بقلم الدكتور سدي علي ماءالعينين.
لا توجد دولة في العالم لا تحاول عبر مؤسساتها ضمان استمرارية نظامها و ضمان ولاء ساكنتها لذلك النظام ،كلما وجدوا فيه ما يرفعهم الى درجة مواطنين بحقوقهم وواجباتهم ،
ولا تكون كل الخطوات رغم انها محسوبة و نابعة من دراسات و تخطيط و تقديرات ناجعة دوما ،لذلك تضطر الدول الى مراجعة سياساتها لضبط توازناتها الداخلية و الخارجية ،
في المغرب ،الامر يبدو اكثر إثارة ، فنحن لسنا أمام دولة تبني حكمها بسياسات حكومات ،ولا أمام دولة حديثة خرجت من رحم حربين عالميتين او من ثورات ،
المغرب اعرق من كثير من الدول ، لكن تقلبات القرون جعلته يسقط كما غيره في احضان الاستعمار ،الذي وإن أخرجه من الإمارة التقليدية الى الدولة الحديثة ،دولة الإدارة و المؤسسات والقوانين و الدساتير ،لكنه أفقده الكثير من القيم التي كانت جوهر هويته و تماسكه .
كان على المغرب ان ينتظر قرابة نصف قرن على استقلاله ليخرج الملك الحسن الثاني للعالم في آخر أيام حكمه ليقول ان البلاد التي حكمها بالقوة و الحنية ، و بالحديد و النار ،و بالجهد و التضحية و الاصرار ، مهددة بالسكتة القلبية ، فكان لابد من التحرك لترميم ما لا يمكن محوه و إصلاحه بين يوم و ليلة ،
بعدها بسنين قليلة غادرنا الحسن الثاني ،ليفتح المغرب ادرعه لمسلسل مصالحة مع اعطاب الماضي و القطع مع سياسات كلفت المغرب الكثير من جهده و ثروته و العيش الكريم لساكنته.
حكم الملك محمد السادس برؤية بدأها بالمغرب الممكن ، ولم يقل المغرب الذي نريد ،لان حجم ما يريده المغاربة يحتاج الى امكانيات و لا تكفي الإرادات ،
تغيرت السياسات في عهد محمد السادس ،لكن كثيرا من وجوه الماضي ظلت في مكانها ،ثارة تساير العهد الجديد و منها من انخرط فيه بايجاببة ،وآخرى بقرار غير معلن عاكسته دفاعا على مصالحها .
وبعد عشرين سنة من حكم محمد السادس جاء خطاب المكاشفة ليعلن فشل البرنامج التنموي للدولة و الذي اعتمدته من بداية الحكم إلى ذلك الوقت ،
ما إن أطلق المغرب فرص بناء برنامج تنموي جديد حتى جاءت احداث ثلاثة زلزلت كل توازنات العالم و العالم العربي بالخصوص ، ولم يخرج المغرب عن تلك القاعدة ،
فكان الربيع العربي ،وبعده كورونا ثم الحرب الروسية على اوكرانيا ،
وقائع غيرت اجوندات دول ، واطاحت بأخرى ،واوقعت أخرى في مفترق الطرق ،و خلخلت كل التصورات و الرؤى حول طبيعة الدولة و الحكم و الاقتصاد و تدبير المؤسسات ،
الربيع العربي عجل بوضع دستور جديد ،دستور يبني رؤيته على تعاقد جديد يبقي على نظام الحكم على قاعدة شرعية تاريخية تزكيها مؤسسات سليمة و خيارات واضحة لبناء دولة الحقوق و الواجبات ،
ولما حلت كورونا ، عرت الوجه المسكوت عنه في البلاد ، فئات إجتماعية واسعة ،تقدر على ضمان عيشها خارج منظومة الدولة عبر اقتصاد غير مهيكل ،يجني قوت اليوم بلا تغطية صحية و لا عدالة في القضاء ،ولا تعليم منتج للنخب ….
إغلاق الفضاءات العمومية بسبب كورونا كشف عن حجم هذه الفضاءات التي تعمل خارج منظومة الدولة ،لا ضرائب ،لا حقوق، لا واجبات ، مواطنون يهيمون على وجوههم كل صباح يقتاتون من فتات ما يتبقى من طبقات متوحشة طغت واغتنت من برامج الدولة ،
آمنت الدولة بأن طبيعة حكمها تفرض عليها التضحية و الوقوف الى جانب كل المغاربة لتجاوز هذه الأزمة العالمية ، وهو ما تحقق عبر مبادرات استباقية ، و تدخلات للحفاظ على التوازن ،
لكن في واقع الامر كل المبادرات كانت في غالبها مساعدات وقرارات استثنائية لم تعالج اصل المشاكل التي يتخبط فيها المجتمع .
