بقلم: الحـسن بنبل.
لم يكد يجف مداد أقلام الصحافة الوطنية الذي سال بغزارة عن فاجعة السيول التي ضربت مساء يوم الأربعاء 24 يوليوز 2019 منطقة “إجوكاك” بإقليم الحوز، والتي راح ضحيتها 15 شخصا (11 امرأة و3 رجال وطفل ) كانوا على متن سيارة للنقل المزدوج تطَلّب انتشال جثتهم من تحت الأوحال والأتربة ما يقارب اليومين من الحفر، حتى فوجئنا بفاجعة أخرى لا تقل مأساة وضراوة عن الأولى، إنها فاجعة “ملعب تزيرت” التي وقعت مساء يوم الأربعاء 28 غشت 2019 بجماعة إمي نتيارت بإغرم إقليم تارودانت، نجم عنها وفاة 7 أشخاص أغلبهم من المسنين.
وتَكْمن أوجه التشابه بين الفاجعتين أن كلتيهما وقعت في عز الصيف
( يوليوز وغشت)، وفي نفس التوقيت واليوم، فكلاهما وقعت مساء يوم الأربعاء، وكلتيهما ناجمة عن كارثة من الكوارث الطبيعية هي الفيضان الناتج عن تساقطات رعدية غزيرة بالمناطق المجاورة التي أسفرت عن ارتفاع منسوب مياه الشعاب والمجاري المائية مما أدى إلى سيل ضخم جارف. غير أن فاجعة “ملعب تزيرت” تميزت بتوثيقها لحظة بلحظة بواسطة كاميرات هواتف الحاضرين منذ بدايتها إلى نهايتها المفجعة، وفي منطقة تعج ثقافتها على غرار باقي المناطق المختلفة بالمغرب، بأمثال وحكم شعبية وأشعار توصي بعدم الاستهانة بالواد، ومن بين هذه الأمثال التي تحذر من وقوع مثل هذه الفاجعة :
– “أَسِيفْ أُورَايْفَّالْ أَيْدَانْسْ مْقَارْ نِيكَا تَاسُوتِينْ” بمعنى أن الواد لا يفرط في ملكه ومجراه ولو مر على غيابه حِقبا من الزمن.
– “كِيغْدْ إِنْكِي وَاسِيفْ أُورِيسِينْ أُورْتِي نْطَالْبْ” بمعنى أن الواد إذا اشتد سيله لا يعرف بستان إمام المسجد، فهو يجرف كل شيء في طريقه.
– ولعل الشاعر المرحوم الدمسيري هو من قال في إحدى قصائده:”كُلُّو الْمُجَرِّبِينْ أيِّوِي وَاسِيفْ” بمعنى أنه لا يجب العبث مع الواد وكل من يعبث معه أو يجاريه يجرفه معه.
ويبدو أن هذه الأمثال المعروفة وغيرها من الأقوال المأثورة التي تنبه من خطورة الواد إذا حمل، قد تسلل إليها النسيان، إن لم نقل الإهمال، ذلك أن الحاضرين بجميع أطيافهم شبابا وكهولا وشيوخا الذين حضروا لمتابعة المباراة، كلهم استهانوا بالواد الذي بدأ بسيل بسيط هادئ يشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة، وكان بإمكانهم مغادرة المكان بكل بساطة دون وقوع خسائر بشرية، ولكنهم اختاروا صعود البناية والبقاء فوق سطحها ليراقبوا مشهد الواد ويلتقطون له صورا وفيديوهات غير آبهين بالخطر المحدق، وما هي إلا لحظات حتى وجدوا أنفسهم محاصرين من كل جهة بسيل جارف لا مفر منه ولا ملاذ سوى الاستسلام لقضاء الله وقدره، فحلت الكارثة أمام أنظار الحاضرين الذين عجزوا عن تقديم يد المساعدة، مكتفين بالصياح والصراخ والتكبير والتهليل، في جو سيطر عليه الهلع والفزع.
وأمام هذا الحدث الجلل، تعالت أصوات الحقوقيين ومختلف الفاعلين من كل حدب وصوب تطالب بضرورة معاقبة المسؤولين عن هذه الفاجعة، موجها كل حسب رأيه وتحليله أصابع الاتهام لجهات مختلفة، فلمن يا ترى سنحمل المسؤولية ؟
– نبدأ برئيس جماعة “إيمي نتيارت” الذي نفى في تصريح له لوسائل الإعلام أية علاقة للملعب بالجماعة التي يترأسها، وصرح أنه لم يتم تقديم أي ترخيص لبنائه، وحمّل كل المسؤولية للساكنة والفاعلين المدنيين بـ”تيزرت” بشراكة مع جمعية إيمي نتيارت، التي سمحت ببناء ملعب في مكان يعرف بين الفينة، والأخرى فياضانات متكررة، حسب قوله.
