عجبت لمن يتعمد محاسبة الاتحاد الاشتراكي بتاريخه ، والحال أن المطلوب مساءلته بناء على التزاماته السياسية المؤسسة على خياراته الجديدة وخطه المرحلي ، كهيئة حزبية ، خرجت منها أحزاب واندمج فيها قدماء أطر الحركة الماركسية اللينينية ، الخارجين من أحزابهم الأصلية ، هيئة حزبية قررت منذ واقعة تعيين عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أولا لقيادة تجربة التناوب التوافقي ؛ فالاختيار يفترض أنه واضح بالنسبة لمن يصارع ، عن قناعة راسخة ، من داخل المشهد السياسي ومنضبط لقواعد اللعبة دون أن يخفي إرادته ، وهو بذلك منسجم مع ذاته ؛ أما بالنسبة لمن يصارع ثقافيا أومذهبيا وتنظيميا ، باعتبار أن الأداة التنظيمية هياكل بمحتوى فكري ، فالحزب عرف تحولات كثيرة ، وتغير جلده بالتدريج منذ المؤتمر الوطني الرابع ، فلم يعد الحديث عن الاشتراكية العلمية كأداة للتحليل الملموس للواقع الملموس ، وحلت محلها الإشتراكية الديموقراطية ، كتوليفة للتخلي المتدرج عن استراتيجيا النضال الديموقراطي ، والذي كانت الانتخابات ضمنه مجرد واجهة ضمن العديد من الواجهات النضالية ( النضال السياسي الجماهيري والاجتماعي النقابي والمدني ..) ، ناهيك عن التخلي ، كنتيجة لإصرار أنصار ومنهدسي الخط الانتخابي ، عن مطلب الملكية البرلمانية ، يسود فيها الملك ولا يحكم ، كبديل لهيمنة الحكم الفردي ، َوالذي كان مطلقا خلال الستينيات ؛ قبل وقوع الانقلابات العسكرية ، أي قبل ان تضطر المؤسسة الملكية ، إثر فقدانها لقاعدتها الاجتماعية ، إلى إبرام تسويات مع المعارضة ،وبذلك تحول الحزب من معارضة الدولة في شخص رئيسها ، إلى معارضة وزارة الداخلية وأحزاب الدولة الإدارية الحاكمة بالتفويض (والدينية لاحقا) ؛ وكلنا يتذكر التبرير الشهير لدخول الحكومة بمقتضى التصريح للمحامي ( عضو مؤسسة دستورية عليا ) عندما قال ” لن نتخزز في المعارضة ، ولقد حان الوقت لكي نمارس السلطة وندبر الشأن العام ” ، والتاريخ شاهد على تداعيات مراجعة الخيارات ، من انتفاضات تنظيمية داخلية وانشقاقات . إذن الخيار كان واضحا منذ زمان ، لذلك لا يعقل أن نتعسف في جلد تاريخ الإتحاد الاشتراكي بأثر رجعي ، والحال أن قيادة الحزب الحالية وحتى التي قبلها لا تدعي أنها إشتراكية وفق أدبيات المؤتمرين الاستثنائي والثالث ، بدليل أنها تحرص على الجهر بالانتساب إلى اليسار أو الحداثة أو الديموقراطية ، دون زعم أي تقدمية أو ثورية . من هنا فالنسبية تقتضي الإقرار بأن الحزب حاليا ينتمي إلى تحالف سياسي في ظل أغلبية غير منسجمة ولكن يوحدها برنامج حكومي متوافق حوله ، مما يعني ان زاوية المحاسبة لا يعقل أن تتم على أساس المرجعية المذهبية الأصيلة . لقد تم الترويج بأن الاتحاد مات، او دجن ، ومع ذلك فأغلب ” مشاريع البدلاء ” من يروجون لهذه ” الحقيقة ” الإعلامية ؛ لازالوا يبنون مواقفهم على تكرار هذه الأسطوانة المشروحة ، والحال أنه يفترض أن هذا المصير سيلقاهم ، لأنه لكل