…. وتستمـــر الرحلة التأملية، مع وقفة إنسانية أخـــرى تسائل المجتمع بكل مكوناته، لارتباطـــها الوثيق بكرامة فئة من أبناء وبنات هذا الوطـــن، ولارتباطها بالحاجة والفقر وقلة ذات اليد …سنقف جميعا للتأمـــل آملين أن يسأل كل من هو معني بموضوع اليوم، بشكل مباشـــر أو غير مباشر، نفسه إزاء التجليات الظاهرة وتلك الخفية للظاهرة….
ليس منا من لم يسمع يوما عن قصة عاملة منزلية، أو “الخدامة” كما هو متعارف على تسميتها، تمت الإساءة إليها من قبل مستخدميها، أو تم تعذيبها لسبب أو لآخـــر. فمثل هذه الأخبار ليست سرا أو شيئا يقال لأول مـــرة…إنها جزء من واقــــع مر….نعم، هناك عـــاملات في مختلف الفئات العمـــرية اضطررن لمغادرة البيب الأبــــوي صوب “المجهول أحيانا”…عاملات وافدات من أوساط قروية فقيرة، القاســــم المشترك بينهن هو الحاجة والفقر ….فعوض التسول أو سلك طـــرق أخرى أكثر خدشا للكرامة الإنسانية، تجد أســرا لا حول لها ولا قوة تفرط في فلذات أكبادها بإرسالها للعمل في منازل لا يعلم ما يقع بداخلها إلا الله عزوجل، سواء لرعاية الأطفال أو للقيام بأعمال البيت الروتينية أو للاعتناء بفرد من أفراد الأسرة المستقبلة….نعـــم، العمل ليس عيبا ولن يكون كذلك….لكن حينما يتم وفق شـــروط تحترم كرامة الإنسان، وتحسسه بكونه أدميا حــرا. أمـــا حينما تجعل منه شخصا يعيش تحت رحمة وأهواء مشغله فذاك شأن آخـــر…. طبعا، إيماننا بالتفكير النسبي إزاء كل أمر نتحدث بشأنه يلزمنا أخلاقيا وقيميا ألا نعمم…ونحن دوما لا نعمم، لأن الناس ليسوا ســـواء، فمنهم من تجده أكثر رحمة من أقرب الناس إليك…. وهذا هو النموذج الذي نتمنى أن نصـــل إليه في مجتمعنا ليحس كل منا أنه مع أهله وأحبابه في أي موقف كان….
حديثنا التأملي سيكون حول الفئة الأخــــرى من البشر عديمي الشفقة والرحمة، الذين ينظرون إلى تلك العاملة نظرة فيها ريح الاستعباد ولو بشكل مقنع، فكل مـــرة أسمع عن واقعة تهم فئة العاملات داخل البيوت….وما أكثر ما سمعت وقرأت في هذا الشأن، كلما أحسست بأن هناك خلل قيمي وخلل في علاقاتنا الإنسانية….أتساءل مع نفسي: هــــل يظن، حقيقة، من يهين فتاة قروية مسكينة جاءت بها الظروف القاسية لخدمته هو وأسرته أنـــه إنسان سوي؟…..هل سبق لمن يقدم على إهانة فتاة مسكينة غادرت مكرهة حضن أسرتها، تاركة جرحا نفسيا في قلب أمها وفي قلب أبيها….وجرحا يتسع يوما بعد يوم في قلب وفؤاد أخواتها وإخوتها …..قلت هل سبق له أن طرح سؤالا افتراضيا على نفسه بشأن إمكانية أن تكون ابنته مكان تلك المسكينة في منزل آخـــر؟…..هـــل فكر بأن كل إنسان يجـــر وراءه كرامته وكرامة أهله وكرامة قبيلته، وأن الكرامة شيء لا يعوض بكل أمـــوال الكون…..هل فكـــر من يسئ لهذه الفئة وتأمل في أفعالـــه التي تنسبه أكثر إلى صنف بعض الحيوانات، وتبعده بأميال عن صنف بني البشر….
