في إطار نوستالجيا الذكريات الجميلة للزمن الدهبي لجيل الستينات والسعبعينيات والتمانينيات القرن الماضي يرجع بنا الصديق والأستاذ ابراهيم المرابط عبر تدوينته بشبكة التواصل الاجتماعي ولأهمية ما يكتبه لحفظ الذاكرة نحن كإدارة الموقع نعيد نشر هذه التدوينات بعد اخد الادن منه ،مع إحداث بعض التعديلات البسيطة على الشكل وليس المضمون وهذه قصة اليوم حول العنوان اعلاه :
كانت الشقة التي يكتريها الطبيب عادل صغيرة، غرفتين و مطبخ وحمام. كانت الغرفة الداخلية فارغة إلا من بعض الصناديق الكرتونية التي تحتوي على بعض الكتب الطبية و ملفات و أشياء أخرى. في ركن مجموعة من الأحذية الرياضية، مازالت تبدوا جديدة. إشتراها من متجر بلقاس المحادي لسينما الباهية، ناويا أن يبدأ في الركض كل صباح. إلا أنها لم تستعمل إلا مرتين أو ثلاث. وفي الغرفة الأخرى, فراش النوم على أرض مكسوة بموكيط بني فاتح، مقابل الفراش تلفاز صغير من نوع Sanyo, و وحدة فك ترميز الأقمار الصناعية من نوع Ecostar. حقيبة سوداء في الركن الأخر.
شكله وهو نائم منكمش على جسمه ككومة صغيرة ينمي على الشفقة.
استيقظ عادل قافزا على وقع قرع قوي على الباب. غادر السرير بكسل. توجه إلى الباب، فجأة لاحظ أنه في ملابسه الداخلية. عاد إلى الغرفة، فتح الدولاب و أخرج “فوقية” تيزنيتية بيضاء كان يرتديها عندما كان يرتاد المسجد كل جمعة في أيامه الأولى بالمدينة. إتجه إلى الباب و سمع صوت الممرض العربي، صديقه يناديه: دكتور عادل!!
فتح الباب و عيناه لا تستحمل الضوء الآتي من الخارج. دعاه للدخول و جلسا إلى طاولة پلاستيكية في فناء الشقة الصغيرة. كان على الطاولة علبة من سجائر مالبورو، ولاعة، محفظة النقود و مفاتيح بحامل مكتوب عليه Laprophane، أهداه له أحد وكلاء بيع الأدوية عند زيارته يوما في المستشفى.
عاتبه العربي: “أش هادشي أصاحبي؟” ما هذا يا صاحبي؟ لماذا لم تلتحق بالعمل اليوم؟ المدير مستاء منك وربما سيقدم تقريرا عن غياباتك المتكررة. كان الدكتور حسن التلمودي، مدير المستشفى يعزه كثيرا في بادئ الأمر، إلا أن سلوك عادل بدأ يتغير. و غياباته المتكررة خلقت انزعاجا لدى المرضى. سكت عادل لحظة ثم قال، مليكة يا صديقي… هل رأيتها البارحة في الفندق.
أي مليكة؟
السيدة التي جالستها البارحة بالمطعم.
وبعد؟
أنت تعرفها، لقد قدمتها لي يوما و طلبت مني أن أوليها عناية خاصة!
أنا لا أعرفها. طلبت مني ذلك لأنها أكرمتني بورقة خمسين درهما لكي تفحصها قبل الآخرين. قالت أنها مستعجلة.
لا تعرفها؟؟!!!
لا.
قالت لي أنها تعمل بملهى الفندق!
قهقه الممرض و قال: ماذا؟ تعمل بالفندق؟ هل رأيت كم تصرف من النقود عندما تكون هناك؟ توزع الوجبات و المشروبات على الحضور بسخاء. رأيتها مرتين أو ثلاث. سمعت أنها تنزل في فندق إدو تيزنيت و أنها تملك سيارة فارهة. لا أحد يعلم أي شيء عنها. وبعد؟
لقد أغرمت بها صديقي.
