imhdrn أي فرقة الرقص التي تتألف من أمهر رجال القرية في المجال ….يتموقعون دائما في الوسط بينما الأطراف تترك غالبا للمبتدئين ….وكم كان الجميع يتمنى أن ينال شرف المشاركة….الصنف الثالث هو مايسترو الفرقة أو ” أمريس” ….قائد الفرقة الذي يأتمر الجميع بأوامره…بإشارة يدوية منه يتحرك الجميع إلى الأمام وفق إيقاع موحد ….وبإشارة أخرى يضرب الجميع برجلة اليمنى تارة وباليسرى تارة أخرة…وبإيحاء ذكي منه يبدأ الجميع بالـــــرش” التصفيق الإيقاعي”….في انسجام تام مع العزف الصامت للموسيقين الثلاث….لما كنت صغيرا، كنت أستمتع كثيرا حينما يتولى شخص عزيز على قلبي هذه المهمة، المرحوم ددا عمــــر أحد رجالات البلدة المحبوب لدى الجميع، رحمك الله يا ددا عمر ورحم جميع رجالات بلدتي العظماء…..في ركن بعيد، يقوم شخصان بتسخين الدف ” تالونت” التي كانت تصنع من جلد المعز…وترتفع حدة صوتها كلما كان الجلد ساخنا ومتمددا أكثر، إنه درس فيزيائي آخــــر يتم بتلقائية….ما أروع صوتها بعد تبديلها ….
….ترتفع حرارة أسايس بارتفاع وتيرة الرقصة….حينما تبدأ الجلابيب البيضاء للراقصين تختلط مع أغبرة الساحة وترتفع أصوات الزغاريد في ركن من أركان أسايس ….يحس الجميع بنشوة الانتصار والفخر وبفرحــــة داخلية لم أكن أجد لها تفسيرا واضحا…إحساس جميل مازال صداه في أعماق ذاكرتي ….
هنا أنهي هذا الجزء الثاني من وقفة اليوم…على أن ندخل غذا بحول الله إلى الأعماق الدلالية لهذه الرقصة، وإلى مختلف الدروس والعبر التي تتحقق من خلالها وعبرها…
إلى تأمل آخـــر، أرجــــو لكم ليلة رمضانية كلها أحاسيس إنسانية …. إلى لقاء آخر بحول الله
يتبع….
إبــــــــراهيم عفيف استاذ مفتش تربوي وفاعل جمعوي .
سوس ماســـــة
11/05/2020
مناقشة هذا المقال