كان الجو باردا، بل شديد البرودة، لا يمكن مقاومة البرد مهما ارتديت كل ملابس وجلابيب الصوف التي تنسجها أنامل نساء آيت وراين داخل البيوت الطينية الكائنة على سفوح جبال بويبلان وقمة تازكا،،، من هناك، من سلسلة بويبلان الجبيلة التي تكسوها الثلوج راسمة عليها اخاديد بيضاء تتموج على شعاب وسفوح الجبال المقابلة مع الشمس والمشرفة على ناحية أهرمومو، صور ثلوج أول الموسم ترسل إليها الشمس اشعتها الصباحية المشرقة، وتبدو باهية منيرة مثل عروس فائقة الجمال، تتزين بمجوهرات فضية متدلية مع ظفائر شعرها، وهي تطفح مع الخروب على كتفها، هذه الصورة هي التي امتحت منها تسمية هذه الجبال ب إيبلان، لأن الثلوج تجعل منها جواهر حلي فضية لامعة، كما تلمع مياه إموزار المتدفقة من قمة الجبل إلى سافلته. الماء لا يصنع الحياة فقط في هذه الجبال الشاهقة، وإنما يرسم فيها صورا فنية في منتهى الإبداع والبهاء والجمال…
اتجهنا صوب مدينة تازا، عبر طريق جد وعرة، منعرجات، منحدرات؛ صعود وهبوط، أودية وشعاب، مسلك طرقي معبد يربط بويبلان بتازا عبر مغراوة، ويصل إلى أهرمومو، لكنه يوجد في حالة سيئة، تعزوه الصيانة من كل الجوانب، طريق أكلت المياه أطرافه، وحفرت العجلات والرياح وسطه، على طوله بقع محفرة، طريق جبلي ضيق، معبد ولكنه منجور… لحسن الحظ أن الاشغال بدأت في اصلاحه وصيانته من نقطة ملتقى الطريق المتجهة إلى باب بودير إلى مقر جماعة مغراوة… على ما اعتقد، ولست متأكدا، فهذا المشروع يهم إصلاح مقطع طرقي على طول حوالي 38 كلم، لتبقى مسافة تناهز 50 كلم الرابطة بين مغراوة وجماعة بويبلان ثم أهرمومو إلى حين…
ما بين تازا وجماعة بويبلان، استغرقنا مدة ثلاث ساعات، كلها لف ودوران.. وصلنا إلى مدينة تازة، الحركة قليلة في الشارع، الساعة تشير إلى حوالي التاسعة والنصف ليلا، وصلنا وسط تازا، مدينة يبدو ليلها شاحب، بعض أطرافها مظلمة، إلا بعض شوارعها الرئيسية، بسبب البرد قررنا النزول إلى تازا السفلى، لم نعد نطيق الهضاب والعتبات العليا…
دخلنا إلى فندق من فنادق تازا، اتجهت نحو الاستقبال، تحدثت مع شاب باللغة الأمازيغية، ابتسم، ثم قال، عفوا لم أفهم، درجت اللسان، حصل التفاهم على الغرفة والثمن.. في أثناء ذلك، عقب الشاب، هضرتي معايا الشلحة قبيلة ياك… أجبت نعم، وأردفت، استسمح كنت في جبل بويبلان والناس لا يتحدثون إلا الأمازيغية، ومع الطريق والتعب، وخلت أن المدينة كذلك مثل محيطها، فأجاب الشاب الذي كان يرتشف قهوة سوداء مستعدا لسهر الليل الطويل وسمره، أنا أيضا امازيغي لكنني لا أتحدثها للأسف.. أجبت أنا أيضا للأسف وقبضت على مفتاح الغرفة واتجهت نحو المصعد..
