تستحضر المبادئ الجوهرية المؤطرة للأوراش : 1-الوعي الجماعي بجسامة المسؤولية التاريخية ذات البعد الأخلاقي والسياسي والحقوقي لكل الفاعلين في الحقل الصحي، واستحالة تفويتهم للفرصة الاستثنائية المتاحة بفضل الإرادة الملكية السامية.
2-التنبيه إلى أن نبل أهداف الإصلاح يفرض على جميع المتدخلين تغليب المصلحة العامة والتزام أقصى درجات التجرد والحياد.
3-الحرص على تحصين مكتسبات المنظومة الصحية الوطنية وعلى منع التداخل في الاختصاصات الهيكلية والوظيفية.
4-الانتباه إلى أن المكامن الحقيقية لضعف المنظومة الصحية تتجسد في هشاشة وظائف الحكامة والتدبير والتنظيم والتخطيط والبرمجة والتمويل والرقابة، قبل أن تمتد تبعات وارتدادات تلك الهشاشة إلى وظائف العلاج والتأطير الصحي.
5-ضرورة اصطفاف الوزارة إلى جانب مهنييها لأجل انتزاع منظومة للوظيفة العمومية الصحية ترقى لتطلعات جميع العاملين بالقطاع وتنبني على منظور جديد يقطع مع المفاهيم السابقة ويبرز خصوصيات القطاع ويزيد من نجاعته.
6-استعجالية إصلاح منظومة التكوين في مهن وعلوم الصحة بكل تجلياتها العلاجية والتدبيرية والتقنية باعتبارها منبعا لإثراء الرأسمال البشري لقطاع الصحة وامتدادا عضويا طبيعيا للوظيفة العمومية للعاملين به
7-التأكيد على ارتباط وتقاطع محاور إصلاح المنظومة الصحية وإلزامية معالجتها وفق منظور شمولي مندمج غير قابل للتجزئة.
تقديم
انسجاما مع المنهجية والخط الاستراتيجي للجمعية الوطنية لمتصرفي قطاع الصحة، والمتمثلين في التطوع المستمر للمساهمة في إغناء النقاش المتعلق بإصلاح المنظومة الصحية، ونظرا لعدم التوفر على مسودة رسمية لما تهيؤه الحكومة من مشاريع نصوص قد تشكل أرضية لإبداء الرأي أو لتقديم الاقتراحات، ومثلما عبر عنه أعضاء مكتب الجمعية خلال اللقاء الذي جمعهم بالسيد مدير الموارد البشرية والأطر المرافقين له يوم الأربعاء 16 فبراير 2022، والذي تم خلاله تبادل بعض الأفكار العامة والتأكيد على جاهزية الجمعية للمساهمة في كل ما يخدم مصلحة القطاع ويرفع من قدرات المتصرفات والمتصرفين العاملين به، فإننا لا نجد بديلا عن التفاعل بجدية مع ما يتم رصده من محتويات تتضمنها بيانات أو تصريحات بعض المسؤولين، أو تنشر على البوابات الالكترونية أو على أعمدة الصحافة المكتوبة والمقروءة، أو ما يتم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي من محتوى يبدو منسجما مع ما يروج في دواليب الوزارة بشكل عام، أو ما يقدمه بعض أعضاء الحكومة أمام المؤسسات الدستورية والإعلامية من عروض.
وبناء عليه، ارتأت الجمعية تقديم هذه المذكرة التي تستلهم بعض عناصرها من تخوفات وانتظارات متصرفات ومتصرفي القطاع الصحي وذلك بغية التذكير ببعض المبادئ الأساسية الواجب استحضارها تفاعلا مع ما هو متوفر لحد اليوم من معطيات، مع التأكيد على استعدادها للمساهمة، في صياغة أو تجويد النصوص الإصلاحية المرتقبة إن ارتأت الوزارة الانفتاح على الهيئات المهنية الصحية في إطار المقاربة التشاركية التي أمر جلالة الملك أيده الله باعتمادها على أوسع نطاق.