فجاء التحرك الملكي مجددا ليقف عند اصل الخلل في البناء المجتمعي ، فجاءت التغطية الاجتماعية والصحية ، لتنتشل ملايين المغاربة من الاقتصاد الريعي الغير مهيكل الذي ينخر المجتمع والأسر ، مشروع كبير لازال في بداياته وان كانت حرب أوكرانيا وروسيا قد عثرته و حمدا حركته .
وسط كل هذه التقلبات ، أجرى المغرب انتخابات استثنائية في نتائجها رمت بالحزب الحاكم لولايتين منذ الربيع العربي الى اسفل ترتيب الأحزاب حتى انه لم يستطع تكوين فريق نيابي ،ولا تسيير اي من الجهات والمدن الكبرى ،
وكأن المغاربة ارادوا اعلان بداية جديدة أساسها التوافق مع الحكم عبر اختيار احزاب يراها المواطن في توافق مع النظام ،ومن شأن ذلك أن يخلق جوا مناسبا لتنزيل برامج و مخططات قادرة على استدراك الوقت الضائع و تنزيل نموذج تنموي جديد ….
لكن واقع الحال أن المغرب ملكا و حكومة وجدوا أنفسهم وسط حرب ظاهرها إجتياح روسيا لأوكرانيا ولكن عمقها حرب اقتصادية تعيد ترتيب موازين القوى عبر السلع العابرة للحدود و قيمة العملات ،و استثمار خيرات الدول لبناء علاقات دولية على قاعدة الأرباح الاقتصادية بعد ان سقطت شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية….
فكانت من نتائج ذلك أن تعمقت الأزمة في الدول ودفع ضريبتها، المواطنون الذين وجدوا أنفسهم ضحية جشع تجار الحروب والازمات ، فأطلقت يدها بالزيادات منها الموضوعية و غير الموضوعية ، ليدخل المواطنون في نفق مظلم لا احد يتنبأ بما ستؤول اليه الاوضاع .
عجزت الدول عن حماية مواطنيها ، وتركتهم للأسعار الملتهبة تنهك اجورهم الهزيلة وحتى مدخراتهم الاجتماعية التي راكموها عبر نظام الإرث الاجتماعي أو الاقتصاد الغير المهيكل الذي لا يدرك احد حجم معاملاته مادام خارج نظام الضريبة الذي يشكل اكبر مظاهر الدولة
ما اصبح واضحا اليوم أن المواطنين لا يعيشون ولكن يحاربون من اجل ضمان العيش ،ولم يعد مهما هل هو عيش كريم ام عيش مدهون بالمذلة و الحاجة و العوز والخصاص ،
فقدت الدولة التحكم في عملتها ، وأصيب الاقتصاد بالتضخم ، وفقد المواطن بوصلة الاستهلاك ،و تراجع منسوب الثقة في الاختيارات السياسية و الاقتصادية للدولة .
وسط هذا المخاض العسير ، غاب الحوار الوطني حول مستقبل الأسر ،و منظومة القيم ،و توازن الطبقات الاجتماعية ،و السلم الإجتماعي الذي كان خيارا بعد حركة 20 فبراير ….
كما غابت المقاربات البنيوية التي تجعل – كما كان الحال زمن كورونا – المواطن في صلب بناء الدولة و تماسك المجتمع .
فتبنت الحكومة خطابا تبريريا ،وعجزت بعد اكثر من سنة على الإنتخابات على تنزيل تقرير النموذج التنموي ،و كل المخططات التي كانت تحملها الخطب الملكية ، خطب وضعت اليد على مكامن الخلل منذ إعلان سؤال أين الثروة ، لكن تنزيل الحكومة لتلك التوجهات أصيب بالترهل و البطء و أحيانا بعدم الاكتراث ،
المواطن يواصل إيمانه بأن الدولة وهي تطلق مشاريع بنيوية كبيرة ،و تجني مكاسب دولية ،خاصة في القضية الوطنية ، تحتاج من المواطن مزيدا من الصبر و التعايش مع التقلبات الدولية التي لا يمكن محاسبة الدولة عليها ،
لكن كل هذا السكون و السكوت على الهجمة المنظمة على القدرة الشرائية للمواطن و على بناءه الاجتماعي ، وتوازن تدبيره المالي اليومي ، تجعل التفكير في الغد مسكونا بمخاوف كثيرة، ليس فيما يمكن ان يحدث اليوم ،ولكن فيما يحدث لأجيال قادمة لا تجد ارضا صلبة تبني عليها المستقبل .
