وداعا…
لم نصدق بعد أنك راحل عنا، لم نصدق ذلك. لايزال هول الصدمة في دواخلنا، عيون نساء دمعت، وعيون رجال وشباب بكت، وقلوب الالاف وان لم نقل الملايين هزت. حزن الجميع على فراقك، هناك في آيت باعمران وفي كل مكان.
لاشك في أن عبدالوهاب بلفقيه زعيم سياسي حقيقي، كان شخصية غير عادية، مساره السياسي يثبت ذلك. شعبيته الخارقة وقوته الفائقة في اقناع الناس وتوحيد الصفوف وبناء التحالفات وتوطيدها واستمرارها، في جهة وادنون التي تضم تشكيل اجتماعي وثقافي وقبلي متعدد ومتشعب، يدل على أن بلفقيه يمتاز بخصال ومميزات نادرة جدا، لا تتوفر إلا في شخصيات قليلة في التاريخ. اجتمع فيه ما افترق في غيره. كان يمتاز بصفات الزعماء الامازيغ الكبار في آيت باعمران والصحراء وبلاد جزولة. أهما الذكاء والدهاء ثم الكرم والسخاء.
بلفقيه من لقبه يظهر أنه سليل أسرة علمية، تدرج فيها الفقه والعلم والقضاء، وهي مواهب ومهن ابائه وأجداده، فهو إبن أسرة ممتدة مشهود عليها بالجاه والعلم والتدريس والتربية والتعليم في مدارس العلم بالجنوب.
بلفقيه عبدالوهاب ولج عالم السياسة في مجال صعب ومحفوف بالمخاطر، في ظروف صعبة كانت تمتاز بالتوتر الدائم، نتيجة ترسبات تاريخية في مجال محفور بالصراعات الاثنية والثقافية والمجالية، وهو مجال وادنون المرعب. دخله بلفقيه الشاب في ظرفية حساسة كان فيه وادنون يستعد لخوض مخاض التحول والانتقال والتخلص من هيمنة عائلات سياسية كانت تستنزف وادنون منذ الاستقلال في سنة 1957.
نجاح بلفقيه وبروزه كزعيم سياسي شاب قادم من خلفية وادنون أي من سفوح آيت باعمران المطلة على وادنون عبر عابرة أندجا الذي كان حدا فاصلا بين الاستعمار الفرنسي الحاكم في اكلميم والوجود الاسباني في آيت باعمران. نجاحه يعود في الأول والأخير إلى ذكائه ودهائه السياسي التي مزجها بالمغامرة والشجاعة وقوة الشخصية، وهي مرتكزات انثروبولوجية وتاريخية في تشكل الزعامة السياسية بآيت باعمران.
فقدوم عبدالوهاب بلفقيه إلى وادنون الذي يعتبر فيما مضى امتدادا جغرافيا واجتماعيا وثقافيا لآيت باعمران، أدى إلى ظهور شخصية سياسية بارزة وقوية، مغامرة وناجحة وذكية، تحولت في مدة قصيرة إلى قوة انتخابية قاهرة، لا يضاهيها أحد من البروفيلات السياسية الموجودة والتي استحوذت وهيمنت على السياسية والمجالس والمناصب لعدة عقود.. هذه الشخصية الجديدة آنذاك في سنوات 2003 وما بعدها، هي عبدالوهاب بلفقيه، الذي استثمر نجاحه محليا ليسطع نجمه وطنيا داخل البرلمان والحكومة، واقتحم صالونات الرباط وتفوق فيها في فرض اسمه كزعيم سياسي قادم من الصحراء.
