بقلم لبنى الفلاح فاعلة سياسية وحقوقية
العنوان هو بيتٌ زَجَلِي من قصيدة للشعر العامِّي رددتها مجموعة «السِهام» في إحدى روائعها الخالدة «الماضي ما يْفُوتْ». الحديث عن مجموعة «السِهام» أكيد سيُعيد شريط ذاكرتكم إلى الوراء إلى جيل السبعينيات، حيث سطع هذا النوع من الأغاني المُلتزمة ذات النفس السياسي المحض لأكبر الفرق الغنائية المغربيّة وأكثرها شعبية آنذاك. فمن منكم لم يتذكر الٱن، مجموعته المفضلة «ناس الغيوان» أو «المشاهب» أو «جيل جيلالة» أو «لرصاد» أو «مسناوة».
جوهر الحكاية في العنوان/ البيت الزجلي أعلاه، أن اليد الخَيِّرَة لن تجْني إلا خيرا وحارثُ الشرِّ لن يحصد غير الشر والدمار، وأن قانون الطبيعة ومشيئة الله في خَلقِه تبقى هي الأقوى، والسلطة بكل أنواعها وأشكالها لا يمكن البَتَّة أن تحجب وتَقِي المرء عوائد الزمن وتقلباته ومما صنعته يده، تماما كما هو جارٍ مع أكبر المشهرين في البلد؛ من أراد قتل رمزيا مواطنين آمنوا بمغرب الحقوق والحريات لا بـ«مغرب الحشيش»، فوجدوا أنفسهم مُغيَّبِينَ في السجون، ونعني هنا طبعا: «أبو وائل» الذي يعيش أحلك أيامه بعد انتشار أخبار عن استدعائه من طرف الفرقة الوطنية للشرطة القضائية للاستماع إليه في قضية لها علاقة برئيس الوداد البيضاوي سعيد الناصري المتورط، بدوره، في قضية «بابلو إسكوبار الصحراء» أو «المالي».
بحسب التسريبات التي تصلنا عن طريق الصحافة وعبر مواقع «السوسيال ميديا»، فما صنعته أيدي المتورطين في ملف «المالي» كثير ومفزع جدا.
عشرات المتورطين في الملف، يتحسسون رؤوسهم اليوم ويقرأون اللطيف مما قد تقع عليه أعينهم بالشبكة العنكبوتية، بعد انتشار أخبار عن وجود آلة تصوير لأجسادهم وللحظات النشوة بكؤوس الخمر. وكم هو مُحرج عندما يتكلم الكأس في شؤون الدولة على لسان مسؤول مُنْغمسٍ حتى أخمص قدميْه في نعيم السلطة.
أكبر المشهرين بالبلد، غَاضَه أن يتحدث الناس عن استدعائه للاستماع إليه من طرف الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، بل خرج يُرْغِدُ ويُزْبِدُ عبر بلاغ مُقتضب يهدد بأن الاستماع سيكون لمن تناقلوا الخبر لا له. غير أن الغريب أن من أغضبه نشر أخبار وتدوينات عنه، هو نفسه من كانت كاميرا موقعه الوردي تتربّص بمعتقل الرأي الصحفي الاستقصائي عمر الراضي بشوارع الدار البيضاء أو تتبع خطواته لحظة خروجه من مقر الفرقة الوطنية بذات المدينة الغُولْ. وهو نفسه من أعلن أن عمر الراضي سيأكل شواء عيد الأضحى «بولفاف» في زنزانة بالسجن قبل أن يقع ذلك فعلا، كما أنه صاحب الموقع ذاته الذي وثق لحظة اعتقال الصحفي سليمان الريسوني مدير نشر «أخبار اليوم» التي أعدمت بعد اعتقال مؤسسها الصحفي توفيق بوعشرين. ثم كان الموقع عيْنُه إلى جانب وسائل إعلام محسوبة على الأجهزة أو مقربة من صقور المربع الذهبي، قد أعلنوا غير ما مرة عن اعتقال الأصوات الناقدة لسياسة البلد من مدونين ومدافعين عن الحقوق والحريات حتى قبل أن يتم ذلك؛ بل ونشروا الكثير عن متابعاتهم وشاركوا حملات إعلامية مُمَنهجة تُلَطِّخُ سُمْعَاتهم بنشر أخبار تتعلّق بقضاياهم الأخلاقية سواء أكانت حقيقية أو مُفْتَعَلَة.
