Atigmedia
المصداقية والدقة في الخبر

اليات المقاربة التشاركية على المستوى الترابي، الاكراهات وسبل التطوير.

بقلم الدكتور الرشدي الحسن، باحث في الشأن الترابي
السياق العام
ادى فشل المقاربة المعتمدة في تدبير الشأن العام الترابي المبنية على الاشتغال من أجل المواطن وجعله مفعولا به واعتماد التدبير العمودي في اتخاذ القرار، واحتكار الجماعات الترابية لكل مراحل اتخاذ القرارات التنموية، ووجود بعض المشاريع التي لم تراعي اولويات وحاجيات المواطنين – كل هذه الاسباب ادت – الى التفكير في ايجاد بديل لهذه المقاربة وتقليص تبعاتها السياسية وحتى التنموية، وبدأ التفكير في تبني مقاربة تشاركية تضع المواطن في مركز الاهتمام وتقوي مشاركته في صناعة القرار، وبالتالي الانتقال الى التدبير الافقي للشأن العام المحلي المبني على منطق الاشتغال مع المواطن ومشاركته.
وكانت اول اشارة قانونية في اشراك المواطنين والمواطنات في مسلسل اتخاذ القرار مع القانون 17.08 المعدل للميثاق الجماعي سنة 2009 الذي ادرج المقاربة التشاركية على مستويين :
إحداث “لجنة المساواة وتكافؤ الفرص”، ذات طابع استشاري وتتكون من ممثلین عن الجمعیات ومن فعالیات تنتمي للمجتمع المدني، تبدي الرأي وتقدم اقتراحات.
إقرار منھجیة تشاركیة لوضع المخطط الجماعي للتنمیة.
ثم جاء دستور 2011 كمرجعية اساسية للمقاربة التشاركية وترسيخ مشاركة المواطنين والمواطنات في كل مراحل اتخاذ القرارات العمومية نذكر منها :
الفصل الأول من الباب المتعلق بالأحكام العامة ینص على ما یلي”یقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنھا وتعاونھا، والدیمقراطیة المواطنة والتشاركیة، وعلى مبادئ الحكامة الجیدة، وربط المسؤولیة بالمحاسبة.”
الفصل الثاني عشر الذي نص على مساهمة الجمعيات في اعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية وكذا في تفعيلها وتقييمها.
بالإضافة الى مجموعة اخرى من الفصول التي تنص على احداث هيئات ومؤسسات للتشاور وضمان الحقوق المكرسة للمشاركة كالحق في تقديم العرائض والحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع …
دون اغفال المقتضیات الدستوریة الخاصة بالجماعات الترابیة خصوصا الفصل 136 الذي ینص على أن التنظیم الجھوي و الترابي یؤمن مشاركة السكان المعنیین في تدبیر شؤونھم، والرفع من مساھماتھم في التنمیة البشریة المندمجة والمستدامة، و الفصل 139 الذي أتى بآلیتین للمشاركة المواطنة على المستوى الترابي :
تضع مجالس الجھات، والجماعات الترابیة الأخرى، آلیات تشاركیة للحوار والتشاور، لتیسیر مساھمة المواطنات والمواطنین والجمعیات في إعداد برامج التنمیة وتتبعھا.
یُمكن للمواطنات والمواطنین والجمعیات تقدیم عرائض، الھدف منھا مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله.
