Atigmedia
المصداقية والدقة في الخبر

محمد قاسمي : تافراوت؛ هكذا يموت الأطفال!

في غمرة انتشاءكم بما أسميتموه “ايام تيزنيت في اكادير” ، و انتم وسط الأهازيج و الزغاريد المؤدى عنها ، محاطون بجحافل من الوجوه المألوفة في مثل هذه المناسبات التي باتت تنتشر في منطقتنا كالفطر ، توزعون التصريحات بلغة الخشب و تنتقون مفرداتها لإيصال الرسائل الى من يهمهم الأمر ، و بينما تتذوقون من الأطباق أصنافا و أشكالا تعكس غنى ثقافة الأكل بالإقليم ، كان الطفل عبد الإله يلعب الكرة وسط الواد المقابل لبيته بتافراوت .
لم يجد فضاء غيره للعب مع الاصدقاء.
عبد الاله باحنيني ، ليس سوى طفلا يتيما ينحدر من اسرة فقيرة ، يتابع دراسته بالمدرسة العمومية ، والده كان يعمل حارس سيارات ، يعرفه الجميع ، توفي السنة الماضية بسبب المرض و الفقر ، و ترك عبد الإله طفلا ذو ثمان سنوات مع أمه و أخيه يواجهون مصيرهم المجهول ككل اسرة فقيرة .
ليس بوسع عبد الإله السفر مع اسرته لقضاء العطلة المدرسية مثل أبناء الاسر التي تعيش بكرامة او في نعيم ، و ليس بإمكانه أن يتنقل إلى اكادير و يحجز غرفة في فندق مريح لمشاهدة إقليم تيزنيت وهو يحط رحاله تزامنا مع العطلة المدرسية إلى اكادير.
لم تتح له الفرصة ليرى بعينيه كيف تحولت بلدته المنكوبة الى حسناء فاتنة جذابة بكل مساحيق التجميل الكاذبة بممر ايت سوس ، و كأنها تعاند مدينة الانبعاث او تواسيها ، او تتباهى امامها ، او تبشرها بفتح قريب ، أنا نحن الأوْلى بحكمها و انتشالها من الركود و انقاذها من ” فساد و سوء تسيير الاسلاميين” .
لا فرق في الحقيقة بين مدينة يسارع مسؤولوها الزمن لإخفاء بؤسها بالطلاء الاحمر ، و النخيل المثمر المتنقل ، و العشب القابل للطي استعدادا للزيارة الملكية ، و اخرى سافرت الى اكادير بكل انواع الاقنعة الكاذبة ، يسوق مهندسوها للوهم و يروجون لأسطورة التنمية المجالية و يدعون انهم ينقلون صورة صادقة عن اقليمهم الى الاخرين .
و استقبلت ” تيزنيت في اكادير” ابن البلدة الملياردير و المسؤول الاول عن صندوق التنمية القروية المليء بالملايير ، استقبال الملوك ، بالورود و الهتافات و الاهازيج و الزغاريد و اغاني المديح ، و التسابق لاحتلال الصفوف الامامية و أخذ صور تاريخية مع معاليه في حفلة التسويق هذه .
طبعا ، فلا علاقة للطفل عبد الاله بهذه الحفلة ، و لم يكن ممن حضروا اطوارها ، كان وقتها فقط يقضي عطلته وسط الواد ، الذي يخترق بلدة الوزراء ، و لم يكن يدري انه على موعد مع الموت كان ينتظره هناك .
غادر مقعده الدراسي ، بابتسامته البريئة لآخر مرة ، و ودع معلمه و زملاءه في القسم الوداع الاخير .
وسط مدينة تافراوت ، واد لن تنتهي به الاشغال حتى يعصف بالجميع ، و لا زال ورشا مفتوحا على كل الاخطار دون ان يعرف احد الى متى ؟ هناك داخل الورش اطلق عبد الاله صرخته الاخيرة ، و سالت دماء ه و اختفت جثته الصغيرة تحت الحاجز الحديدي الثقيل الذي هوى عليه و هو يلعب مع اصدقاءه .
لم يكن عبد الاله محظوظا ، مرة اخرى ففي الوقت الذي يتألم فيه و ينتظر الاغاثة ، هناك من يلعب الكرة في مكان لائق و آمن لا يشعر بما يشعر به عبد الإله ، و غير آبه به . و هناك من لازال منتشيا تحت تأثير الرعشة الكبرى ل “أيام تيزنيت في اكادير” ، يعدد الغنائم و يتصور تأثيراتها المستقبلية ليس على السياحة و الاستثمار في الاقليم ، بل على اختيارات الناخبين في استحقاقات 2021 .
قيل ان عبد الاله وصل الى المركز الصحي محمولا على ظهر اخيه ، بعد فشل كل نداءات الاستغاثة ، و منه الى تيزنيت في سيارة اسعاف قديمة تخصص غالبا لنقل المشردين و المختلين عقليا الى وجهات غير معلومة .
هكذا كتب لعبد الاله ان يسافر لأول مرة نازفا مهشم الرأس في غيبوبة على متن احقر سيارة اسعاف .
و مات قبل ان يصل الى تيزنيت . في هذه المدينة يوجد المستشفى على بعد مائة و سبع كيلومترات من طريق ليست على احسن حال .
وصل خبر وفاته و عم الحزن و الاسى ، خرجت النساء للتنديد و الاستنكار و رفع المطالب الدائمة التي هي في الاصل حقوق : مستشفى ، ماء ، طريق ، كرامة . و صرخات استغاثة موجهة صراحة لوزراء البلدة في الحكومة : سعد الدين العثماني رئيس الحكومة ، و عزيز اخنوش وزيرها القوي .
التحق بهن من التحق ، و بقي الاخرون يراقبون الحدث عن بعد ، و يتهامسون : ” و الله انهن على حق … ختيد كاد اسن اكان “.
النساء مرة اخرى من لا يجد حرجا للاحتجاج و المطالبة بالحقوق في تافراوت .
نعم النساء ، لكن عبد الاله مات ..
لم يعد الى قسمه في المدرسة ، بقي مقعده شاغرا يحكي قصة طفل ذهب ضحية التهميش و الفقر ، قصة تلميذ يحلم كباقي اقرانه بمستقبل مشرق ، ليخلص والدته و اسرته الصغيرة من العناء وضيق ذات اليد . خيم الحزن على زملائه الصغار و لم يصدقوا خبر رحيله بعد .
رقت قلوب سياح القوافل المرابطين قرب المقبرة لحالة امه المكلومة على فقدان ابنها ، فتحركوا على وجه السرعة و علقوا يافطة في مخيمهم تدعوا الجميع للمساهمة في تقديم العون و مواساة الاسرة الفقيرة كل بما استطاع . يتحسرون كيف يعامل الانسان في هذه البلدة الجميلة ، و كيف يموت اطفالها دون حماية و كيف يدفنون .
دفن عبد الاله ليلا و البرد قارس ، في المقبرة هامش المدينة حيث لا كهرباء هناك و لا ضوء إلا ضوء المصابيح ، لما خلا الشارع و انصرف الناس الى بيوتهم مشى في جنازته الجيران و بعض معارف الاسرة ، و عادوا بعدها الى بيوتهم .
غريب امر هذه البلدة ؟
تتوالى فيها الماسي ، و تتوالى الحفلات ، بالأمس و في عز ” الانتصار لفنون القرية ” لقي الطفل عمران اشيبان نفس المصير ، و بالأمس كذلك احترقت واحة ايت منصور ، و الناس يرقصون في ساحة المهرجان ، و اليوم مات عبد الاله و مسؤولو الاقليم لا زالوا منبهرين بالبدعة الجديدة ” ايام تيزنيت في اكادير ” . فكيف استطاعوا نقل اقليم بكامله الى مدينة اخرى ؟ و لم يستطيعوا نقل المرحوم عبد الاله الى المستشفى ؟