تلاميذ اليوم الذين يتخبطون في تعليم “فاشل”، و مواطنون يشتكون من عدالة”فاسدة”, و أمن غير معمم ، وصحة “عليلة” ، وقوانين عمل لا تضمن الاستقرار ولا الاستمرار ، مما يصعب معه ضبط ايقاع البطالة التي تحولت الى طاعون ينخر المجتمع ويفتح ابواب الفساد و الجريمة و هدم المجتمع بارتفاع نسب الطلاق و العجز عن اداء النفقة ،و الاقتراض المفرط لتغطية مصاريف الأولاد ، و انتشار قيم الجشع و الاستغلال و السرقة و الفساد في الأعراض و الأموال …
فقد الشباب الذي يشكل الفئة الاكبر في المجتمع الثقة في مخططات وطنه ، و عاد التفكير في الهجرة سواء تحت غطاء الدراسة أو الهجرة الجماعية الى دول اصيبت بالشيخوخة و تحتاج الى عنصر بشري لا يجد فرصته في وطنه،
كما فقد ارباب الأسر التي بنت مواردها على منظومة اقتصاد الدولة بوصلة حماية أسرهم بسبب هزالة الأجور و ارتفاع الأسعار و فساد الصحة و العدالة و الصفقات العمومية و جودة المنتوجات الاستهلاكية و السكن اللائق
كل شيئ يبدو مرتبكا ، أزمة متفاقمة عند فئة واسعة من الشعب ،و ارباح فلكية في جيوب تجار الأزمة ،
ليعود المغرب كما في زمن برنامج التقويم الهيكلي للمغرب نتيجة فشله في تسديد ديونه لمؤسسة صندوق النقد الدولي، حيث لجأت هذه المؤسسة المالية الدولية إلى تقديم هذا البرنامج الإصلاحي في البنيات والبرامج التي يقوم عليها الاقتصاد المغربي، وذلك سنة 1983،
بعد أربعين سنة ،المغرب اليوم لا يواجه صندوق النقد الدولي ،ولكن هو ضحية توجه عالمي عنوانه الفوضى الخلاقة ،التي تجعل إبداء الموقف من القضايا العادلة للدول التي لم تستكمل وحدتها الترابية تجارة مربحة على قاعدة المساومة والابتزاز ،
ومهما ابان المغرب من حكمة في مواجهة هذا التوجه ،الا انه يجد نفسه مضطرا لتقديم تنازلات و بناء تحالفات قد تكون اكثر وضوحا مما كانت عليه من قبل، لكنها في الوقت نفسه اكثر كلفة ، كعقد صفقات التسلح بارقام فلكية المجتمع في امس الحاجة إليها….
كما ادرك المغرب مفاتيح المستقبل عبر التركيز على مشاريع عملاقة قادرة على منح المغرب في العشرين سنة المقبلة موقعا ومكانة بين الاقتصادات الكبرى و الدول العظمى ،
قرارات وإجراءات بميزانيات كبيرة ترهن الحاضر لكنها تبني المستقبل ، تستنزف مداخيل اليوم لضمان مداخيل اكبر في المستقبل ، تقبر طموحات مواطن اليوم لكي يستطيع مواطن الغد ان يعيش ،
وبنفس المنطق ، غرقت الأسر في التكاليف الباهظة لدراسة الأبناء و توفير سكن ، ورهن مداخيلها الهزيلة اصلا للبنوك عبر قروض لضمان مستقبل الأبناء ….
أجيال الحسن الثاني التي لازالت على قيد الحياة واكبت عهد محمد السادس في إطار إيمان راسخ بأن استمرارية الدولة هو اهم من كل ما يمكن ان ينخر الدولة ،فالاهم ان تكون هناك دولة ،لان الشعوب التي اسقطت دولها بالربيع العربي لازالت تتخبط في البحث عن الدولة البديلة …
جيل مواليد عهد محمد السادس ،كانوا محظوظين بحكم ملك إتجه منذ البدايات لتجنب المطبات التي ورثها عن والده ، لكنه لم يكن محظوظا ،لأن بداية الحكم رافقته هزات من مناهضي العهد الجديد ،
فكانت البداية بافتعال احداث” كديم ازيك” وعلاقتها بالوحدة الترابية ، ثم احداث 16 ماي الدامية ، ثم العملية الإرهابية بمراكش ،ثم حراك الريف و جرادة ،
بعدها جاءت الأحداث الدولية كما سلف ذكرها ،الربيع العربي فكورونا والآن حرب روسيا واوكرانيا ،
وكان من نتائج ذلك استمرار نفس الاختلالات في التعليم والصحة والعدالة و البطالة و الاستقرار الأسري ….
