…. وتستمـــر الرحلة التأملية، مع وقفة أخرى ذات طـــابع إنساني علائقي كله الحنين لزمن جميل قد ولــــى، وقفة كلها نوستالجيا جميلة….. وقفة ستكون وفية لخط التحرير الذي اخترته للجزء الرمضانـــي من هذه الرحلة….العلاقات الإنسانية المجسدة للتضامن والتكافـــل والتعاون والإخــــاء بين الإنسان والإنسان…. أو بمعنى آخـــر بين الإنسان ونفسه، على اعتبار أن الآخـــر ليس إلا الصورة الأخـــرى للأنا بالنسبة لمن يؤمن بأن الإنسان لا يمكن له أن ينال شرف الإنسانية بدون هذا البعد الاجتماعي في حياته…. وقفة اليوم ستكون مع الجـــار وقيمته في حياتنا بين الأمس واليوم…. فعلا، مسافات زمكانية كبيرة بين الأمس اليوم في علاقة الجار بجاره في ظــــل مجتمع متغير ومتحول قيميا….
كـــانت للجار، في الزمن الجميل زمن الطفولة، أدوار اجتماعية عديدة تتراوح بين التوجيه والإرشاد والحماية والعطف والحنان…فهو بمثابة الأب الثانـــي أو الأم الثانية…..يلجأ إلى بيته في ظل الطوارئ ….وما أجمل طوارئ الزمن الجميل: حلول ضيف غير متوقع، خلو البيت من الزيت أو الملح أو السكر….طوارئ وإن كانت كذلك لا تخيف أحـــدا، لأن الجار يعتبر مصدر أمان ويحس هو الآخـــر بأن كل جيرانه مصدر أمان له وملجأ عند الضرورة….في ظل هذا الإحساس المتبادل نسجت علاقات على أساس الحب والاحترام، فلم تكن البيوت تغلق ….كان النداء من خلفها بمثابة المفتاح …..فالكل كان يملك مفاتيح بيوت الكل….نشأت ثقافة الدرب وثقافة الحومـــة في المدن العتيقة والشعبية، وكانت بنت الدرب أخت الجميع وكان ابن الدرب أخ الجميع….
تطور المجتمع وتحولت معه منظومة القيم، فأصبحت كل المؤسسات التنشيئية تتنازل باستمرار عن أدوارها، ومن خلالها عن ألقها الجميل …بدءا بالأسرة التي لم تعد تعرف الشيء الكثير عن أبنائها، وعن أنشطتهم اليومية التي يختلط فيها الواقعي بالافتراضـــي إلى حد أفقد لحياتهم أي معنى…مرورا بالشارع والدرب الذي كان مدرسة فتحول الآن إلى ساحات للعراك والسباب والعنف اللفظي والجسدي….ومرورا بالجار الذي كانت له سلطة رمـــزية في الحومة كلها، لتقتصر الآن على نفسه…هذا إن كان محظوظا….وصولا إلى وسائل الإعلام التي كانت بالأمس تشجع وتنوه بثقافة التماسك بين الجيران، فأصبحت اليوم تقدم العلاقات بين الجار وجاره في قوالب هزلية تثير الشفقة فنيا وقيميا….
من حسنات هذا الوباء العالمي اللعين، الذي جعلنا نخط هذه اليوميات والليليات، أنه بفرضـــه لحالة طوارئ غير منتظرة البتة، أعاد جزءا من ذلك التماسك بين الجيران…وأحيا جزءا من تلك العلاقـــات الجميلة بين الجار وجاره…. فبدأنا نلحظ ربة بيت تتقاسم حبة طماطم مع جارتها… وبدأنا نسمع ونـــرى عن الجار الذي يدق باب جاره سائلا إياه عن أحواله وأحوال ماشيته ….بعض من روعة الزمن الجميل أعادها لنا هذا الظرف الطارئ….فهل نحسن استثمار اللحظة لإعادة بناء صـــرح قديم بدأ يتلاشى رويدا رويدا…ونعيد معه تلك القيم الجماعية الجميلة التي يحس الجميع في ظلها بنعمة الأمن والأمان….
نختم وقفة اليوم بالتأمل في بعض الأقوال والحكم التي قيلت على الجار ومكانته في حياتنا:
– ” عندما يحترق منزل جارك انتبه إلى منزلك” مثل باسكي
– “الجار السيء يعطيك الإبرة دون خيط” مثل برتغالي
– ” من لديه جار طيب يباع منزله بسعر أغلى” مثل تشيكوسلوفاكي
– ” الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق” مثل عربي
وخير ما يختتم به الكلام في مثل هذه المناسبات، كلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وحديثة المشهورعن وصية جبريل بشأن الجار: ” مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”
إلى تأمل آخـــر، أرجــــو لكم ليلة رمضانية كلها أحاسيس إنسانية …. إلى لقاء آخر بحول الله
إبــــــــراهيم عفيف استاذ مفتش تربوي وفاعل جمعوي.
سوس ماســـــة. 04/05/2020
مناقشة هذا المقال