هذا النوع من صحافة التشهير – البلطجة، نشر على مَرِّ سنوات مئات المقالات تحتوي إهانات بذيئة ومعلومات شخصية عن معتقلي الرأي بالمغرب أو نشطاء حقوق الإنسان أو سياسيين غير مُهَادِنِين، وتكشف عن مستندات بنكية ومِلكية أراضي ولقطات شاشة لرسائل خاصة، ومزاعم عن علاقات جنسية مفترضة أو تهديدات حول كشفها، وهُوِية الرفقاء وتفاصيل عن السير الذاتية التي تعود أحيانًا إلى مرحلة الطفولة، بالإضافة إلى معلومات عن آباء المستهدفين وزوجاتهم وأقربائهم.
بل إن هذا البوق، قد قام في دجنبر 2020 بنشر فيديو حميمي مركب للنقيب السابق لهيئة المحامين بالرباط محمد زيان، وترويجه، علما أن البُندين السادس والتاسع من ميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة بالبلد يمنعان منعا كليا «الترويج لصور الخلاعة أو جعل القاصرين هدفا لأشرطة مصورة تتضمن العنف والميوعة وانحدار القيم الإنسانية». وعلما أن الفقرة الثانية من الفصل 447 -1 من القانون الجنائي تنص على أنه «يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من 2000 درهم إلى 20 ألف درهم كل من قام عمدا وبأي وسيلة، بتثبيت أو تسجيل أو بث أو توزيع صورة شخص أثناء تواجده في مكان خاص، دون موافقته». وعلما أن الفصل 447 -2 من نفس القانون يقضي بأنه «يعاقب بالحبس من سنة واحدة إلى ثلاث سنوات وغرامة من 2000 إلى 20 ألف درهم، كل من قام بأي وسيلة بما في ذلك الأنظمة المعلوماتية، ببث أو توزيع تركيبة مكونة من أقوال شخص أو صورته، دون موافقته، أو قام ببث أو توزيع ادعاءات أو وقائع كاذبة، بقصد المس بالحياة الخصة للأشخاص أو التشهير بهم»، فماذا كانت النتيجة؟ طبعا، كل هذه الفصول من القانون تم رميها في سلة المهملات، وتم غض الطرف عن ناشر الفيديو بينما الضحية زُجَّ به في سجن «العرجات 1»، لأن لصاحب الموقع رَبٌّ يحميه في السلطة.
كنا ننتظر من ناشر فيديو النقيب زيان، وهو يشتكي من انتشار أنباء استدعائه للاستماع إليه في قضية الناصيري الذي له علاقة بـ«بابلو إسكوبار الصحراء»، أن يتحدث عن الموضوع ويُطلع الرأي العام عن حيثيات هذا الاستدعاء هل تم باعتباره شاهدا أم مشتكى به، ما دامت القضية ليست بالهَيِّنَة والاستدعاء جاء في سياق قضية تتعلق بزواج السلطة بأموال المخدرات وارتبطت أكثر بتكرار لسيناريو «الحاج ثابت» في صيغة رقمية ذكية وحديثة جدا، وإلا فإن الباب سيبقى مُشرّعا على كافة الاحتمالات والتأويلات.
جرْد ما اقترفه صاحب الموقع الوردي من جرائم البلطجة – التشهير، يكفي لمعرفة من ثَبَتَّ كاميرا التصوير في فيلا كاليفورنيا والغاية من تلك الأشرطة التي تم توثيقها، إن صح الأمر، والتي يقال في غياب أي نفي رسمي، أنها لم تستثنِ أيا ممن وطأت أقدامهم فيلا كاليفورنيا من النساء والرجال الموالين، على غرار تسجيلات العميد الممتاز في سلك الشرطة (الحاج ثابت) الذي أرعب نساء الدار البيضاء، فهل عرفتم من تقمص دور «الحاج الثابت» في فيلا كاليفورنيا الآن؟
ما يهم متتبع اليوم، في التسريبات التي وردت حول ملف الناصري و«بابو إسكوبار الصحراء»، ليس التسجيلات الحميمية لأنه يعرف جيدا من وراءها، ما يهم حقا هو معرفة كيف أن أموال المخدرات اخْترقت وخَرَّمَتِ السياسة في البلد. والأكيد أن معرفة حجم التحويلات المالية للحساب البنكي لسعيد الناصري المتورط الأول والتي تجاوزت ثلاثة ملايير من شأنه أن يجعل فَاهَ أي متتبع لهذا المسلسل مفتوحا. خاصة إذا كان هذا الشخص هو رئيس لمجلس عمالة الدار البيضاء – القيادي في حزب الأصالة والمعاصرة الحزب الذي أسسه في غشت 2008، الوزير المنتدب لدى وزارة الداخلية ٱنذاك، إلى جانب شخصيات سياسية ارتبط اسمها بـ«الحركة لكل الديمقراطيين».
