أرشيف المعذبين
إن تاريخ 17 يونيو 2019 ، سيبقى مرسوما إلى الأبد في التقويم الأليم للمسيرة الإنسانية المضطهدة ، إنه أرشيف المعذبين ، عجبا كيف للتاريخ أن تصطف على عتباته أسماء المعذبين في الأرض، كيف تخنق الكلمة الحرة وتوأد شرارة الثورة في مهدها لتسرق من ملهميها ، كيف للتاريخ أن يتعثر وللحكاية أن تختصرعلى جنبات رابعة بدم متخثر ممزوج بوحل الانقلاب عن الشرعية وحكم العسكر.
من يظنون أن بالقتل ستكون آخر الخطوات على الأرض ، مخطؤون . كان لا بد للمنفى ، لشنق الفكر وشق الطريق عن المعبر . وفي المنفى والسجن تكثر الانتهاكات والظلمات في زيف لكل الشعارات . لن تحفلوا كثيرا بمراسيم الدفن والوداع ولا داعي لنثر الخبز وراءهم ليهتدوا بفتاته حين يرجعون ، إنهم يحفظون الدرب عن ظهر قلب ، إنهم الشهداء بحياتهم وأرواحهم فداء للوطن .
بأي لغات الأرض أكتبك ، أيتها الخيبة ، أيتها الفاجعة ، أيتها القهرة المستمرة على جنبات التاريخ . أيتها الفتاكة ، المارقة ، طاحونة القتل ، الأبدية ، الخرقاء .
كيف لهذا الوجع ، أن تضمده كذبات التاريخ وتموهه شطحات المعتد وتمتصه حركات المستنقع وتفسره حكايات المقفع .
أهي فعلا ” نهاية التاريخ ” كما قال فوكوياما ، أم بوصلة التاريخ تتغير . أم أنه انفصال الوعي عن الوجود وسقوطه في العدم ، أم أن الشر متأصل في الإنسان والعنف متجدر على قول حنة أرندت .
كيف من خلعوا عنه شرعيته ، أن تسترهم خيمة وتحميهم بندقية ويختبؤون تحت مظلة أممية .
ألا يعلمون أن هناك انتقامات إلاهية؟
قال لهم : ” لن نترك غزة وحدها ” .
قالوا له : تلزمكم سنوات طويلة لكي تعرفوا معنى الكرامة والنخوة وسنوات أطول لتألفوا الخيبة أيها العرب .
قال لهم : ” لا تقتلوا أسود بلادكم ، فتقتلكم كلاب أعدائكم ” .
قالوا : الأسود ، جلها دجنت ومن ارتفع زئيرها ، قتل ، والباقي قابع في السجون .
قال لهم : بايعتكم أن أصون هذا الوطن ، أن يملك إرادته ، أن ينتج غداءه ، ودواءه وسلاحه.
قالوا له : الوطن مشمع من زمان باللون الأحمر ، ومكتوب على بابه ” ممنوع على كل الوطنيين الأحرار ”
قال لهم : ” أطلقوا الرصاصة إذن ، إنكم لن تقتلوا إلا رجلا ”
أليس هذا ما قاله تشي جيفارا لقاتله ، المرتعشة يداه ، المرتعدة فرائصه
إنهم الأسود ، الحالمون بالتغيير ، المنتسبون للفقراء ، يموت الرجال ، وتبقى روحهم فكرة ، ترعب العدو . فزاعة ، تخيف الظالمين .
غريب أيها التاريخ ، ثمة أبواب ، نأتيها كل نوبة حنين ، طامحين أن نطرقها بأنامل عشق أبدي للحرية والكرامة والعدالة ، وحين نجدها موصدة ، نكبرعلى عتباتها ونشيخ دفعة واحدة ، وحدها الذكريات والمحطات تخبرنا أن خلف الأبواب ، أشياء جديرة بالتضحية والإنتظار ، وأناسا جديرة بالاحترام .
أكيد أن وداعك أيها الرئيس الشرعي ، لهذه الحياة القذرة ، كانت بابتسامة عريضة على المهزلة ، فكل العظماء والشهداء يرحلون مبتسمين أقوياء ، من صدام ، لتشي جيفارا .
رسالة تحد للجلاد ، عنوان قتل الصورة لا الرمز ، الجسد لا الفكرة .
ألم يرفض صدام ، عند تنفيد الإعدام ، وضع القناع ، في حين ، وضع جلادوه الأقنعة ، فالأقوياء يرهبون حتى وهم على المشانق يعدمون .
عندما ما أعدم صدام ، أعدم معه الزعيم والقهرمان ، القومي و العربي الأبي ….
وعندما قتل تشي جيفارا رميا بالرصاص ، الرجل الثوري ، الرجل ” البطل ” الذي نذر نفسه للفقراء . ألم يحاولوا طمس حقيقة الرجل وتفريغ نضاله من جوهره الاجتماعي ليصير صورة إعلامية سطحية ، هذا هو القتل الرمزي وتلك هي الإمبريالية العالمية .
هؤلاء يستحقون الحياة بعزة ، يستحقون الموت بكرامة والخلود بروح كل الفقراء المظلومين ، في كل حروبها الطواحين ، موشومين بدماء التضحية في كل صفحات التاريخ .
عذرا ، أيها الرئيس ، فالشرعية لم تعد تساوي شيئا في مزاد المتآمرين والخائنين والانقلابيين ، في زمن التافهين . فأنا والغريب على أخي وأنا وأخي غريبان ، هكذا أصبحنا كلنا غرباء.
عفوا أيها الرئيس ، فموتك انتصار ورفضك عنفوان وصوتك قهار ، اخترق الجدران وأربك بلدان الجوار. مهما حاولوا أن ينتزعوا عنك كرامتك ليقولوا لك : كم أنت جدير بالذل والهوان .
كان جوابك ، صرخة من سجنك ، حكمة على لسانك ، نصرة لدينك ، هبة من روحك ، قوة من إيمانك ، دعوة مظلوم تنتظر استجابة العلي القدير ، لتقول لهم :
” إن الوطن عشق ، مبدأ ، قضية وعنوان ”
خديجة الدباغ
مناقشة هذا المقال