ظاهرة يتدخل فيها ما هو نفسي وما هو اجتماعي وما هو ديني وما هو قانوني وأخلاقـــي…يصعب جدا حلحلتها أو القضاء عليها بمجرد الحديث عنها، أو بمجرد إصدار قانون ينظمها….فهناك قانون يحدد شروط الشغل والتشغيل المتعلقة بالعاملات والعمال المنزليين ( قانون 19.12)، الذي أثار الكثير من الجدل إبان صدوره، وأسال الكثير من المداد في موضوع السن، والمرحلة الانتقالية الضابطة له (المادة 6)….على أي تناول هذا الموضوع من خلال هذه الوقفة التأملية لن يذهب أكثر في تحليل القانون ومعه مختلف الاتجاهات والتوجهات، المؤيدة منها والمعارضـــة…حديثي التأمل حول إنسانية الإنسان إزاء هذا القانون وغيره…فالإنسان، في نظــــري، إضافة إلى ما تنص عليه مختلف القوانين الصادرة عن مؤسسات الدولة، عليه أن يسن بينه وبين نفسه قانونا إنسانيا يعامل بمقتضاه أي إنسان آخـــر، معاملة أدمية فيها الرفق والرحمة واستحضار الكرامــــة التي لا تباع ولا تشترى في الأسواق، ولا تعوض حينما تفقد….وليعتبر كل من وجد نفسه محظوظا وفي وضعية ميسورة أن ذلك مجرد منة ونعمة من الله تعالى، وليس بذكائه أ و بجهده. فكما كان ميسورا، من المحتمل جدا أن يكون فقيرا….ومن المحتمل أن ينقلب عليه المـــركب في أية لحظة فيتحول من حال إلى حال… ماديا أقصد….وتبقى الكرامة الإنسانية لا تمس ولا تتغير إن عرف كيف يحافظ عليها في أي موضع وجد…يبقى الإنسان إنسانا بقدر احترامه للإنسان الآخر وتقديره له وعدم التكبر عليه بمبرر واه يعتمد مستوى العيش معيارا….
تجنب التوقف العميق عند البعد القانوني من خلال القانون سالف الذكـــر، ليس انتقاصا من قيمة هذا المدخـــل الأساسي لمواجهة الظاهرة، لكـــن المقاربة التي اخترتها لهذه التأملات هي التي حتمت ذلك. فمدخــــل مخاطبة ذلك الإنسان الخير الكامن بداخل كل منا أراه مناسبا ومنسجما مع نهج التعاطي مع المواضيع الإنسانية المخطط لها خلال هذه الرحلة. وتبقى المقاربة القانــــونية، من قبل الجهات المختصة أمــــرا أساسيا وضروريا في أي مجتمع وإزاء أي خرق أوتجاوز…..
رسالتي التأملية، التي أتمنى أن تصـــل لكل إنسان معني بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر بالظاهرة موضوع التأمل….عامل تلك الخادمة المسكينة كما تحب أن تعامـــل فلذة كبدك الوحيدة…فبقدر سموك الأخلاقـــي ستنال الدرجات العلى في سلم الإنسانية، فالإنسان كما قال الفيلسوف كانط (1724-1804) هو الكائن الوحيد الذي يمكن أن نسند إليه قيمة مطلقة هي الكرامة la dignité….ودمتم للإنسانية قائمين….
إلى تأمل آخـــر، أرجــــو لكم ليلة رمضانية كلها أحاسيس إنسانية …. إلى لقاء آخر بحول الله
في إطار تأملات،
يــــــومكن ويومكم سعيد صديقاتي واصدقائي
ليليات رمضانية في ظل الحجر الصحــــي
رحلة التأملات في أعماق بحر الإنسانية
إبــــــــراهيم عفيف استاذ مفتش تربوي وفاعل جمعوي.
سوس ماســـــة
02/05/2020
مناقشة هذا المقال