- الوعي الجماعي بجسامة المسؤولية التاريخية ذات البعد الأخلاقي والسياسي والحقوقي لكل الفاعلين في الحقل الصحي، واستحالة تفويتهم للفرصة الاستثنائية المتاحة بفضل الإرادة الملكية السامية
منذ المناظرة الوطنية الأولى التي نظمت سنة 1959 والتي أرست أسس المنظومة الصحية الوطنية، عاشت هذه الأخيرة في تاريخها محاولات إصلاحية متتالية أنتجت مكتسبات مهمة لا يمكن إنكارها، وأفرزت قيادات ومهارات علاجية وتدبيرية عالية، ومكنت القطاع من مواجهة تحديات تطورت حدتها بتطور المجتمع وحاجياته. غير أن تلك المحاولات ارتطمت بداية بالتبعات السلبية لمخطط التقويم الهيكلي قبل أن تصطدم بعد ذلك باضطراد الحجب الغير مبرر للموارد عن القطاع الصحي، وبمحدودية التنسيق الميداني والبينقطاعي. كل تلك المعيقات أضعفت قدرة الوزارة المختصة على إحداث التغيير النوعي الذي يحتاجه القطاع رغم الإرادة والنوايا الحسنة، مما أفرز إحباطات عميقة لدى المرتفقين ولدى المهنيين بمختلف تصنيفاتهم، وأصبح القطاع مهددا بالانهيار في زمن لم يعد يتحمل الآثار الوخيمة لغياب منظومة صحية وطنية قوية تغطي حاجيات المواطنات والمواطنين، وتواكب التطور العلمي والتكنولوجي وتحقق الأمن الصحي وتساهم في تقليص الفوارق المجالية وفي خلق الثروة وفي تطور المجتمع.
ومنذ أن جدد جلالة الملك نصره الله أوامره السامية للنهوض بالقطاع الصحي وفق منظور شمولي ومندمج، وجعل من ورش الحماية الاجتماعية ورشا ملكيا يسهر عليه جلالته شخصيا، لم يعد هناك مجال لإصلاحات سطحية تعالج الأعراض الخارجية دون النفاذ إلى عمق الداء، أو لإصلاحات جزئية قد تخطئ ترتيب الأولويات، أو قد تغفل ترابط وتقاطع عناصرها؛ وإنما وجب على كل مسؤولي القطاع والمؤسسات التابعة له، وعلى جميع الهيئات النقابية والجمعوية القطاعية وعلى كل الجهات الحكومية والغير حكومية المعنية، التسليم بأن المنظومة الصحية الوطنية تمر بأخطر منعرج حاد في تاريخها وبأن مسؤوليتهم مشتركة وذات أبعاد أخلاقية وسياسية وحقوقية، ستتذكرها لهم الأجيال المتعاقبة، وتحاسبهم على مدى تحملهم لها وعلى مدى صمودهم أمام مبررات قد تحكمها مصالح آنية أو إكراهات ظرفية عابرة، ومدى تخطيهم لفخ التوافقات التي قد تخلق أمرا واقعا يصعب تداركه، وعلى درجة وعيهم بأن ما يتبنوه اليوم من قرارات ويمررونه من نصوص سيرهن مستقبل المنظومة الصحية الوطنية لعقود قادمة.
إن على جميع المعنيين إذن، عدم إخطاء الموعد مع التاريخ، وعدم تفويت هذه الفرصة التي يشملها جلالة الملك حفظه الله برعايته السامية، بل عليهم تدبير هذه المرحلة الحاسمة أحسن تدبير وتجنيد كل الطاقات المتوفرة لديهم لتحقيق إصلاح شمولي تؤطره نصوص دقيقة تقطع مع كل المفاهيم السابقة وتحدث نقلة نوعية تمنح المغرب منظومة صحية جذابة تحصن مكتسبات القطاع الصحي العمومي وتتحلى بالجاهزية للتأقلم بمرونة مع كل المتغيرات، وتستجيب دون تمييز لتطلعات كل مهنييها وترفع الحيف عنهم، وتحفزهم وتمنحهم الأمان، وتشجعهم على الانخراط في مشروع إصلاحي مشترك يتملكون عناصره ويتجندون معا للدفاع عنه أمام كل المحافل حينما يقتنعون بأنه يحفظ لهم مكانتهم وحقوقهم كاملة غير منقوصة، ويراهن عليهم كقوة دافعة ترقى بالمنظومة الصحية العمومية لأعلى المراتب وتساهم في نجاعتها وفي إضفاء الجاذبية عليها وفي الرفع من قدرتها التنافسية.
- نبل أهداف الإصلاح يفرض على جميع المتدخلين تغليب المصلحة العامة والتزام أقصى درجات التجرد والحياد
منذ أن أصدر جلالة الملك أوامره السامية بتنزيل ورش الحماية الاجتماعية الشاملة وإعطاء الأولوية لتعميم التأمين الإجباري عن المرض وما يقتضيه من إصلاح جذري للمنظومة الصحية، يسجل كل المتتبعين بعض التصريحات المتواترة التي تثير عدة تخوفات لأن بعضها قد يفهم على أنه إشارة تروم تقزيم دور القطاع العمومي للصحة مقابل تقوية وتضخيم أدوار متدخلين آخرين، مما يثير تساؤلات حقيقية حول منظور الحكومة لمستقبل القطاع الصحي العمومي برمته، ويفهم البعض الآخر منها على أنه محاولة لتمرير إجراءات جزئية من شأنها الاستجابة الفورية لمطالب فئة معينة دون باقي الفئات بغرض تحييدها، مما يكرس منطق الفئوية ويوسع الهوة بين مهنيي الصحة الممارسين أحيانا لنفس المهام والوظائف. كل هذه التخوفات تعمق الإحساس لدى المتتبعين بخطر فرض الأمر الواقع بسلبياته، وإخطاء الأهداف الحقيقية للإصلاح، وتفويت الموعد مع التاريخ مرة أخرى.
