وجهة نظر في حدث أو خبر. لا اخفي على الجميع، تلاميذ ومدرسين واباء وامهات، ما يخالجني من مشاعر متناقضة ازاء المعدلات العالية جدا التي يحصل عليها ابناؤنا وبناتنا في امتحانات الباكلوريا. مرة يغمرني الفرح والارتياح للمستوى الجيد الذي تعبر عنه معدلات تقارب 20/20، والتي تعني في علم التقويم التربوي ان الحاصل على كذا معدل قد حقق كل اهداف العملية التعليمية/ التعلمية، وانه صار على قدر عال من الكفايات المعرفية والمنهجية والتواصلية تؤهله لان يلج اشهر الجامعات والمعاهد العليا. واذا كان الامر كذلك، فلا حق لنا بعد اليوم التباكي على المدرسة المغربية، بل يجب ان نعتز بمخرجاتها ونطمئن لحالتها، لانها صارت وفق هذه المعدلات مشتلا للعباقرة، ويحق لنا التشكيك في كل التقارير التي وضعت نظامنا التعليمي في رتب متاخرة على الصعيد العالمي. ومرارا يغمرني الاسى والاسف لما تتيح لي الحياة فرصا للوقوف على المستوى الفعلي للحاصلين على الباكلوريا ولطلاب وطالبات بجامعاتنا وقد حصلوا على الاجازة بدرجات مشرفة جدا. لا اريد التعميم، ففي كل تعميم تجني، لكن حالة الضعف المعرفي والتفكير المنطقي والتعامل المنهجي لدى كثير من هؤلاء واولئك حقيقة لا سبيل لانكارها، وهي موضوع حديث كل المهتمين بالشان التعليمي ببلادنا.
في ما مضى لم يكن يحصل على العلامة 16/20 الا الجهابذة القادرين على تدبيج انشاءات فلسفية وادبية متينة لغة ومحتوى، او على حل مسائل رياضية وفزيائية بالغة التعقيد، وكان الحاصلون على لوحة الشرف فقط قادرون على متابعة دراساتهم العليا بتفوق، وقد كان المتفوقون رواد الجامعة التي كانت مشتل النخب العلمية والفكرية والابداعية والسياسية. اما اليوم فاننا اصبحنا امام وضع معكوس تماما. نسبة الناجحين في الباكلوريا تتجاوز 60% ( اكثر231 الف في الدورة الاولى هذه السنة)، بلغت نسبة الحاصلين على ميزة ما 51,46%. هي ارقام هائلة تطرح على المسؤولين اسئلة جديرة بالتفكير، من قبيل: الى اي حد تعكس هذه المؤشرات المستوى الحقيقي، معرفيا ومنهجيا وتواصليا، للحاصلين على الباكلوريا؟ ما هي المسارات المستقبلية الممكنة والمحتملة لهؤلاء الناجحين؟ وما هو المطلوب لاستثمار هذا الراسمال البشري المهم في ما يخدم تقدم البلاد ونماءها بدل تبديده في مسارات لا افق لها؟
في ما يتعلق بصدقية العلامات التقييمية، اكاد اجزم انها مبالغ فيها بالقياس للكفايات الحقيقية للتلاميذ الحاصلين على الباكلوريا. يستند هذا الحكم الى عدة قرائن مستمدة من الواقع العيني والتجربة الشخصية، وان كانت بحاجة الى افتحاص علمي دقيق. اولها انطباعات كثير من المدرسين والاساتذة الجامعيين انفسهم عن المستوى المعرفي والمنهجي لعموم التلاميذ والطلبة، انطباعات سلبية في جل الاحيان. ثانيها انني وبحكم اجراء مقابلات مع عدد مهم من طلبة كليات الآداب والعلوم الانسانية المترشحين لممارسة التدريس، اكتشفت النقص المعرفي، المريع احيانا، سواء تعلق الامر بالقواعد العامة للغة، فرنسية كانت ام عربية، او بالمخزون الثقافي، او بالقدرة على التواصل، ناهيك عن القدرة على الانتاج والتحليل والتركيب.
بخصوص السؤال الثاني، لا بد من الاشارة الى ان الاعداد الهائلة والمتزايدة للحاصلين على الباكلوريا سنة بعد اخرى يشكل تحديا حقيقيا بالنسبة للمؤسسات الجامعية ذات الولوج المحدود مثل كليات الطب والصيدلة ومعاهد التعليم العالي ومدارس المهندسين. فهذه المؤسسات جميعها لا تستقبل الا اعدادا محدودة جدا (4 الى 5%). امام هذا العجز يضطر بعض الطلبة الميسورة اسرهم الى التوجه الى مؤسسات التعليم العالي الخصوصية بالمفرب وبالخارج، في حين يضطر السواد الاعظم الى ولوج الجامعة مكرهين لا ابطال. وهكذا اصبحت الجامعة الملاذ الاخير لمن لم تسعفه قدراته المعرفية او المالية لولوج كليات الطب والهندسة والمدارس العليا ومراكز التكوين المختلفة، ففقدت بذلك كثيرا من قيمتها المعنوية وتوهجها المعرفي. ومما فاقم تدهور التعليم الحامعي غياب قواعد تضبط شروط ولوج شعبة من الشعب وعدد الطلاب في كل شعبة، مما ادى الى نوع من الفوضى والعبث من مظاهرهما ان الحاصل على باكلوريا علمية يمكنه ان يتسجل في شعبة العربية او الانجليزية او القانون، وانه يمكن لطالب رسب في شعبة ما ان ينتقل الى شعبة اخرى ثم اخرى. فهناك من الكلبة من تجول بين الشعب والكليات لعقد من الزمن وغادرها دون ان ينال اية شهادة. انه واقع صعب ومعقد لا يساعد على تجويد العمل الجامعي القادر على انتاج باحثين ومبدعين ومشاريع مفكرين. في البلدان المتصدرة للترتيب العالمي للانظمة التعليمية عالميا لا تستقبل الجامعة اكثر من 15% من الحاصلين على الباكلوريا، في حين تتجه الاغلبية لمؤسسات التكوين المهني العالي والمتوسط. معضلة الاكتظاظ التي تشكو منها جامعتنا وما لها من تداعيات سلبية على المردود الكمي والنوعي تقتضي، في ما تقتضيه، تطوير مؤسسات التكوين المهني العالي والمتخصص من حيث البنيات والتوسع المجالي والرفع من مستوى التكوين النظري والتطبيقي قصد تفادي الهدر الكبير للطاقات الشابة التي هي عماد التنمية.
تجاوز هذه المعضلة لن يتحقق الا في اطار اصلاح جذري للمنظومة التربوية التكوينية يستجيب لغايات النموذج التنموي الجديد، والذي يعتبر التعليم والتكوين والبحث العلمي من دعاماته الاساسية.
عبدالسلام الرجواني فاعل سياسي و استاذ جامعي وباحث في علوم التربية.
مناقشة هذا المقال