وأنا أخط بعض الأفكار لتقديم هذا الكتاب، استجمعت قيمة وفائدة ما تقاسمناه مع الصديق الأستاذ جامع بن يدير، من أفكار ورؤى أثناء جلسات نقاش خاصة
أو خلال التحري الميداني في عمق جبال الأطلس الصغير الغربي، حول موضوع:”إيدرنان”. وتبين حينئذ أنه ثمة رابط حميمي يشد المؤلف إلى عوالم هذه الاحتفالات، وسرعان ما توضح لنا ولغيرنا بالفعل أنه، بقدر ما يغوص في غياب التاريخ المحلي وتشعباته في مجال “قبيلة أيت أكلو” بالتحديد، إلا ويكتشف أن هناك محددات من نوع خاص، تجعل دفين” زاوية أكلو” وكاك بن زلو، معلمة إرشاد متميزة بالنسبة إليه، وأنه شكل نقطة انطلاق ووصول. وكانت الفكرة قد صدرت عن اقتناع مؤداه أن مبلغ قمة هذا “العلم ” كونه يرمز إلى العروة الوثقى التي كانت تجمع أدرار(الجبل)ب أزغار(السهل ) على مر التاريخ، وتبين أن لا مناص من استكمال ذلك الرابط المتين الذي يجمع الأصل بالفروع، عبر منظومة تراكمية من العادات والطقوس المندثرة أو التي تقاوم عوادي الزمن(طايفا ن إيداولتيت، إيدرنان…)، قابلة للتوطين في نسق ناظم يخترق عوالم جغرافية وبشرية متباعدة. يتعلق الأمر أساسا بتراث ثقافي، يجري عليه في الزمن ما يجري على غيره من اندثار وصمود وتلاقح بل وتثاقف. ويعكس ثراء المنظومة القيمية الثقافية والاجتماعية من خلال ما تراكم من رصيد من العوائد والتقاليد والأعراف والممارسات والتجارب التي تحققت عبر مسار زمني طويل وممتد.
فاحتفالات إيدرنان، كمنتوج ثقافي-تاريخي، تجسد الشخصية الثقافية لمجال”أدرار”، وظلت متجذرة بشكل بارز عبر تاريخه، كما عرفت تمظهرات لافتة أكثر من غيرها، رغم وجود حلقات مفقودة في مسارها التاريخي الطويل، مستمدة قوتها ومناعتها في قدرتها على التحدي والتطور والتكيف باستمرار، دون أن تنسلخ عن روحها وجوهرها. وكان هذا الأمر مدعاة للمؤلف لطرح مسألة الأصول الممكنة لهذه الاحتفالات.
وحسب ما يبدو، فإنه حاول قراءة الظاهرة في إطارها الزمني المتشعب، مع ما يستتبعها من تقطعات واحياءات ناتجة عن لحظات عصيبة في العيش والمعاش، لتخفيف الوطء على السكان. فالإجماع الذي نلمسه في الذاكرة المحلية، يوحي إلى أن هذه الظاهرة لا تعدو أن تكون أداة بيد صلحاء وزهاد جبال جزولة (ءيكوزولن)، ممن لهم القدرة والكفاءة على التحرك الجماعي، موظفين مكانتهم الرمزية، لتجاوز لحظات إفلاس واهتزاز جماعي، عبر تعبئة الموارد المتوفرة، وخلق بوتقة من السلوكات والمبادرات التي آلت الى قيم ملتصقة بالبناء القبلي المحلي، ارتضاها أفراد القبيلة وعملوا على مأسستها بهدف إشاعة روح التضامن والتعاضد والتآزر.
إن تردد وتكرار أزمات جبال الأطلس الصغير، بشكل دوري، مما تعكسه مظان النوازل الفقهية وكتب التراجم السوسية، خلق هاجسا مؤرقا، شغل ذهنية السكان. وثمة واقعا تتوالى عليه حالات من الشدة والعوز جراء سلسة من المساغب والجوائح والآفات التي كان وقعها كارثيا على مختلف الأصعدة. وربما استشعر علماء ومتصوفة سوس استمراريتها وتكرارها في مجال “ادرار” المتسم اقتصاده بالندرة والقلة. لهذا يمكن أن نتلمس من وراء زمن الطقس (إيدرنان ) نوعا من “العهود” أو” الأيام الحرم” التي من مقاصدها توفير الموارد بشكل مشترك، وحشد همم السكان للتعاضد والتعاون لضمان البقاء والاستمرارية. نحن إذن أمام سلوك جماعي وتواصل رمزي بين الأفراد تم إخضاعه لاشتراطات السلوك الاجتماعي والواقع اليومي، قبل أن تغلف لاحقا برداء ديني أخلاقي.