هذا، ونؤكد في الجمعية الوطنية لمتصرفي قطاع الصحة، بالنسبة للتخوف الأول، بأن المنظومة الصحية الوطنية لن تستقيم لها قائمة دون تعاضد ثلاث مجموعات من المتدخلين يكملون بعضهم بعضا ويفترض أنهم يضعون المواطن في صلب اهتماماتهم:
- قطاع عمومي مرن، ذو حكامة جيدة وتدبير احترافي وقيادة ذات كفاءة ومصداقية، مدعوم بترسانة قانونية تقوي أدواره الضبطية والرقابية، محكم التنظيم ومنفتح على محيطه، يمارس حصريا كل المهام السيادية ذات الصلة ويضمن للمواطن على كل التراب الوطني كامل الخدمات الصحية التي يحتاجها، ويوظف كل الآليات المسهلة للشراكة والتعاون والتنسيق مع باقي الفاعلين.
- قطاع صحي خصوصي ربحي تحكمه الأخلاقيات المهنية وقواعد المواطنة والمنافسة الشريفة، ذو وضعية جبائية سليمة، يساهم في سد الخصاص وفي تحريك العجلة الاقتصادية وفي خلق الثروة، ويخضع للضوابط التي تفرضها السلطة الحكومية المختصة ولرقابتها، ويمتنع عن أي ممارسة تستنزف جيوب المرتفقين أو تشوش على القطاع العمومي أو تستغل موارده.
- منظومة داعمة يؤثثها القطاع الخاص غير الربحي ومكونات المجتمع المدني ذات النفع العام المهتمة بالقطاع الصحي والمستفيدة أحيانا من دعم السلطات العمومية أو من إعفاءات ضريبية أو من تمويل الصناديق السيادية، شريطة أن تخضع للرقابة وللضوابط التي تفرضها السلطة الحكومية المختصة، وأن تدعم القطاع العمومي الصرف وتساهم عند الاقتضاء في سد الخصاص بناء على اتفاقيات للشراكة والتعاون وألا تدخل في منافسة غير مشروعة مع القطاع الخصوصي الربحي.
كما نذكر من جهة أخرى في شأن التخوف الثاني بأن الجمعية ما فتئت تثير الانتباه إلى ضرورة إحقاق المساواة والإنصاف في التعامل والتجاوب مع مطالب الفئات المهنية للصحة بمجملها، وإلى أن مبدأ العدالة الأجرية والعدالة في التعويض عن الأخطار المهنية والوظيفية، هو مبدأ أساسي تتمسك به كل الفئات المهنية، ونؤكد بأن الظرفية الحالية يفترض أن تكون محطة لرص الصفوف وللإقرار بأن الفوارق في منظومة الأجور وفي التعويض عن المخاطر المشتركة والمخاطر ذات الصلة بطبيعة المهنة لم تعد مقبولة. فمعيار الرصيد الأكاديمي وطبيعة المهام والوظائف والمسؤوليات يفرض نفسه، ومن الطبيعي أن يعطي الحق في أجر مناسب ومتساوي لفائدة كل من يستوفي نفس المعايير إعمالا لمبدأ «لنفس الرصيد الأكاديمي نفس الدرجة ولنفس المهام نفس الأجر”، مثلما يفترض أن يعوض مهنيو الصحة بنفس القدر ودون تمييز عن المخاطر المهنية العامة أو ذات الصلة بمهامهم الوظيفية إعمالا لمبدأ “لنفس الخطر نفس التعويض”. فالمخاطر لا تنحصر فقط في التعرض للإصابة بالمرض أو العدوى وإنما تشمل أنواعا أخرى لا تقل خطورة وحدة وتمس المهن التدبيرية للموارد الاستراتيجية وما يحفها من إغراءات وإكراهات يومية والتي غالبا ما تكون عواقبها وخيمة على المعنيين وعلى المنظومة ككل في حال التعرض لها والسقوط في براثنها.