الى جانب الدستور أتت مجموعة من النصوص القانونية لتنزيل هذه المقاربة وهي عبارة عن ادوات المشاركة، واول ملاحظة في هذا الشأن أن هذه الآليات منظمة بقوانين تنظيمية وهذه مسألة جد مهمة على اعتبار ان القوانين التنظيمية تصنف في منزلة موالية بعد الدستور الذي يسمو على جميع أصناف التشريعات، لكونها وُضعت لتكون مكملة له، وبالتالي فآليات المقاربة التشاركية حظيت بمكانة مهمة في النظام القانوني المغربي، ومن أهم هذه الآليات :
القانون التنظيمي رقم 44.14 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم العرائض الى السلطات العمومية
القانون التنظيمي رقم 64.14 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع
القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات (بابين، الأول خاص بالآليات التشاركية للحوار والتشاور، والثاني بشروط تقديم العرائض)
القانون التنظيمي رقم 112.14 المتعلق بالعمالات والاقاليم (بابين، الأول خاص بالآليات التشاركية للحوار والتشاور، والثاني بشروط تقديم العرائض)
القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات (بابين، الأول خاص بالآليات التشاركية للحوار والتشاور، والثاني بشروط تقديم العرائض)
ونميز في هذا الإطار بين الآليات التشاركية المعتمدة أمام السلطات العمومية “الحكومة والبرلمان” والمعتمدة أمام الجماعات الترابية – وهنا يجب على الفاعلين المدنيين ان يميزوا مجال تدخل كل هذه الاجهزة حتى يتمكنوا من ضبط اليات وأدوات المشاركة – وسنركز على أدوات المشاركة على مستوى الجماعات الترابية (اهم هذه الأدوات، الاشكاليات المتعلقة بها، مقومات نجاحها)
اولا : ادوات المشاركة على المستوى الترابي
هي الآلیات التشاركیة المختلفة التي احدثها الدستور وتم تنزيلها في القوانين التنظيمية للجماعات الترابية قصد ضمان مشاركة السكان في اتخاذ القرار. ونميز هنا بين ثلاث مستويات للمشاركة :
الهيئات الاستشارية
الآليات التشاركية للحوار والتشاور
حق تقديم العرائض
غير أننا سنخوض فقط في الآليتين المتعلقتين بالهيئات الاستشارية والآليات التشاركية للحوار والتشاور، ولن نتطرق الى تقديم العرائض التي سنخصص لها مقالا اخر في قادم الأيام.
الهيئات الاستشارية
بالنسبة للهيئات الاستشارية هناك ثلاث هيئات يجب احداثها على مستوى الجهات وفق المادة 117 من قانونها التنظيمي التي تنص على أنه : تحدث لدى مجلس الجهة ثلاث هيئات استشارية :
هيئة استشارية بشراكة مع فعاليات المجتمع المدني تختص بدراسة القضايا الجهوية المتعلقة بتفعيل مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع.
هيئة استشارية تختص بدراسة القضايا المتعلقة باهتمامات الشباب.
هيئة استشارية بشراكة مع الفاعلين الاقتصاديين بالجهة تهتم بدراسة القضايا الجهوية ذات الطابع الاقتصادي.
اما بخصوص العمالات والاقاليم فتحدث مجالسها هيئة استشارية بشراكة مع فعاليات المجتمع المدني تختص بدراسة القضايا الاقليمية المتعلقة بتفعيل مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع، ويحدد النظام الداخلي للمجلس تسمية هاته الهيئة وكيفيات تأليفها وتسييرها. ونفس الشيء بالنسبة للجماعات مع ملاحظة أن هذه الأخيرة حدد قانونها التنظيمي تسميتها “هيئة المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع”.
ويهم مجالات المشاركة بالنسبة لهذه الهيئات : التصميم الجهوي لإعداد التراب (وهي وثيقة مهمة تهدف إلى وضع اطارا عاما للتنمية الجهوية المستدامة والمنسجمة ويحدد بموجبها الاختيارات المتعلقة بالتجهيزات والمرافق العمومية الكبرى المهيكلة ومجالات المشاريع الجهوية وبرمجة اجراءات تثمينها)، وبرنامج تنمية الجهة وبرنامج تنمية العمالة او الاقليم وبرنامج عمل الجماعة (وهي برامج تحدد بدقة المشاريع والانشطة التي تعتزم هذه الوحدات الترابية انجازها في ترابها لمدة ست سنوات وهي اطار مرجعي لأي تدخل يهمها) وأي قضية تدخل ضمن اختصاصات الجماعة الترابية المعنية.