– جمعية تزيرت للتنمية والتعاون التي تُشرف على الملعب وتسهر على ترميمه، هي كذلك لن تتحمل المسؤولية، فالملعب كان موجودا منذ سنين عديدة، ومن المؤكد أن هدف الجمعية كان نبيلا تمثل في الإشراف على هذا المتنفس الرياضي الوحيد لإسعاد شباب المنطقة، ولا وجود لأي مكان بديل آخر لإقامة الملعب غير هذا المكان المنبسط بالوادي، وهناك العديد من الملاعب أنجزت على هذه الشاكلة بعدة مناطق ذات التضاريس المماثلة، والجميع يعلم أن الملعب ستغمره المياه لا محالة إذا امتلأ النهر، ظانين حتما أن الواد مهما حمل فلن يتسبب في أية خسائر بشرية، فلا يعقل أن أحدا سيلعب الكرة في الوحل تحت هطول الأمطار. ولم يكن ليخطر على بال أحد أن ” الواد غدار” سيختار اليوم الذي ستقام فيه المباراة، وبالذات الدوري النهائي الذي سيحضره جمهور غفير من دواوير مجاورة، ليجرف الملعب والبناية ومن عليها.
– السلطة المحلية بدورها لن تتحمل المسؤولية، فلو قامت بمنع إقامة هذا الملعب لثارت الساكنة بجميع مكوناتها ضدها، وسيتهمونها بعرقلة عجلة التنمية بالمنطقة، فلا حرج في أن تغض الطرف مادام الأمر يتعلق بملعب لن يشكل أي ضرر. وحتى أثناء هذه المباراة أرسلت السلطة المحلية عناصر من القوات المساعدة للإشراف الأمني على هذه المباراة، وتشير الأخبار إلى أن السيارة التي أقلتهم هي أيضا جرفتها السيول.
– مديرية الأرصاد الجوية لن تتحمل المسؤولية، فهي تقول أنها قامت بدورها في إصدار نشرة إنذارية باحتمال هطول زخات رعدية قوية بالمنطقة.
– وزارة السكنى وإعداد التراب الوطني، ووزارة التجهيز والنقل واللوجيستيك وغيرها من الإدارات الأخرى لن تتحمل المسؤولية فهم سينكرون علمهم بوجود الملعب أصلا.
– رئيس الحكومة أعلن أن التحقيقات جارية من طرف الجهات المختصة لمعرفة أسباب الفاجعة، ومصادر ذات صلة أكدت أنه تم فعلا فتح تحقيق من طرف هذه السلطات تحت إشراف النيابة العامة عن ظروف وملابسات هذا الحادث لتحديد المسؤوليات.
وانطلاقا من تفرق دماء الضحايا بين كل هذه الجهات وهروب الجميع من تحمل المسؤولية، خاصة أن القضية أصبحت قضية رأي عام، فلابد من مخرج لامتصاص غضب الشارع، والحل التقليدي في دول العالم الثالث في مثل هذه الكوارث هو البحث عن كبش فداء تفعيلا لمنطق
( طاحت الصمعة علقوا الحجام)، وفي انتظار ” تعليق الحجام” الذي سيحملونه هذه المسؤولية، أود أن أدلي برأيي المتواضع وهو كالتالي:
إن فاجعة “ملعب تزيرت” تفرض علينا التحلي بالشجاعة كي نتحمل مسؤوليتها جميعا، إنها مسؤولية دولة بأكملها، ويجب علينا أن نرفع القبعات تحية وتقديرا لساكنة دوار “تيزرت” وباقي الدواوير المجاورة بجميع أطيافهم وفعاليات مجتمعهم المدني الذين تضامنوا معهم وهبوا بكل عزم وحزم للمشاركة في عمليات الإنقاذ والبحث عن المفقودين طيلة الليل حتى الصباح، كما يجب أن لا نبخس مجهودات السلطة المحلية الممثلة في شخص عامل إقليم تارودانت الذي حضر مباشرة بعد وقوع الفاجعة مرتديا لباسه العسكري و”البوط” وباشر بنفسه عملية الإنقاذ والبحث عن المفقودين مرفوقا بالوقاية المدنية والقوات المساعدة مستعينا بطائرة مروحية، وبقي مع الساكنة لمدة ثلاثة أيام متواصلة، وقام بتعزية أسر الضحايا ومواساتهم وشاركهم مراسم الدفن، مما خفف عنهم بعض ألم فراق أحبائهم، وأشعرهم بجميل مشاركتهم مصابهم وتعاطف معهم فيما حل بهم.
إن الشكر لهذه المجهودات المحمودة التي بذلت بعد وقوع الكارثة لا يجب أن ينسينا هذا التكرار المخيف لمثل هذه الكوارث، وكما لو أننا نصر على عدم أخذ العبرة، والعمل على تلافي هذا الخطر الداهم الذي لا يتوانى عن مهاجمتنا تباعا. إننا نؤمن بقدر الله وقضائه، ولكننا نؤمن أيضا بأن المولى جلت قدرته أمرنا بأخذ الحيطة والحذر وإعداد العدة لما في ذلك من الحزم والعزم صفتي المؤمنين العالمين.
نسأل المولى جلت قدرته أن يتغمد الشهداء الكرام بواسع رحمته وجليل مغفرته، وأن يتقبلهم في عباده الصالحين، وأن يلهم ذويهم جميل الصبر وحسن العزاء. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
بقلم: الحـسن بنبل.
مناقشة هذا المقال