خلينا من لعاب ديال الدراري الصغار. نوض دوش و سير شوف السي حسن راه شاعل!
زادت حالة عادل تعقيدا بعد هذا النقاش مع الممرض. تخلطت الصور في دهنه. فمن تكون إذا؟؟
مرت الشهور و زادت حالة عادل تعقيدا، نفسيا و عمليا. أصبح يرتاد حانة تالعينت كل يوم و يحكي جرحه لكل من يلتقي هناك من رجال التعليم و حرفيين و المتقاعدين من الديار الفرنسية الذين يجدون في ذلك المكان نفحات من الماضي تذكرهم بساحة ڤولتير الشهيرة.
بعد تقارير متعددة، جاءه الأمر بالعزل المؤقت إلى أن يمر بالمجلس التأديبي بالمندوبية الجهوية للصحة.
زادت حالته المادية سوءا. أجرته لم تعد تكفي لتغطية مصاريفه الكثيرة.
طلب منه الداموح أن يغادر الشقة لأنه لم يسدد 5 أشهر من الكراء. إدمانه على تالعينت يأخد منه كل أجرته. كان يأكل قليلا و يشرب كثيرا.
شعر الحاج العربي الممرض بالأسى لحال هذا الشاب، فأسكنه في غرفة صغيرة في مزرعة يملكها في جنانات تارݣا. كانت غرفة بسيطة بدون ماء أو كهرباء. كان العربي يستعملها لاستدراج بعض ضحاياه من النساء.
مكت عادل هناك مدة إلى أن جاءه العربي يوما ليخبره أن ملفه قد حل وأنه ربما سيعود إلى مهنته شريطة أن يلتقي بشخص في أݣادير. قال له أنه توصل بمكالمة هاتفية في المستشفى لكي يخبره بلقاء مهم بفندق Atlas Amadil. هناك غرفة حجزت باسمه وعليه أن يحضر في اليوم الموالي.
أستقل عادل سيارة الأجرة المرسيدس العجيبة مع 5 ركاب. لم يأبه إلى من معه. مرت الرحلة بسرعة. كل ما كان يفكر فيه ثلاثة أشياء، مليكة، عمله و ابوه الحاج عبد السلام الذي لم يزره لشهور ولم يعد يرسل إليه بعض النقود كما كان يفعل عند بداية عمله.
وصل الطاكسي الكبير الأخضر اللون في مستوقف الطاكسيات بساحة الباطوار، أشار إلى طكسي صغير برتقالي اللون و طلب من السائق أن يتجه إلى الجهة السياحية لمدينه أݣادير. فندق أماديل بيتش المشهور. تقدم إلى موظف الإستقبال، أدلى ببطاقته الوطنية، و أخبره أن هناك غرفة حجزت بإسمه. بعد لحظة، ابتسم الموظف الأنيق بلباسه الإيطالي الجميل و ربطة عنق حمراء من الحرير.
طلب منه أن يملئ بطاقة خاصة بالفندق وأشار إلى حامل الحقائب
أن يدله إلى غرفته. لم يكن يحمل حقيبة. أخبره أن شخصا ينتظره على العشاء على الساعة الثامنة في المطعم الفاسي الفاره على الطاولة رقم 7.
إنتظر حامل الحقائب من الضيف أن يمده ببقشيش كالمعتاد، إلا أن عادل تجاهله لأنه لا يملك إلا سبعون درهما المتبقية من ورقة مئة دىهما التي أعطاها إياه العربي للحضور إلى الموعد.
تفحص عادل الغرفة. كانت راقية. غرفة فندق من تصنيف 4 نجوم. فراش رائع، تلفاز، حمام بكل لوازمه و شرفة تطل على شاطىء أݣادير الخلاب.
على الساعة السابعة و خمسون دقيقة، طلب من المسؤول عن المطعم أن يدله على الطاولة رقم 7، فاصطحبه. كانت القاعة غاصة بالسياح، أغلبهم ألمان.