هكذا فتح بلفقيه على نفسه ابواب النيران الحارقة، لأنه زاحم وازاح أسماء سياسية كبيرة كانت تتحكم وتهيمن على السياسة والاقتصاد والثروات في وادنون، ازاحها في المشهد، وهي عائلات تركتها فرنسا في وادنون وألحقت لها حقوق العبور نحو الصحراء ونحو المناصب ونحو الثروة، وقدمتها للمخزن كعائلات تجارية يؤتمن سرها يجب أن تحظى بالحظوة المخزنية لكي يكبر جاهها السياسي ومجدها الاقتصادي وتغرس جذورها في شرايين الخريطة الاقتصادية والسياسية جهويا ووطنيا، وتمكنت في ذلك فعلا بشكل علني في أواخر السبعينات حين انخرطت هذه العائلة في حزب الدولة واقتحمت السياسة من أبوابها الفسيحة بعدما كانت تشتغل في الداخلية والسفارات والقنصليات…
لكن بلفقيه القادم من آيت باعمران التي كانت تنتمي لمجال الحماية الإسبانية، تمكن من حجز مكانة سياسية رفيعة باكلميم الذي كان تحت الاستعمار الفرنسي ( التذكير بفرنسا مهم لفهم الجذور) .. لم يكن يعلم أنه يمشي فوق ارض بركانية حارقة توجد تحتها أنفاق مجهولة تربطها شبكات غير واضحة لها امتدادات فرنسية ومخزنية وسياسية معقدة منظمة في شبكات مصالح مالية وتجارية واقتصادية في غاية من التعقيد والخطورة…
المجد والتفوق السياسي الذي صنعه بلفقيه لنفسه، والنجاح التنموي الباهر الذي حققه في مدينة كلميم التي نقلها من مدشر وتجمع حضري فوضوي تنعدم فيه أبسط شروط العيش بدءا بالماء الذي يتقطع باستمراو وانعدام قنوات الصرف الصحي حيث كانت مدينة كلميم الي حدود 2003 هي مدينة المطامير والمياه العادمة التي تسيل في الازقة والشوارع…. حولها بلفقيه إلى حاضرة جميلة مزدهرة…(من ينكر هذا فهو جاحد منافق).
هذا النجاح المبهر هو سبب كل الويلات لمنافسيه السياسيين، ابرزهم العائلة/ العائلات التي ورتثها فرنسا حقوق العبور منذ 1957 وهي العائلة التي تحولت اليوم إلى إمبراطورية اقتصادية كبيرة في المغرب، فلم يستطيعوا هزم بلفقيه انتخابيا في عدة مواقع انتخابية 2012/ 2015/ 2016 /2021…بالرغم من أنهم استعملوا كل الأدوات والوسائل الشرعية وغير الشرعية… وعشنا حتى شاهدنا كتائب اعلامية انفصالية معادية للوحدة الترابية المغربية تهاجم بلفقيه صباح مساء، وتقذفه بأقدح النعوت والصفات…
لكن لم يكن احدا يتسائل لمن كانت تشتغل تلك الكتائب الانفصالية في الداخل والخارج؟ ولصالح من كانت تعمل في هجومها الممنهج والمقصود والمدروس تجاه بلفقيه؟
إننا ونحن المتخصصون في التاريخ، والمنشغلون بالسياسة والدارسون للانثروبولوجيا وفهمنا الدقيق للكثير من المفاهيم من قبيل القبيلة والمخزن والدولة والقرابة والقداسة والأرض والثقافة، ومفهوم الصراع… وباعتبارنا ابن منطقة آيت باعمران وقارئ لتاربخها القديم والحديث وتتبع مسارات ومصير وتاريخ شخصيات آيت باعمران في الرئاسة والسياسة والعلم والفكر… وبحكم طبيعة صداقتنا وعلاقتنا الوطيدة بالشهيد عبدالوهاب بلفقيه رحمه الله، نقول أن مسار هذا الشخص هو مسار غير عادي وهو ينتمي إلى طينة من الشخصيات السياسية الوطنية الكبيرة والفريدة والنادرة، هو يمثل حلقة من سلسلة الزعماء الكبار في تاريخ آيت باعمران والصحراء.. سيكون اسمه محفوظا في الذاكرة ومنقوشا في التاريخ وراسخا في المستقبل.
كان ضحية نجاحه السياسي وذكائه الثاقب الذي يشعل أحقاد المنافسين السياسيين والخصوم الذين يواجهون الأذكياء بالغدر والخداع والضرب من الخلف.
تعازينا الحارة إلى والدته الكريمة أطال الله في عمرها وزوجته وأبنائه وبناته واخوانه جميعا، وعموم أقاربه واصدقائه وأنصاره….
عبدالله بوشطارت إعلامي وابن ايت بعمران.
بعض صور أثناء تشييع جنازة المرحوم المسمى قيد عبد الوهاب بلفقيه بمسقط رأسه بايت عبلا ايت بعمران.
مناقشة هذا المقال