الآليات التشاركية للحوار والتشاور
أما الآليات التشاركية للحوار والتشاور فيتضمن كل واحد من القوانين التنظيمية للجماعات الترابية مادة تتأسس على أحكام الفقرة الأولى من الفصل 139 من الدستور، تنص على أن المجالس المنتخبة تحدث آليات تشاركية للحوار والتشاور لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برامج التنمية أو برامج العمل وتتبعها طبق الكيفيات المحددة في النظام الداخلي لكل جماعة ترابية على حدة.
غير أن هناك خلط كبير بينها وبين الهيئات الاستشارية (السالف ذكرها) ما جعل العديد من الجماعات الترابية لا تحدث هذه الآليات، خصوصا وأن هذه المواد لم تحدد بدقة هذه الآليات هل هي لجان موضوعاتية أم استشارية أم هيئات … أم الأمر يتعلق بورشات وجلسات … بل الملاحظ أن هناك تحريف لهذا المقتضى ويتم خلق الهيئات الاستشارية على اساس اليات تشاركية للحوار والتشاور، في حين أن الأمر يتعلق بآليتين مختلفتين ويتضح ذلك اكثر في الانظمة الداخلية النموذجية التي وضعتها وزارة الداخلية حيث نجد الهيئات منفصلة عن هذه الآلية، فهذه الاخيرة اعتبرتها هذه الانظمة لقاءات عمومية مع المواطنين والمواطنات والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين وجمعيات المجتمع المدني لدراسة مواضيع عامة تدخل في اختصاصات الجماعة الترابية المعنية والاطلاع على ارائهم بشأنها، وكذا اخبار المواطنات والمواطنين بالبرامج التنموية المنجزة أو الموجودة في طور الإنجاز.
ثانيا : الاشكالات العملية المتعلقة بهذه الآليات
رغم التنصيص الدستوري على المقاربة التشاركية كمقاربة مهمة في تدبير الشأن العام وتنصيصه على آليات تنزيلها مع احتفاظها بنفس المكانة في المنظومة القانونية بالتنصيص عليها في قوانين التنظيمية، الا أن الممارسة الفعلية تثير الكثير من الإشكالات نبرز أهمها :
ترك المشرع كيفية تأليف وتسيير الهيئات الاستشارية تحددها المجالس المنتخبة في انظمتها الداخلية، وهذا يحد من فعالية وجودة تركيبتها، كما أن هذه الأنظمة لا تحدد بشكل دقيق كيفية التسيير، وبالتالي من الافضل ان يكون كيفية تأليف وتسيير هذه الهيئات عن طريق نص تنظيمي، وذلك من أجل توحيد الفئات المكونة لها، وطرق تسييرها وتدبيرها حسب صنف كل جماعة ترابية حتى تتماشى مع مقتضيات القوانين التنظيمية من جهة، وضمان استقلاليتها من جهة اخرى.
تم تسمية هذه الهيئة بالنسبة للجماعات، في حين ترك المشرعة تسمية الهيئات المتعلقة بالعمالات والاقاليم والجهات تحدد في النظام الداخلي لمجالسها، ما نتج عنه تعدد هذه التسميات، ونجد بعض الجهات سمت هذه اللجان بتسميات فضفاضة لا تعبر عن مجال تدخلها، وبالتالي يجب تسمية هذه الهيئات في القوانين التنظيمية كما هو الشأن بالنسبة لهيئة المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع للجماعات.
لم يتم تحديد اختصاصات ومجالات هذه الهيئات بدقة، وان كان تم التنصيص على انها تقوم بدراسة القضايا المتعلقة بالمساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع، واخرى بالقضايا المتعلقة بالشباب والقضايا الجهوية ذات الطابع الاقتصادي، الا انه لم يتم تحديد مجالاتها وحدودها، ومدى الزامية عرض هذه القضايا على هذه الهيئات للاستشارة قبل عرضها على اللجان وقبل مناقشتها واعتمادها من طرف المجالس. وبالتالي يجب تحديد هذه العلاقة في القوانين التنظيمية أو في النص التنظيمي، حتى لا تبقى هذه الهيئات صورية فقط، (فالعديد من هذه الهيئات في العديد من الجماعات الترابية لم تجتمع منذ تشكيلها)
عدم توفر هذه الهيئات على وسائل وامكانيات ملائمة من اجل الاضطلاع بالمهام الموكولة لها، فهي هيئات بدون عنوان، بمعنى لا تتوفر على مقرات محددة تخصص لاجتماعاتها كما لا تتوفر على موارد مالية للتسيير أو على الاقل تعويضات لرؤسائها قصد التنقل والمشاركة في المناسبات المهمة.