ولا يفوتنا أن ننبه إلى أن المتصرفات والمتصرفين العاملين بقطاع الصحة يشكلون الفئة الأكثر تضررا داخل المنظومة الصحية، وما فتئوا يثيرون الانتباه إلى اللامبالاة التي تقابل بها مطالبهم، وإلى التبخيس الذي يطالهم من خلال إقحامهم عنوة ضمن مسمى “الفئات الأخرى أو الإداريين” وإلى الحيف الذي يعانون منه من الناحية الأجرية ومن ناحية التعويض على المخاطر المهنية العامة والخاصة، مقارنة مع باقي الفئات التي قد تمارس مهام مماثلة أو أقل حساسية ومشقة. ويكفي لأي مهتم أن يقارن شبكات الأرقام الاستدلالية وقيمة الأجرة الصافية والتعويضات ليلمس حجم الغبن الذي يعاني منه متصرفات ومتصرفو قطاع الصحة.
وبناء على ما سبق ندعو الوزارة إلى انتهاز الظرفية الحالية ليس من أجل انتزاع مكتسبات جزئية لفئة معينة فقط، وإنما لرفع الحيف عن الجميع بعيدا عن أي ضغط خارجي أو اعتبارات فئوية أو عددية أو موازناتية، وأن تستبق التبعات السلبية لما تم الجهر به من تحقيق فوري لمطلب أجري لفئة معينة، علما بأن عددا من المنتسبين لتلك الفئة قد لا يمارسون في الواقع مهام علاجية أو قد لا يشتغلون أساسا بالقطاع الصحي، وأن تستدرك الأمر بالمعالجة الفورية لمطالب باقي الفئات والتي لا تقل عدالة أو استعجالا عن غيرها وفق مقاربة شمولية لا تدع أحدا على الهامش، باعتبار أن الإرادة والموارد إن توفرتا، يفترض أن تتوفرا لفائدة الجميع.
- الحرص على تحصين مكتسبات المنظومة الصحية الوطنية وعلى منع التداخل في الاختصاصات الهيكلية والوظيفية
لا يختلف اثنان أن المنظومة الصحية الوطنية حققت مكتسبات جسيمة في مجال الوقاية والتأطير الصحي بفضل برامج الصحة العمومية ومخططات الصحة القروية وخدمات الرعاية الصحية الأولية، التي مكنت كلها من تقريب الخدمات الصحية الأساسية لكافة المواطنين، ومن القضاء على عدد من الأوبئة والأمراض السارية وغير السارية، ومن تقليص وفيات الأطفال والأمهات إلى حدها الأدنى وساعدت بالتالي على تحسين المؤشرات الصحية التي تقاس على أساسها درجة نجاعة وفعالية المنظومة الصحية مقارنة مع حجم الموارد المخصصة للقطاع. كل تلك التجارب أكسبت مهنيي الصحة مهارات قيادية ميدانية وخبرة واسعة في تخطيط وبرمجة وتدبير خدمات القرب وفق مقاربة غير ممركزة تتناسب مع ما تتطلبه تلك الخدمات من إلمام عميق بمفاهيم الصحة العمومية وبآليات تدبيرها، والتي تختلف جذريا عن المنطق المؤطر للخدمات الاستشفائية. ذلك الاختلاف الذي برر على مر العقود الفصل التنظيمي والهيكلي بين شبكة مؤسسات الرعاية الصحية الأولية الثابتة والمتنقلة وبين الشبكة الاستشفائية بمختلف تدرجاتها، وجعل أي ادماج أو تذويب لهما في هيكل واحد وتحت قيادة واحدة أمرا غير واقعي وغير مضمون العواقب.
وبناء على ذلك، نرى في الجمعية الوطنية لمتصرفي قطاع الصحة أن على الوزارة تفادي كل ما من شأنه تغليب المقاربة الاستشفائية أحادية النظرة على المنظومة الصحية خلال تصميم الإصلاح التنظيمي والهيكلي. كما نقترح أن تتمسك بازدواجية المقاربة وبالتكامل بين حكامة العرض الصحي الأولي وحكامة العرض الصحي الاستشفائي، وأن ترتقي بخدمات الرعاية الأولية وما يرتبط بها من برامج وطنية للتأطير والوقاية الصحية ومن مخططات وطنية لخدمات القرب، وأن تدعم لامركزية واستقلالية القرار الميداني الخاص بالرعاية الصحية الأولية من خلال إقرار هيكل تنظيمي خاص بها، على أن تضع ميكانزمات للتكامل بينها وبين المؤسسات الاستشفائية بمختلف تدرجاتها، وفق مقاربة تأخذ بعين الاعتبار المميزات الجهوية وتفتح الباب أمام المهارات الميدانية المحلية للمساهمة في قيادة المنظومة الصحية.