أي الم ستتحمله ام لقي طفلها مثل هذا المصير و جراح فراق زوجها لم تندمل بعد ؟ أي مسؤول يستطيع النوم مرتاح الضمير امام ماسي تقع كهذه و بين يديه حلول و إمكانيات يمكن ان تحول دون وقوع هذه الماسي؟ ، أي مسؤول هذا الذي يملك ميزانيات ضخمة تحت تصرفه و يبذرها في الرقص و الغناء و الفرجة ، في وقت يفتقد فيه المواطنين لأبسط حقوقهم ؟ أي بلد هذا الذي يموت اطفاله هكذا ، و يدفنون ، عوض ان يأخذوا مكانهم في مقعد الدرس محاطين بكامل العناية ؟
الحياة و الموت قضاء و قدر ، لكن عبد الاله مات لأنه يسكن في تافراوت ، مات لأنه مجرد طفل فقير ، كان عليه ان يولد في مكان اخر و في اسرة ميسورة ، كان عليه الا يتطاول على الاشغال وسط الواد ، كان عليه ان يلعب الكرة قرب المستشفى حتى يبقى على قيد الحياة .
رحم الله الطفل البرئ عبد الاله باحنيني ، و الهم والدته و ايانا الصبر .
تافراوت:محمد قاسمي

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.