وفي الصباح الباكر، على الساعة الثامنة صباحا، نزلت نفس المصعد، غادرت الفندق، واتجهت جهة اليمين، وجدت مقهى ومطعم يعد الفطور، يظهر من واجهته الزجاجية أنه فضاء أنيق قد يستوجب لشروط النظافة والجودة…ولجت الفضاء، يتوزع على جزئين، الأول عبارة عن مخبزة والثاني عبارة عن مطعم… جلست، تقدم شاب لطيف مبتسما، قائلا صباح الخير، أجبت وأنا أيضا مبتسم، بالامازيغية، أعاد الشاب السؤال معتذرا لكونه لم يفهم، اشغلت برنامج الترجمة بالرغم من صعوبة ذلك في الصباح البارد، وتكلمت باللسان الدارج.. سجل الشاب الطلب، وقبل أن ينصرف قال مبتسما، أنا أيضا امازيغي لكن للأسف لا أتكلم بها ولا افهمها ولكن أصل عائلتي من منطقة كذا ووالدي يفهم ويتحدث الأمازيغية ولكن إلماما…
من هناك مباشرة، اتجهت صوب إدارة عمومية، ينتظرني موعد عمل، دخلت الإدارة سألت عن الشخص المعني، وجدته يشتغل في مكتبه، يرقن على حاسوب، بعد التحية والسلام والتفصيل في الموضوع، في نهاية الحديث، وبمنتهى الأسف، قال الشاب المسؤول، أنا إبن مدينة تازا، والداي من قبيلة كذا، غير بعيد عن المدينة، لكن للأسف لم نعد نتحدث الأمازيغية، لا في البيت ولا في الشارع، وحين نقضي بعد أيام العطل في البادية نستعمل اللسان الدارج، وحتى الجيران أغلبهم في البلدة حين كنا صغارا فأغلبهم يداول الدارجة… جوابي على ما قاله الشاب الموظف، ليس ضروريا هنا في متن هذا السرد..
هكذا هي تازا جميع سكانها أمازيغ لكنهم لم يعودوا يتحدثون بها ولا يفهمونها، جل عائلات تازا نازحة من المحيط الجبلي القريب منها… بالرغم من وجود بعض المجموعات التي تتحدث الدارجة في بعض المناطق المحيطة لتازا إلا أن اغلب الساكنة فقدوا القدرة على فهم والحديث بالامازيغية…
مدينة تازا هي مدينة أمازيغية قديمة جدا، بناها الامازيغ كما أكد ذلك ليون الإفريقي الذي زار المدينة خلال القرن 16..وكانت جميع القبائل القاطنة في المدينة أمازيغية، مثل مطغرة/ مدغرة، والأصل امطغارن، وهي قبيلة أمازيغية كبيرة مشهورة جدا منها الزعيم السياسي والديني ميسرة المطغري، وقبيلة البرانس الأمازيغية وقبيلة غياثة ومگاصة وتسول وكلها مجموعات أمازيغية، عرفت تحولات سوسيوثقافي ومجالية في القرن القليلة الماضية.