هذا، وفي سياق آخر، لم يعد خافيا على أحد أن من مسببات ضعف المنظومة الصحية وعجزها عن مواجهة التحديات المتجددة هو ما يميز وزارة الصحة من تداخل في الاختصاصات المرتبطة ببعض الوظائف والمسؤوليات، دون اعتبار للتخصص المهني، ودون انتباه للمخاطر الناجمة عن ذلك التداخل الذي يمس بالخصوص المهام التدبيرية والرقابية قبل أن يتسرب تدريجيا إلى بعض الوظائف التقنية والعلاجية بدعوى نقص الأعداد وشح الموارد البشرية. وبسبب هذه الظاهرة اختفى كل ارتباط بين المؤهلات العلمية والدرجة الإدارية وطبيعة المهام، وغاب كل فرق بين من يقبع في أسفل الترتيب ومن بلغ مستوى التسقيف في درجته الإدارية مما أدى إلى فقدان مواقع المسؤولية لكل جاذبيتها وإلى عزوف الطاقات الفعلية عنها رغم حاجة المنظومة لهم ولكفاءاتهم.
ومن تمظهرات هذا التداخل في الاختصاصات، لم يعد غريبا أن يمارس نفس المهني وظائف متنافية فيما بينها أو أن يتحمل مسؤوليات ينظمها القانون لا تدخل ضمن اختصاصاته أو مؤهلاته، بل وقد تحف بها مخاطر جسيمة لا دراية له بها. وفي مشهد أقرب إلى السريالية، نجد في وزارة الصحة أن المصالح الإدارية المركزية والجهوية والإقليمية تعج بالأطر العلاجية من أطباء وصيادلة وممرضين في وقت تشكو فيه المراكز الصحية والمستشفيات من نقص مهول في الموارد البشرية العلاجية. ونجد بسهولة أن الطبيب قد يمارس مهام إدارية صرفة والمتصرف قد يمارس مهام علاجية صرفة، وقد يكلف الممرض بتدبير اللوجستيك والجراح بالشؤون العامة والتقني بمستودع الجثث وقد يعهد للمهندس الميكانيكي بتدبير الموارد البشرية وللصيدلي بالسهر على الصفقات العمومية وللإداري بتدبير المنظومة المعلوماتية وللمتخصص في الوبائيات بترأس مصلحة الاستقبال والفوترة، وللنفساني بمسك الحسابات وللمهندس الزراعي بالتخطيط للبرامج الصحية، وللمتخصص في الإنعاش والتخدير بمهام تدبيرية… إلى غير ذلك من الوضعيات التي لا توجد إلا بقطاع الصحة وتتسبب في الاحتقان وفي فشل البرامج الإصلاحية المهيكلة وتؤدي إلى تعويم المسؤوليات وانتفاء المحاسبة وإلى غياب مقاييس موضوعية ثابتة لتقييم النجاعة والفاعلية مثلما هو متعارف عليه دوليا.
وبناء على ذلك، نقترح أن يتم القطع مع هذا الواقع المؤلم من خلال تضمين النصوص الإصلاحية ما يلزم من مقتضيات تضع حدا نهائيا لكل ما من شأنه إحداث تداخل في الوظائف وتعويم للمسؤوليات، وأن يتم الفصل بين العائلات المهنية المؤطرة للوظائف العلاجية التطبيبية والتمريضية والوظائف التدبيرية والوظائف التقنية الداعمة والوظائف البيداغوجية والوظائف الرقابية وغيرها، مع إيلاء كل واحدة من تلك المهن والوظائف ما تستحقه من اهتمام وتثمين وتحصين، وما يحتاجه ممتهنوها من تحفيز وتقدير ومراعاة لحقوقهم كاملة غير منقوصة. كما ندعو إلى إقرار ما يتحتم من قيود موضوعية مجردة وغير إقصائية على شغل مناصب المسؤولية بكل الهياكل التنظيمية لوزارة الصحة ووضع ما يلزم من آليات وميكانزمات تساعد على تدبير نقاط التقاطع والالتقاء والتكامل بين بعضها البعض وإقرار تدابير خاصة تهم الأطر ذوي التكوينات الجامعية المزدوجة والذين يشكلون قيمة مضافة ينبغي أن تنتبه الوزارة إلى وضعيتهم وأن تجد أفضل السبل لتوظيف كفاءاتهم في كل ما يساعد على تحقيق النجاعة والفعالية.