تهمة المخدرات وأموالها التي تلاحق حزب الأصالة والمعاصرة أو بعضاً من قيادييه، ليست وليدة اليوم، ففي الأحد الأخير من شتنبر 2015 سيخرج عبد الإله بنكيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية لاتهام إلياس العماري الأمين لحزب الأصالة والمعاصرة، بتلقيه أموالا طائلة من تجار المخدرات، مستدلا على ذلك بتصريحات سابقة لحميد شباط عمدة مدينة فاس والكاتب العام لنقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، وقتها في شتنبر 2011، والذي اتهم بدوره إلياس العماري وشخصيات نافذة أخرى بالانتماء لشبكة تتاجر في المخدرات الصلبة، وطالب بفتح تحقيق حينها.
صراع سياسي بنكهة الحشيش لخص الوضع الحقيقي للبلد ولسياسة نخرتها أموال المخدرات، بغض النظر عن أن تقارير رسمية وطنية ودولية تحدثت عن أن بلدنا التي توجد بأقصى غرب شمال إفريقيا تُعد أكبر منتج للحشيش، وأن هذه التجارة تُدِرُّ رِبحا كبيرا على شبكات التهريب النَشِطَة عبر محور الساحل مرورا بأراضي الصحراء وموريتانيا والجزائر.
واقعة «بابلو إسكوبار الصحراء» التي طفت السطح، تدفع للتساؤل عما إذا كانت البلد قد أصبحت كَبوليفيا والمكسيك وكولومبيا وغينيا بيساو وفينزويلا ونيجيريا وغانا وأمريكا الشمالية وغرب إفريقيا.. وغيرها من «دول المخدرات» بالمفهوم السياسي والاقتصادي للمصطلح، حيث تنتعش عصابات المخدرات كالكوكايين والماريخوانا، وتقوم منظمات غير قانونية بعمليات الإنتاج والشحن والبيع وتسيطر على مؤسسات بالرشوة أو الابتزاز، تماما كما نقرأ اليوم.
في «دول المخدرات» تستغل عصابات المخدرات الفقر وغياب الأمن لتكثيف نشاطها؛ الأمن كضامن لسلامة الأفراد والجماعات من الأخطار الداخلية والخارجية وكمؤشر على الاستقرار والازدهار والتقدم في الوطن، وليس كما يتم التسويق له في بعض الأنظمة سيما القمْعية منها، على أنه أهم من الطعام والشُرْبِ والنَفَسْ الذي يبقيك على قيد الحياة.
في هذا النوع من الدول يقوم مهربو المخدرات برشوة المسؤولين الحكوميين لتجاهل التجارة غير المشروعة، كما يتم توسيع قاعدة قوات الشرطة المنخرطين في النشاط وضَخّ مبالغ كبيرة من المال في الحملات الانتخابية، ودعم المرشحين المهتمين بالرشوة من أجل الحفاظ على سلامة الأعمال التجارية لبارون المخدرات، الذي يهمه أكثر كسْب علاقاتٍ ونفوذٍ سياسيٍّ أوسع؛ فالعلاقة بين السياسيين وأباطرة المخدرات قد تصل حدَّ تحالف يُجِيزُ أنشطة هؤلاء. وهو أمر قد يحيل على ملف «بابلو إسكوبار الصحراء» حيث ستخترق قوة وثروة تجارة المخدرات غير المشروعة مؤسسات لتجد لها امتدادا في السلطة والنفوذ: رئيس جهة، ورئيس مجلس عمالة، وأمنيون، ومسؤول حكومي، وبرلماني.. وعموما شخصيات نافذة في عالم السياسة والمال والسلطة ولوبيات في الصحافة، التي لولا تَزَلُّفُهَا للسلطة لكانت البلد اليوم قد بلغت مراتب جد مهمة في الاقتصاد والتجارة ولكانت قِبلة للاستثمارات وسُوقاً حُرّة للرأسمال العالمي.
المغرب في حاجة ماسة إلى صحافة تليق بمستوى المغاربة تكبح جِمَاحَ السلطة، لا «صحافة بلطجة» يشتغل الأُدْعِياء والوصوليون والمتسلقون فيها ليل نهار في محاولات للسيطرة عليها وتطويع المُمناعين من أصحاب الرأي والرأي الآخر بشتى طرق الترغيب والترهيب، لصالح الحكومات وأجهزتها ورؤوس الأموال؛ صحافة امتهنت كيفية تجهيل المواطنين وتزييف وَعْيِهم والاتجار بآلامهم ما دام الأمر تجارة رابحة ومربحة، وما دام التَمَسُّح بالوطنية في عقول قاصرين، ملاذا ٱمنا للتهرب من المساءلة والتقرب من السلطة، بعد الاغتناء طبعا من حَلْبِ الوطن.
مناقشة هذا المقال