والظاهر أن المؤلف وجد صعوبة في استعادة الصورة الأولى لاحتفالات إيدرنان، بدليل ـأن “الصيغ” الرائجة الآن لنفس الاحتفالات طالتها عدة تغيرات، ولا تعدو أن تكون شوارد لما تبقى منها. وحتى الانزياح الزمني والاختلاف البين في زمن إيدرنان داخل قبيلة، يبقى سرا ولا شيئا عنه يشفي الغليل.
وهنا نتساءل عن إمكانية وجود علاقة بين احتفالات إيدرنان العفوية وبين رمزية ومكانة هذه الفترة التي تحتفل فيها (من نهاية شهر يناير الفلاحي إلى نهاية شهر مارس الفلاحي) التي تحيل إلى زمن انتقالي، تلتصق فيه انشغالات الإنسان بالأرض وما تجود به. إن من الصعوبة الإجابة هنا بالإثبات، بيد أن ما لا يدع مجالا للشك، كون هذه الاحتفالات الشعبية، تشكل مفتتح السنة الفلاحية، وثمة اعتقاد بتجدد الأرض، والتأثير على إيقاع باقي فصول السنة (انظر: إدموند دوتي، السحر والدين في أفريقيا الشمالية).
يقتضي الإنصاف أن نسجل المجهود المضني الذي اضطلع به المؤلف لإخراج هذا العمل إلى الوجود، بما يتوافق والمظان المتيسرة، رغم قلتها، وما تجود به الروايات المسترسلة عبر الأجيال، مقرونة بالتحري الميداني داخل أودية وقمم وشعاب جبال ءيكوزولن (جزولة)، بكثير من التحمل والأناة وطول النفس. وذلك رغبة منه في تملك أكبر قدر من المعطيات عن احتفالات إيدرنان، مما سمح له بفرز وعزل الظاهرة في جوهرها قبل أن تطوق بشكل من الأشكال بمجموعة من الزوائد والقصص المتقطعة المحشوة بالخرافات والمفتقرة للموضوعية.
ومن شيم المؤلف في هذا الصدد، عدم التهور المعرفي، أمام موضوع موسوم بكثرة المزالق، وندرة المصادر. مما أضطره إلى التأني المنهجي، والاكتفاء بإثارة الاسئلة، بغية تبديد الفراغات، وتوفير فرص وهوامش التدخل الممكنة، واستنطاق ما يمكن استخلاصه من الإشارات الجزئية الهزيلة، كيف لا، ونقل المحاور المهيكلة للبحث في معطى تاريخي(إيدرنان) إلى لغة سلسلة منفتحة، تتطلب الماما واسعا بالظاهرة وفق مقاربة متعددة المشارب، بما يسمح لإعادة تشكلها التاريخي وسبل تمريرها ونقلها عبر الأجيال.
والواقع أن هنالك من التفاصيل المغيبة في احتفالات إيدرنان، التي استوقفت المؤلف للتأمل، وحفزته لمزيد من التحري والبحث. لهذا لا خوف على استدامة هذه الظاهرة، بما نلمسه اليوم لدى السوسين من توجه فرداني وجماعي في نقل وتقاسم هذه الاحتفالات مع مجالات خارج سوس داخل الوطن وخارجه، وأصبحت تشكل علامة هوياتية بامتياز.
إن من شأن هذه الإسهامات البحثية في قضايا التراث أن تساهم في تعميق المعرفة بتاريخ وماضي سوس، من خلال الالتفات إلى مواضيع ظلت إلى حد قريب مجهولة أو مهمشة. وبهذا العمل، فإن المؤلف، قد أبان عن قدرات علمية ورغبة أكيدة في تدليل الصعوبات، مع توخي الحيطة والحذر وتفادي الاستنتاجات المتسرعة، وهي شهادة للتأكيد على موقعه ضمن الإنتاج المعرفي المحلي على مستوى المقاربة التاريخية، المنفتحة على العلوم الرديفة، الإنسانية والاجتماعية منها.
ذ أحمد بومزكو
مناقشة هذا المقال