- الانتباه إلى أن المكامن الحقيقية لضعف المنظومة الصحية تتجسد في هشاشة وظائف الحكامة والتدبير والتنظيم والتخطيط والبرمجة والتمويل والرقابة قبل أن تمتد تبعات وارتدادات تلك الهشاشة إلى وظائف العلاج والتأطير الصحي
لقد سبق للجمعية الوطنية لمتصرفي قطاع الصحة أن نبهت بتاريخ 25/2/2014 من خلال مذكرة رفعت إلى علم السيد وزير الصحة إلى خطورة ما تعانيه الوزارة من خلل وعجز كبيرين في وظائفها الحكاماتية والتدبيرية والتنظيمية والرقابية وغيرها من الوظائف غير العلاجية، وما ينتج عن ذلك العجز من تشويه لصورة القطاع الصحي العمومي أمام المرتفقين، ومن إضعاف لقوة الوزارة التفاوضية حول ضخ ما يلزم من موارد استراتيجية لإصلاح الخلل وسد الخصاص البنيوي الذي تعاني منه. وقد نبهت الجمعية منذ ذلك الحين إلى أن الوظائف غير العلاجية ينبغي أن تكون محور كل إصلاح جدي للمنظومة الصحية، واقترحت على الوزارة اتخاذ عدة تدابير عملية لمعالجة تلك الإشكالية وعرضت عليها المساهمة في تفعيلها.
وقد سبق للجمعية أيضا أن قدمت مذكرات اقتراحية في شأن مسطرة التعيين في مناصب المسؤولية بوزارة الصحة تلتها عدة مراسلات وتوصيات رفعت إلى علم الوزارة كحصيلة لعدد من الأيام الدراسية نظمتها الجمعية والتي أكدت أن البحث عن نجاعة الأداء التدبيري بقطاع الصحة يمر بالضرورة من اعتماد مبادئ التخصص والاحترافية والكفاءة المهنية كقواعد أساسية في إسناد المسؤوليات المختلفة خاصة منها الحكاماتية والرقابية، وفق مقاربة شمولية تعتمد مبدأ الفصل بين بناء وتنفيذ القرار الحكاماتي والتدبيري وبين بناء وتنفيذ القرار العلاجي التطبيبي والتمريضي، وذلك انسجاما مع ما تفرضه الوزارة نفسها بمقتضى القانون 131.13 بالنسبة للوحدات الصحية بالقطاع الخاص حيث ينص الفصل 60 بصريح العبارة على ” … يجب أن تدار الشؤون غير الطبية للمصحة من قبل مسير إداري ومالي مؤهل لذلك…“، وقد نبهت الجمعية منذ ذلك الحين إلى أنه على الوزارة تبني نفس المقاربة في مصالحها والقطع مع ازدواجية الخطاب حينما يتعلق بإشكاليات التدبير في القطاع العام وفي القطاع الخاص.
هذا، ونؤكد مجددا بأن المكامن الحقيقية لضعف المنظومة الصحية تتجسد في الوظائف نفسها غير العلاجية، بل نزيد تأكيدا بأن عدم قدرة القطاع الصحي على تغطية حاجة المواطنات والمواطنين لخدمات مستمرة وذات جودة ومأمونية وموزعة بشكل منصف، و عجزه عن تحقيق نسبة محترمة من الاستقلالية المالية والتمويل الذاتي من خلال ميكانزمات التأمين الأساسي عن المرض ومن خلال عقلنة تدبير الموارد القليلة المتوفرة، لا يرجع أصلا إلى الوظائف العلاجية وإنما مرجعه إلى ضعف الوظائف الحكاماتية والتدبيرية والرقابية للقطاع، والتي تنعكس آثاره السلبية لا محالة على توفر وديمومة وجودة الخدمات العلاجية وعلى هزالة التدفقات المالية التي يفترض أن توفرها آليات التمويل المتاحة مقرونة بتدابير العقلنة والترشيد، ومرجعه أيضا إلى التبخيس الذي عرفته بعض هذه الوظائف وإلى التهميش الذي يمارس على القائمين عليها خاصة منهم هيئة المتصرفين الذين يفترض بحكم القانون أنهم مكلفون بمهام التأطير والإدارة والخبرة والاستشارة والمراقبة في إدارات الدولة ومصالحها اللاممركزة وبمهام إعداد وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية وتنشيط وتأطير وتنسيق مصالح الإدارة وتطوير قدراتها التدبيرية وإعداد البرامج والمخططات التنموية القطاعية وتدبير الموارد الاستراتيجية المتوفرة لها… الخ.
