في خصم تتبع “عوتو” لخدمات “الما بعد ” في زمن الكورونا لم يكن باله منشغلا بغير آخر العنقود في أسرته النووية ..”البكاي” ذو الثماني سنوات في قسم الثالثة ابتدائي….لما صدر الإعلان عن قرار إغلاق المؤسسات التعليمية في إحدى ليلي منتصف مارس حيث كان في حانة النبيذ الرخيص مع رفاقه يناقشون التحالفات التكتيكية والاستراتيجية في أفق 2021، هاتف زوجته ليخبرها بالقرار…التقط الصوت طفله “البكاي” الذي كان قريبا من سماعة الهاتف وهو يتطاير فرحا ويلح على والدته أن تسألني مرة أخرى إن كان الخبر صحيحا…لما تأكد بصدقية الخبر صرخ في سماعة الهاتف ” Yes ” ..Yes ..أو ليست هذه ال ” Yes ” شعارا لمجتمع السرعة والاتكالية ومتعة استهلاك أخبار النجوم في الفن والرياضة والدين وإلغاء لثقافة وروح الجهد.؟…لا أدري …
الخبر صحيح…المؤسسات التعليمية تحررت كما تحررت الشوارع والأزقة من تثاؤب البشر في لحظة سميت بلحظة الطوارئ الصحية…المدرسة الرقمية أو التعليم عن بعد…هكذا هندست الكورونا لمنظومتنا التعليمية أن تعتمد التعليم عن بعد أو ما سمي بضمان الاستمرارية البيداغوجية عبر الوسائط الرقمية…
هاتف ” عوتو ” النقال المعطوب في زمن الأوبئة والأعطاب، يتلقى يوميا عبر تقنية ” الواتساب ” الدروس والتمارين بعضها كتابي وبعضها الآخر عبارة عن أشرطة فيديو…لا بأس طالما أن هناك مجهود يبذل في زمن الحصار والتباعد…رغم أن هذا المجهود غير موزع بعدل ويظل أطفال الهامش مقصيين من تذوق ثماره المرة مرارة الحنظل…
علاقة عوتو بآخر العنقود “البكاي ” تغيرت جذريا في زمن الحجر “الصحي”…تدفق الحب بينهما الى درجة أنهما تآمرا على أن لن يناما إلا أواخر الليل ويستيقظان زوالا…” منانة أم “البكاي” تستشيط غضبا من هذا التواطؤ غير المعقول وغير “التربوي”…لكنها في قمة غضبها تعلو ملامح ابتسامة وفرح على وجهها الجميل لما تسترق السمع وتستمتع بالبيداغوجية المدوية ل”عوتو” وهو يجاهد من أجل تبسيط الدروس وإنجاز التمارين لطفله المدلل ” البكاي” كأنه يلقي خطبة وسط حشود منبهرة من صوته المبحوح لكنها لا تسترق السمع الى ما يقول… الجميل أن ” البكاي ” رغم صراخ ” عوتو ” كان يشعر بمتعة غريبة تتجاوز كل حواجز وقواعد التمدرس المؤسساتي…وكثيرا ما شعر ” البكاي ” بالغبن أمام عجزه عن فك بعض تمارين القراءة والتكنولوجيا والنشاط العلمي ..الصمت وغياب شجاعة البوح ينتجان بكاء مفعم بدموع التماسيح…
يسال عوتو ” آخر العنقود : لماذا تبكي؟…لا يجيب…. البكاي اسم على مسمى؟ ” إنك تشبه التمساح لأن دموعه متدفقة على الدوام ولا تعني بالضرورة أن قلبه ينفطر رحمة وشفقة !… قد يلتهمك التمساح وهو في قمة بكائه يا طفلي الصغير؟…لهذا سأدعك تنتهي من وجبتك “البكائية ” ثم نعود الى الاستمرارية البيداغوجية ! …
يستمر العراك بينهما وينامان بشكل متأخر. ولما يأويان الى الفراش يلتصقان ببعضهما البعض في زمن المسافات …أنداك فقط يسأل “البكاي ” والده “عوتو” : لماذا تناديني يا أبي ب ” تمساح كورونا” ؟…
مقولة لصاحب المقال من أجل كسر حالة الطوارئ الثقافية.
” الكتابة تصالح مع لحظة الحجر الصحي وتجاوز لها في نفس الوقت…البوح ” التلقائي” استفزاز للمشاعر ” الجامدة ” لفيروس كرونا كي يخرج من جحره. سنظل نكتب ونبوح حتى تخرج من عالمنا أيها العابر “الهجين ” في دروب “عولمة ” عابرة…..”.
مناقشة هذا المقال