جلس إلى الطاولة، نظر إلى حوله ليستكسف المكان. كانت موسيقى جميلة توحي بهدوء رائع.
سمع صوتا ارتج له بدنه يقول له. عادل مرحبا بيك، رفع عينيه ليرى السيدة مليكة. وقف قلبه للحظة ثم قال مرحبا. جلست إلى الطاولة و ابتسامة عريضة على محياها. قالت له: توحشناك! كان لهذه الكلمة وقع جهنمي على قلبه.
وضعت حقيبتها اليدوية على الطاولة و كومة من المفاتيح. كان حامل المفاتيح أسودا و يحمل شعار سيارات المرسيدس الحذيثة العهد. قال بارتباك: إوا هادي مفاجئة! ههههه
كانت ضحكته ضعيفة و مرتعدة.
تبادلا الحذيث. استمتعا بعشاء لذيذ من اختيارها. وطلبا قهوة سادة في الأخير.
قرر عادل ألا يشرب هذه الليلة. أراد أن يعرف كل شيء عن هذه السيدة الغريبة التي أحبها بكل جوارحه.
سألها عن غيابها فأجابت: الظروف. كما يقول الستاتي الفنان. مرت الساعات و هو يحكي لها كم غيرت حياته. وكم يتمنى أن يتزوجها و يعيشا في سعادة. طلب منها أن تتطلق من الجندي وأنه سيعود إلى مهنته وأنه سيعود كما كان. عادل الأنيق، الجاد و المحترم.
أجابته: إكون خير. غدا سنكمل النقاش. ارجوا أن تعذرني. أنا منهكة و غدا سنكمل النقاش إنشاء الله.
عاد عادل إلى غرفته سعيدا كطفل صغير. نام و هو يحلم بها وبحياة جديدة.
في الصباح الباكر، وجدها تنتظره في مطعم الأطلنتيك الخاص بوجبة الفطور. تناولت الوجبة، ثم قالت، سأنتظرك في السيارة في مرآب VIP.
عاد إلى غرفته، ارتدى سترته و أحد المصعد نزولا بسرعة. تفقد المرآب ولمح سيارة سوداء فاخرة من نوع ميرسيدس. ابتسمت له. فتح الباب واتخد مكانه بجانبها.
قالت له: أولا سآخدك لزيارة أبيك. حشومة! شحال هادي!
ابتسم وهو يهم بتركيب حزام السلامة.
انطلقا في الطريق، هي تسأل عن حاله و هو يجيب. وصلا إلى الرباط. وقفا للحظة. تناولا وجبة الغداء ثم انطلقا إلى طنجة. كانت السيارة فاخرة. كانت يديها المكتنزتين على المقود تغري فعلا. كانت تنتعل حداء عالي الكعب، و رغم ذلك كانت تسوق بحرفية. لا تأبه إلى إشارات تحديد السرعة. كان محرك السيارة الألمانية قويا ويطوي الطريق بانسيابية.
كان الشيء الذي شد انتباهه على لوحة القيادة، صورة سيدة في الأربعين تشبه مليكة و خاصة في العينين. سيدة نحيفة الملامح تغطي رأسها بوشاح أسود. سألها عن الصورة، فأجابته. هذه صديقة عزيزة سرقها الزمان و أحتفظ بذكراها.
دخلا مدينة طنجة على الساعة السادسة مساء. جزىء من الشمس مازال يصارع المساء. توجها إلى طريق تطوان. صمت عادل عن الكلام لأنه عاد إلى عالم كان يسكنه. لم يعرف لماذا هذه السيدة تعلم كل شيء عن ماضيه. أصبح ينظر إلى ما حوله و يحاول أن يسترجع الذكريات.