وبناء على ما سبق، نعتبر بأن الإصلاح الجذري للمنظومة الصحية لن يتحقق بالشكل المراد إلا بإعادة النظر في تركيبة وتنظيم الوظائف الحكاماتية والتدبيرية والرقابية بقطاع الصحة وبرد الاعتبار للمهنيين القائمين عليها من ذوي الاختصاص، ومعالجة أوضاعهم المادية والمعنوية، من جهة، ومن جهة أخرى، باعتماد مقاربة أكثر واقعية وجرأة للتعيين في مناصب المسؤولية بالمصالح المركزية واللاممركزة وبمؤسسات الرعاية الصحية الأولية والوحدات الاستشفائية بمختلف درجاتها، تفصل بين المسؤولية على الخدمات العلاجية والمسؤولية التدبيرية والمسؤولية الرقابية، مهما كانت طبيعة ومستوى المرفق المعني بذلك.
كما نحث الوزارة إلى المراهنة على هيئة المتصرفين لتحقيق أهداف النجاعة الشاملة باعتبارهم ذوي اختصاص وذوي تكوينات أكاديمية ومؤهلات مهنية مناسبة، وذلك بتحصين الولوج إلى وظائفهم من الأساس لتشمل بشكل حصري المجالات التدبيرية والرقابية، وصقل قدراتهم وإفساح المجال أمامهم لتحمل مسؤولياتهم كاملة وفق توصيف واضح يفصل بينها وبين المسؤوليات العلاجية، وبإيلائهم الاهتمام الكافي عند صياغة المشاريع الإصلاحية التي ينبغي أن تتضمن ما يلزم من مقتضيات تهم وضعية ودور متصرفات ومتصرفي القطاع الصحي وتبرز خصوصية وحساسية وظائفهم، وما يكتنفها من متاعب ويحيط بها من مخاطر لا تقل جسامة عن المشاق والمخاطر التي يتعرض لها القائمون على العلاجات.
- ضرورة اصطفاف الوزارة إلى جانب مهنييها لأجل انتزاع منظومة للوظيفة العمومية الصحية ترقى لتطلعات جميع العاملين بالقطاع وتنبني على منظور جديد يقطع مع المفاهيم السابقة ويبرز خصوصيات القطاع ويزيد من نجاعته
يشكل إحداث منظومة خاصة بالوظيفة العمومية الصحية مطلبا مركزيا نادى به كل مهنيي الصحة على مر العقود باعتباره مخرجا وحيدا للإشكاليات البنيوية التي تواجه القطاع. ويجد هذا المطلب حجيته في كون النصوص التشريعية والتنظيمية المؤطرة حاليا للوظيفة العمومية والنصوص الخاصة ببعض الفئات المشتركة بين الوزارات لا تأخذ بعين الاعتبار خصوصية وحساسية القطاع الصحي العمومي، بل تشكل في حد ذاتها عائقا كبيرا وعرقلة دائمة أمام كل المحاولات الإصلاحية السابقة وسببا في فشلها.
وبالرجوع إلى الملفات المطلبية لكل الفئات المهنية بقطاع الصحة (متصرفين ودكاترة علميين ومساعدين طبيين وأطباء ومهندسين وممرضين وتقنيين وتقنيي النقل والإسعاف الصحي وصيادلة ومساعدين إداريين ومساعدين تقنيين ومساعدي العلاج…) والتي عجزت الوزارة دائما عن تلبيتها رغم اقتناعها الأكيد بأحقيتها بدعوى مواجهتها من طرف بعض الجهات الحكومية بإكراهات مالية لم تمنع الحكومات السابقة من تسوية بعض الملفات القطاعية الأخرى كقطاع العدل والداخلية والمالية والأمن وغيرهم، أو بدعوى انكباب الحكومة على هندسة إصلاح شامل للوظيفة العمومية برمتها لم ير النور أبدا، نلمس جليا أن جميع تلك الفئات الصحية تشتكي من محدودية النصوص المنظمة لحياتها المهنية، بل وأن بعض الفئات من داخل القطاع نفسه تعاني من ظلم أكثر حدة مقارنة مع زملائهم بالقطاع أو مع أقرانهم بقطاعات أخرى ذات حساسية ومهام أقل إنهاكا وتعقيدا، والتي انتزعت نصوصا خاصة بها تمنحها امتيازات تشمل منظومة الأجور والتعويضات وميكانزمات التوظيف والترقية والتدرج الإداري والتحفيز …الخ.
وفي هذا السياق، نجدد التأكيد على أن مهنيي الصحة بتخصصاتهم المتنوعة والمكملة لبعضها البعض ليسوا مجرد شغيلة أو يد عاملة، وإنما هم رأسمال بشري ومورد استراتيجي لا غنى للوزارة عنه ولا يمكنها تأمين الحق الدستوري المستدام في الصحة للمواطنين من دون الحفاظ عليه وإثراءه. كما يغمرنا الأمل في أن تتحصن الوزارة بالمطالب العادلة لأطرها في وجه أي محاولة خارجية للضغط عليها، وأن تمتنع تماما عن صياغة أي مقتضيات سطحية أو ملغومة من شأنها أن تعمق الهوة بين العائلات المهنية وأن تزيد من تبخيس وتهميش الفئات المهنية التي تعاني أصلا من النصوص المشتركة الحالية.