ترأس الهيئات من طرف اعضاء المجالس المنتخبة وهذا يحد بشكل كبير من استقلاليتها ومن جودة منتوجها، فلا يعقل ان يكون رئيس الهيئة هو نفسه عضو في الجهة أو الجماعة ؟ لهذا يجب التنصيص على تنافي العضوية في الهيئات الاستشارية والعضوية في المجلس المنتخب، ووضع مسطرة دقيقة لتشكيل الهيئة ومعايير انتقاء اعضاءها.
ولكي تحقق هذه الآليات مهمتها في تنزيل المقاربة التشاركية فيجب توفر مجموعة من المقومات الأساسية.
مقومات نجاح الآليات التشاركية :
تحقق الآليات التشاركية اهدافها عندما تمتد في الزمان وتصبح مسلسلا سياسيا مستمرا ومتدرجا. فهي ليست موسمية او انتقائية، وبالتالي فالمقوم الأساسي الأول يتجلى في مبدأ الاستمرارية، فهذه الهيئات لا يجب ان تشتغل لفترات متقطعة أو موسمية، بل يجب التنصيص على الزامية استشارة هذه الهيئات كلما كانت هناك نقطة في جدول أعمال الجماعة الترابية تهم مجال الهيئة، وذلك حتى تشتغل هذه الهيئات باستمرار.
المقوم الثاني يتجلى في توفیر المعلومات للسكان من أجل ضمان مشاركة مناسبة، وهو ما يمكن اعتباره الحق في المعلومة، وفي التجربة الفرنسية مثلا نجد أن المشرع وضح بشكل دقيق هذه المسألة، حیث ینص في الفصل 2141 من المدونة العامة للجماعات الترابیة على ما یلي : إن حق سكان الجماعة في حصولھم على المعلومات المتعلقة بقضایا الجماعة وفي استشارتھم حول القرارات التي تھمھم، و الذي لا یمكن فصله عن التدبیر الحر للجماعات الترابیة، ھو مبدأ جوھري للدیمقراطیة المحلیة. ویمارس ھذا الحق بغض النظر عن المقتضیات الجاري بھا العمل و لاسیما تلك المتعلقة بإشھار أعمال السلطات الترابیة و كذا بحریة الولوج إلى الوثائق الإداریة.”
وفي المغرب هناك قانون الحق في الحصول على المعلومة، ويميز في هذا القانون بين المعلومات التي يجب على الادارة ان تنشرها تلقائيا دون الحاجة الى مطالبة المواطنين بها، كما ان القوانين التنظيمية للجماعات الترابية تنص على مجموعة من المعلومات التي على الجماعات الترابية ان تضعها رهن اشارة العموم بل وتجبر الرئيس على اتخاذ كافة الاجراءات اللازمة قصد ايصالها للعموم منها وثيقة الميزانية والقوائم التركيبة المتعلقة بتنفيذ العمليات المالية.
واخيرا فالمقاربة التشاركية الحقيقية تحقق مزايا عدة من أهمها تقوية المواطنة المحلية وتعزيز الانتماء الترابي للمواطنين بل وتغرس فيهم قيم المواطنة الحقة وتجعلهم يتملكون المشاريع التي تنجز، كما تحقق هذه المقاربة مطابقة النفقات العمومية والحاجيات التي يعبر عنها المواطنين وبالتالي تفادي انجاز مشاريع لا تستجيب لحاجيات ومتطلبات الساكنة ولا ترقى الى مستوى تطلعاتهم.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.