وقفت السيارة أمام ثانوية ابن حيان. نظر إلى باب الثانوية فوجده مختلفا عما كان عليه. لكن على الرصيف الآخر، مازال هناك دكان با حمو الذي كان يشتري من عنده سندويتشات من الخبز الأبيض و التونا. كان با حمو يبيع السجائر بالتقسيط للتلاميذ رغم تهديدات بعض الآباء و رجال الشرطة. كان با حمو لا يأبه لذلك لأنه كان بنفسه يتعاطى الكيف على طول اليوم.
ترجلا من السيارة و اتجه إلى المحل. متمنيا أن يجد با حمو. إلا أن وراء الكونطوار امرأة في الثلاثين من عمرها. عندما سألها عن با حمو قالت أنه توفي من سرطان الرأة، وأنها ابنته أصبحت تدير الدكان.
عاد إلى مليكة و سألها عن سبب الوقوف في هذا المكان.
أجابته. هل تتذكر يوما توصلت برسالة من تلميذة معك في الصف؟ عاد عادل إلى ذكرياته فتذكر أنه يوما و هو في السادسة ثانوي، الآن نسميها الأولى بكالوريا. توصل برسالة من تلميذة عبر صديق. هذه التلميذة كانت تعبر له عن إعجابها به كإنسان، و كانت تود أن تتعرف عليه عن قرب.
قال نعم، أتذكر. كانت إحدى التلميذات من شعبة الآداب تريد أن نتعارف. فضحك مستهزئا.
قالت تلك التلميذة هي أنا. أحببتك وأنا طفلة، كان الإعجاب طفوليا.
كنت تلميذا مثابرا و دكيا كنت في السنة السادسة ثانوي علوم رياضية. كلما لمحتك عيناي اهتز قلبي. أردت فقط أن أتعرف عليك. لكن رسالة جوابك في رسالة قصيرة على ورقة دفتر مدرسي.
كتبت بالحرف: أنت لست في مستواي. أصلا أنت أدبية و هذا يعني أنك قليلة الذكاء. لا أصاحب الأغبياء. أظن أنك كتبت الرسالة وأنت مع شلة من أصدقاء. رأيتكم تدونون الرسالة أمام محل باحمو و مددته لمريم ابنة بواب الثانوية. كنتم تقهقهون وأنتم تكتبون تلك الحروف. توصلت بها و مازلت أتذكر. حطمت كل ما كنت أحلم به. نعتتني بالغبية فأقسمت أن أحطمك. عشت لهذه المهمة. غادرت الدراسة بسببك، رفضت أن أعود إلى كراسي الثانوية لأنك زرعت في نفسي روح الفشل. آمنت بتلك الجملة. أدبية فاشلة. تمنيت آنذاك أن أكون علمية و أكون مثلك، عبقري يحضى بامتنان و ثناء الأساتذة. كنت مراهقة أعجبت بشاب و حطم أحلامها. عانيت لسنوات. اشتغلت في المخابز والمقاهي. كل يوم أسمع والداي يعاتبوني لأنني غادرت فصول الدراسة، ولكن لم يعلموا يوما لماذا.
كنت السبب في تعاسة أمي. كانت دائما تتمنى أن اتمم دراستي وأصبح موظفة. تلك الصورة التي رأيتها في السيارة كانت لها.
أقسمت أن أن أنتقم منك يوما. هاجرت إلى إسبانيا. اشتغلت في حرف عدة. عدت إلى طنجة و بنيت ثروة. وكنت أنت دائما هدفي، لكي أنتقم.
تراجعت عن فكرة تحطيمك، لأن الأمر لا يستدعي ذلك. أريدك فقط أن تعلم شيء. تعلمت أشياء كثيرة عن الطب و ما جاوره. إلا أن الحياة أكبر من ذلك. و الفوز والنجاح صديقي في العطاء. إن لم أعجبك أو لم تحبني، لا تجرحني و لا تحطمني.
عادت إلى سيارتها. فتحت الباب بروية. أدارت المحرك القوي وانطلقت.
هناك وقف عادل الطبيب مشدوها، في وسط طنجة و 70 درهما في جيبه.
.
ليلتكم هادئة.
على أمواج أݣلو!!
مناقشة هذا المقال