أسباب تعرب تازا وبعضا من محيطها، كثيرة ومتعددة، يمكن أن نحصرها في ما يلي:
طبيعة المجال الجغرافي لتازا، فمن خلال التسمية يظهر طبيعة هذا الموقع، فتازا تصحيف لكلمة تيزي، وتعني الممر، موقع تازا معروف تاريخيا في المصادر الوسيطية ب”ممر تازا” فهو ممر إجباري يربط بين غرب المغرب وشرقه، سياسيا يربط بين فاس وتلمسان، فهو طريق تجاري وطريق سلطاني، يعرف مرور موكب السلاطين والجيوش، لذلك تم بناء المدينة متذ القدم كحصن للمراقبة والحماية كما هو معروف في العمارة الأمازيغية، لذلك فالمدينة تتأثر بحركية المرور والعبور التي تعرفها على مر العصور، ومن السهل أن تكون تأثيرات ثقافية لهذا الموقع الذي يشهد دينامية تاريخية دائمة…
المدينة كانت مقر المخزن منذ المرابطين، فجميع السلاطين يفضلون تعيين أبنائهم واقاربهم للعمالة في حصن تازا نظرا لأهمية الموقع تجاريا وسياسيا وعسكريا فكل سلالة سياسية تصل إلى فاس لحكم المغرب، لابد لها أن تضع نصب أعينها الاستحواذ على تازا حماية لفاس وسعيا للارباح التجارية في الأسواق لان المدينة تعرف رواجا تجاريا، وأيضا للتحكم في عائدات المرور… اضافة إلى كل هذا، هوائها الجميل والذي بسببه يختار سلاطين المرينيبن قضاء فصل الصيف في تازا، ونحن نعرف أن المدن السلطانية التي يستقر فيها المخزن، هي الأولى التي يتسارع إليها التعريب… بسبب ما ما يتبع ذلك من بناء الادارات والمساجد والمدارس وأجهزة القضاء واستقرار الجيوش وغيرها…
تعريب أهم القبائل الأمازيغية المحيطة بمدينة تازا، كقبيلة غياثة الأمازبغية التي قال عنها مؤرخ ايناون، المرحوم عبدالرحمان المودن مايلي: بالرغم من أصلها الأمازيغي، ومن تحصنها بالجبل، فإن غياثة قد تعربت منذ فترة مبكرة فيما يبدو، نظرا لإطلالها على مسلك الهجرات العربية، واحتكاكها بقبائل ذات غلبة عربية كالحياينة، ولم تكن تستعمل الامازيغية في تعاملها اليومي، في اوائل هذا القرن، من بين فرقة غياثة، سوى فرقة أهل الدولة، التي تقطن أقصى جنوب شرق جبل غياثة وتحادي قبائل بني وراين”. ( عبدالرحمان المودن، البوادي المغربية قبل الاستعمار، قبائل ايناون والمخزن، ص 157.) ويظهر لنا بكل جلاء مسار تعريب اغلب قبائل تازا بحكم ضغط التاريخ وحيوية المجتمع التي يستمدها من الموقع..
وقوع المدينة في حوض ايناون، وهو الوادي الذي يستقطب الكثير من قبائل والمجموعات النازحة من الجبال سواء من الأطلس المتوسط الشرقي أو من الريف، حوض ايناون نظرا لخصب أراضيه ووفرة إنتاجه الفلاحي الغزير والمتنوع شكل دوما منطقة جذب واستقرار، وهو ما ينتج عنه استيعاب ثقافي وتذويب هوياتي في أسفل الوادي، الذي يعتبر ممرا وخطأ أساسيا لهجرات القبائل البدوية الوافدة من الشرق وأيضا لمرور المخزن بشكل دوري بين فاس وتلمسان، والذي يتحرك على شكل ما يعرف ب”الحركة المخزنية” التي تضم عددا ضخما من الجيوش والفرسان، وعادة ما تحط ترحالها بالمنطقة، هذه الحْرْكة التي تحدث عنها المؤرخ المودن في اطروحته، ويعتبرها بمثابة “أسلوب الحكم” من طرف المخزن.
سياسة الدولة المغربية العصرية بعد الاستقلال، والتي عملت على ترسيخ التعريب الشامل في المدرسة والادارات والإعلام وفي كل دواليب الدولة والمجتمع، وهو ما جعل الكثير من الحواضر والمدن تفقد لسانها الامازيغي وتطغى عليها الدارجة، التي تم افرزها المجتمع بسبب ضغط الدولة التي فرضت التعريب بقوة الإدارة والدولة، ثم قوة المجتمع الذي تمسك بلغة الأرض ولغة الوطن والتاريخ وهي اللغة الامازيغية، وبالتالي تم افراز لغة محلية أخرى وهي الدارجة….
ما الحل أمام هذه المعضلة؟
الحل هو ضرورة تعميم واجبار تدريس اللغة الامازيغية لجميع أبناء المغاربة وتشجيعها بتمييز إيجابي داخل الفضاء العمومي…
عبدالله بوشطارت…
تازا 12 يناير 2024…
مناقشة هذا المقال