بديل بدائل ، وهم في طريقهم إلى سلوك نفس المسار ، مادامت أحزابهم او تياراتهم تسعى إلى خيار ” النضال ” من داخل المؤسسات ، وهذا يشترط التحيين والتكييف ، فالنضال السلمي الديموقراطي سيفرض الانتقال من مطلب النضال من أجل السلطة وتغيير المنظومة السياسية ، إلى معارضة السلطة من داخلها ، ثم الى العمل على إصلاح النظام من داخل المؤسسات ، قد تكون برلمانا او حكومة ؛ تحت الإشراف العام للدولة و تحت رعاية ورقابة المجلس الوزاري ، باعتباره صاحب الاختصاص في القضايا المصيرية والحيوية للبلاد ؛ فلماذا يتوهم البعض نتائج مخالفة لمقدمات مؤطرة ومسيجة ببنية دستورية لا تتجاوز عتبة التكيف الهيكلي بدل سقف التحول البنيوي ، فهل من رهان آخر لأحزاب اليسار البديل و ، ” المتجذر ” نسبيا ، عن الاتحاد ، رهان غير الخروج من المعارضة التقليدية و الاندماج التدريجي في البنية ، في أفق تعاقد ظاهره إختلاف وتميز في الخطاب ، وفي عمقه الانضباط لقواعد اللعبة ” الانتخابية ” ، على غرار الأحزاب الأورواشتراكية ، محاكاة واستلهاما ؛ فكلفة المشاركة جلية ، وقد تهدد وتمس الحق في تحصين العذرية ، لذلك ينبغي الحرص في نقد الأخطاء بالتركيز على الممارسة المخالفة للخط السياسي أولا ؛ عوض مساءلة الأخطاء في مبدأ ، لم يعد له محل ، بأثر رجعي ، اللهم إذا كانت النوايا تتجه نحو تقويم ” الإنحراف ” حقيقة ، ورد الاعتبار للفكر الإشتراكي
و التقدمي ، وكذا لاستراتيجيةالنضال الديموقراطي ، والتي لها مقاماتها ومنهجيتها وأخلاقياتها ، مخالفة ومختلفة جوهريا عن تلك الأساليب التي تتطلبها النزعة الانتخابوية والشعبوية ، المبنية على براغماتية تحصيل المكاسب على الأنقاض .
ملحوظة في السياق :
أظن وبنسبية شديدة أن الجهاز القائم على تدبير شؤون حزب الاتحاد حاليا ، اختار مضطرا أن يدخل الحكومة بحقيبة واحدة ، بالنظر لوزنه ” الانتخابي ” وفي وزارة لم يعد لها نفس الوزن ، بعد استقلال مؤسسة النيابة العامة ،
ما عدا عرض مسودات مشاريع القوانين من باب الصلاحيات القطاعية ليس إلا ؛ والحال أن ما يهم الحزب إفتراضا ، هو الحضور ضمن تشكيلة المجلس الوزاري برئاسة الملك ، بعد أن كان محروما من هذا الامتياز في ظل حقائب كتاب الدولة الاتحادية السابقين ، مما يعني أن مركز الحزب داخل المشهد هو دور خلق التوازنات ( بنفحة حداثية ) داخل مشهد تتنازعه المواقع في سياق أمر سياسي واقع تتنازعه نزعة أصولية “مخزنية ” ونزعة ” دينية ” . فكثيرا منا يستنكر ترأس الاتحاد لمجلس النواب رغم الوزن الانتخابي ، فلأن الدولة في حاجة إلى سمعته التاريخية دون جغرافيته السياسية ، والخلفية واضحة ، وهي استثمار واستحضار شرط الشرعية الوطنية والتاريخية في مؤسسات سيادية كمجلس الوصاية والمجلس الأعلى للأمن . مما ينبغي معه وعي قيادة الحزب بمحدودية الأدوار وحدود الصلاحيات ، والحذر من مغبة الانزلاق في المحظور ، لأن تعدد جبهات المواجهة مضر بالإصطفاف كقضية وجودية .
مناقشة هذا المقال