يبدو ان جيل محمد السادس سيكون الخطر القادم في المستقبل ،لأن الشباب فقدوا حس الانتماء ،و يعيشون عوالمهم الخاصة خارج مخططات الدولة وتوجهاتها ، ومن اختار منهم عبور المحيط فقد وجد ظالته بدل ان يجلس بقاعة الانتظار لعل الدولة تدرك أنها لا تحس بوجودهم او عاجزة عن مواكبتهم ،
اما من أصيب منهم باعطاب المجتمع ويعيش بيننا فقد يتحول الى قنبلة تهدد المجتمع و الدولة .
لا يمكن حل وضع بهذا التعقيد باعتماد نظام المساعدات او الصدقات ، ولا بتغيير في الحكومات ، ولا بالاستكانة الى المعتقد أن الشعب صابر مثابر ،يساير و لا يحتج ،خاصة بعد ان قصت أجنحة الأحزاب و النقابات ،و اغراق المجتمع بالجمعيات والمواقع الالكترونية ،و فسح المجال للتفاهة والمهرجانات لتكون اكسير حياة بلا كرامة
إن الحل يكمن في الاقتداء بتجارب عالمية كانت اقتصاداتها اقل منا ،فانطلقت بارادة شعوبها و تبصر حكامها ، ولنا في تجربة الصين خير مثال .
يملك المغرب كل مقومات دولة قادرة ان تقلع اقتصاديا و اجتماعيا ، عبر استثمار ثرواته الطبيعية و البشرية ، ثروات لا احد يعرف اليوم قيمتها ولا اين تصرف مداخيلها ، ولا المستفيدون منها ،
نحتاج بكل جرأة ان نعيد ترتيب الاولويات ،و تحديد الاسئلة الصحيحة ، فسؤال : أين الثروة ؟ الذي أطلقه ملك البلاد هو أشبه بالسؤال المحوري لرواية غسان كنفاني : لماذا لم يدقوا جدران الخزان ؟
وربما اصبحت هناك حاجة لتعديل السؤال :
ماهي الثروة في المغرب ؟ وبعدها نسأل أين هي ….
في اعتقادي المتواضع ان ثروة المغرب هي في ثلاث مقومات :
ملكية عريقة تحتاج الى نفس جديد بالقطع مع وجوه بقايا حكم الحسن الثاني ، وضرورة تنويع الأسر التي تشكل جوهر الإدارة المغربية ،ادارة في حاجة إلى انقلاب مؤسساتي في الوجوه و التشريعات ،
شعب متنوع الاصول ،متماسك البنيان ،فيه طاقات و يملك مؤهلات بالفطرة تجعله محبا لوطنه ،قادرا – إن اعطيت له الفرصة- ان يبني بالتضحية والوفاء ،لكنه يحتاج أن يحس ان هناك من يرعاه و يصون كرامته ويضمن عيشه الكريم .
مؤهلات طبيعية كانت دوما سببا في المطامع الأجنبية التي قاومها المغرب ملكا وشعبا ،لكنه اليوم يرفض ان تكون الاطماع داخلية من طرف تجار الأزمات و مستغلي خيرات البلاد لتضخيم ارصدتهم ونشر الإفلاس في المجتمع .
هذه المقومات إن كانت في صلب سياسة الدولة فسنستطيع تجاوز الأزمات ،لكن كلما لحق خلل احدى هذه المقومات ، تصبح الدولة على ابواب الانهيار ،
ولأن عزوة البلاد ملكية عريقة فلا خوف على الدولة من الانهيار ،
لكن إذا استمرت سنوات الجفاف كلما وقع خلل في المؤهلات الطبيعية ،وهي امر مؤقت تعلم المغاربة عبر تاريخهم الطويل التعايش معه ،
اما اذا مست المؤهلات البشرية عبر اعتماد سياسات خاطئة ،وضرب قيم المجتمع و قدراته التي تمكنه من العيش الكريم ، هذا من شأنه خلق أجيال فاقدة لحس الانتماء ،و يكون مصيرها الإفلاس ،
وإفلاس الفرد و الجماعة هو بكل تأكيد سيكون خطرا على الدولة ،وعلى استقرارها و مستقبل اجيالها….
لنعد ترتيب الاوراق قبل فوات الاوان …
فهل تعتبرون؟
مناقشة هذا المقال