بقلم الحيسن بوالزيت.
(………) لا يخلوا حديتها من ذكر اسمه والثناء عليه وعلى خصاله النبيلة وحكمته وصبره، قال خالي براهيم في الموضوع الفلاني، وأخبرنا ذات يوم بمسألة من مساءل الزمن الماضي، وقص علينا اخبار الذين سبقوا، وعلق خالي براهيم على واقعة سرقة الأغنام وقال في عنزة أبا عيشة كذا… وغيرها من مواضيع زمانه في الطفولة والطفولة المبكرة وفي سن الشباب، كما في سن الرشد واكتمال الادراك…
كل كلامها يبدو انه ينهل من حكمة الخال براهيم الذي ورثها الرجل من السلف، انه شيخها الذي علمها الحكمة، حكمة الأجداد، حكمة مدسوسة بين ثنايا متون شفاهية سوسية ماسية، أمثال تتدفق منها الحكمة وتنفجر منها الموعظة كأنها لغم، لغم منجر واصابت شظياه كل من في الجوار بالموعظة الحسنة والتربية على الخلق الحسن.
أستفسرها في امر من أمور الدنيا، وتجيب: سمعت خالي براهيم ذات يوم يقول لواحد من بطانته كذا وكذا… وانت يا بني ما عليك الا ان تفعل سوى ما فعله الخال براهيم في نازلنه التي تشبه ما تستفتيني فيه…. هي تتكلم وتجتهد في الإجابة وانا اتعجب من فصيح الكلام المنثور المتنور ومن الحكمة البليغة، وكأنني اسمع مرويات من زمن خالد اعقبه زمن شحيح، ما عاد الله ان يكون هؤلاء اميين، ويستحيل ان يكونوا قوما مروا من جاهلية؟؟؟؟
يقينا أن امتلاكهم للحكمة، يجعل الذين قدفوهم بالجهل والتخلف، ووصفوهم بالأجلاف دليل على غيرتهم من سمو ثقافتهم وحقدهم على حضارتهم العطرة، حضارة صقلت باتصالهم بشعوب أخرى… ممن هم اقل منهم في أشياء وأحسن منهم في أشياء اخرى وقطعوا فيها اشواطا….
معارفهم، ثقافتهم، واصول علمهم للسؤال؟
كلام الخال براهيم، ينها من بعيد، ويغرف من معين ثقافي راقي تنساب ميها من تجويفات طبقات الماضي المشرق، وشكل جداول مستقيمة في اتجاه المستقبل، جداول اقسمت على إيصال رسالة الكلام العذب الى الأجيال المقبلة كما توصل مياهها العذبة الى الحقول العطشى، وها هي الرسالة قد وصلت.
يبدوا ان الخال براهيم أنفق كل وقته في تربيتها وتعليمها وتمكينها من سر الاولين، من ثقافة وعلم، ولطالما اثنت عليه وعلى سعة اطلاعه في مجال العلوم الشرعية والفقه وعلوم التوقيت والحساب والارث… ثنتي عليه وتعتصرها الحصرة من انحصار الحكمة وتوحش الناس، وتحكي نوادره بكثير من الأسى من انتشار الكلام الفارغ وسطوة أصحاب الذنوب والمعاصي واختفاء الكلام الموزون وتسلل اليأس الى النفوس وهلاك الناس بالفقر والمال.
وانا اسمع كلامها أتسمر مندهشا ويدفعني كلامها لأتسلق شواهق قمم الأسئلة، من أين أتت بكل هذه الحكمة؟ ومن يكون الخال براهيم هذا؟ هل وجوده التاريخي كان حقيقة او مجرد شخصية اسطورية ينحدر من عوالم الخيال والاسطورة؟ لا انه حقيقة ووجوده التاريخي مؤكد، انه خالها…. ولكن من علمه الحكمة؟
أتسأل بداخلي، واطرح السؤال، وتعلم هي بفراستها انني ابحث عن جواب. وتكرر قال خالي براهيم (…..)، جواب يصيبني بدوار اشبه بالدوار الذي يحس به راكب حافلات الزمن البعيد، زمن ندرة الحافلات وغلاء أثمنة تذاكرها، دوار يشبه كذلك من تسلق لأول مرة شواهق الجبال واستحال عليه بلوغ القمة ووقف في بطن الجبل منتظرا فرجا من عند الله….
فهمت الان ان السيدة تهدبت بحكمة الخال براهيم، حكمة ورثها من الذين سبقوه، اجداده واباءه من الحكماء، عندما كانت الحكمة مشاعة بين الناس ويتكلف الواحد منهم بإيصالها الى الأجيال اللاحقة، وكانت هي من الجيل الذي تتلمذ على يد الشيخ براهيم واخذت منه الموعظة الحسنة التي هدبت ايمانها وروحها، وفق منهج الاولين… وسرت أنا المهووس بالتاريخ وبأخبار الازمن الماضية اتتبع اخبار الحاج براهيم من حفيدة له تنحدر من دوار “ايداولون” المستلقي على الضفة اليسرى لواد ماست.
اكتشفت سرا من اسرار الحضارة الامازيغية السوسية فجمعت من الاخبار ما يدل على حكمته وعلى منهجه في الحياة والتصوف، كما عترت على مؤشرات رجاحة عقله وتفوقه في العلوم الشرعية…. واجتنابه إيذاء الناس باليد واللسان واتقانه العمل اليدوي، ومشاركته في “تيويزي” و” أدوال”، وتناوبه معهم في “تاولا” او ” تايسا “، ومشاركتهم المبيت في البيدر أو “انرار”، وجر حبال “السينيت” و”ألوكاف” (قبل ان تتكلف البهائم بذلك وتعوض قوة عضلات الانسان)، في “تانعورت” أو النعورة.
كان محبا لفعل الخير، وحج بيت الله على الاقدام، كان مهدبا ولا غرابة في ذلك لانه خريج ديوان التهذيب المفتوح الذي مكانه الفضاء الثقافي الماسي السوسي المفتوح، يأخد منه الجميع في “ايكَران” أثناء الحرث والحصاد، وفي “أنرار” أثناء قيام ملاحم “الروا”، والمناداة على “واهياهو” (يبدو انه إلاه الرياح كان موجودا في المنطقة قبل دخول الإسلام، غير ان استعماله اثناء الدرس في البيدر استمر الى حدود السنوات الأولى من تسعينيات القرن الماضي)، ليهب ويفصل الزرع “إمندي” عن “تيليبوت”، ولا غيث الا من عند الله وحده، هو مالك الموث والانبعاث.
تقول ان الحاج براهيم عندما يتكلم، كأن القدر ينطق من خلاله، وهذا جزء من اللغز قد انفك الان في سيرة الحاج براهيم خال الوالدة… انه كالشجرة المباركة هو شيخها الذي علمها الحكمة، حكمة ان لم تروق البعض فإنها تفي بغرضي انا، وتصل الي رسالتها ولا تتملص ابدا من مسؤوليتها في مسألة من مسائل الدنيا، ولا ترهقني ابدا عندما تحاول ان توصل الي مضمونها.
يتبع))
الحسين بوالزيت
صحفي وباحث في التاريخ
في 12 نونبر 2023.
مناقشة هذا المقال