هذا، وفي غياب صدور موقف واضح للحكومة أو للوزارة حول صدقية أو عدم صدقية ما يتم تداوله في محيطها وداخل دواليبها من وثائق يروج على كونها تعكس الأفكار الأساسية لمشروع الوظيفة العمومية الصحية، فإننا في الجمعية الوطنية لمتصرفي قطاع الصحة نطلب من الجهات الحكومية المختصة ومن داخل الوزارة تفنيد كل الشائعات بإعادة النظر كليا في المحتوى المذكور، وننبه بكل تحفظ إلى أن ما تتضمنه تلك الوثائق لا يعدو كونه معالجة سطحية للإشكاليات المطروحة، ونتأسف بشدة لكونها لا ترقى إلى انتظارات مهنيي الصحة، بل وتعمق جروح الفئات المتضررة من حيف النصوص العامة المشتركة الحالية. كما نؤكد أن السماح بترويج تلك الأفكار، يزيد في إذكاء الإحساس بالغبن والشعور بخطر إخطاء الموعد مع التاريخ وتفويت فرصة الإصلاح الجذري التي تعقد عليه كل الفئات المهنية آمالا كبيرة.
- استعجالية إصلاح منظومة التكوين في مهن وعلوم الصحة بكل تجلياتها العلاجية والتدبيرية والتقنية باعتبارها منبعا لإثراء الرأسمال البشري لقطاع الصحة وامتدادا عضويا طبيعيا للوظيفة العمومية للعاملين به.
سبق للجمعية الوطنية لمتصرفي قطاع الصحة أن أثارت في غير ما مرة انتباه الوزارة إلى إشكالية التكوين الأساسي والمستمر وارتباطها الوثيق بجميع مكامن ضعف المنظومة الصحية وذلك من خلال دراسة مستفيضة أعدتها الجمعية حول هذه الإشكالية ووضعتها رهن إشارة الوزارة، ومن خلال تقارير أيام دراسية ومذكرات اقتراحية أرسلت للوزارة في نفس الموضوع وفي شأن إعادة هيكلة المعهد الوطني للإدارة الصحية INAS وتحويله إلى مدرسة وطنية للصحة العمومية ENSP وفي شأن اعتماد نظام LMD بمعاهد التكوين التابعة لوزارة الصحة وما تثيره المقاربة الفئوية المعتمدة من تمييز بين مهنيي الصحة.
هذا، ونجدد التأكيد بأن إصلاح منظومة التكوين في علوم ومهن الصحة يشكل أولوية ضمن الأولويات باعتباره جزءا لا يتجزأ من تحديات الإصلاح الجذري لهذه المنظومة، ورافعة مركزية لبلوغ أهدافه، مما يستوجب اعتماد مقاربة شمولية جريئة تقطع مع الممارسات الفئوية الضيقة وتوفر للقطاع منبعا غير منقطع للموارد البشرية المؤهلة وفق المعايير الدولية والقادرة على مواجهة التحديات العلاجية والحكاماتية والتدبيرية المتجددة. كما نجدد دعوة الوزارة إلى تبني استراتيجية مندمجة متعددة الأبعاد تربط بين هندسة منظومة متكاملة للتكوين الأساسي التأهيلي والتكوين المستمر في علوم ومهن الصحة وبين التدبير التوقعي متعدد السنوات للأعداد والوظائف وطنيا وجهويا وبين تدبير المسار المهني وإسناد المسؤوليات لكل مهنيي القطاع بمختلف فئاتهم.
وفي هذا الإطار، نعتبر أن إصلاح منظومة التكوين من شأنه تحصين القطاع ووظائف مهنييه عبر تحديد وتصنيف المدارس والمعاهد والكليات العمومية والخاصة التي يتخرج منها المهنيون المؤهلون لشغل وظائف بقطاع الصحة (فلا يعقل مثلا أن يشتغل بقطاع الصحة خريج معهد الزراعة أو البيطرة أو خريج المعهد العالي للقضاء أو خريج كلية الشرطة أو خريج المدرسة الوطنية للتعدين والصناعات المعدنية أو خريج كليات ومعاهد ومدارس لا علاقة لتكويناتها وشواهدها بالاحتياجات الدائمة القطاع الصحي، بل إن قطاعات أخرى هي أولى وأقرب وأكثر احتياجا لكفاءات هؤلاء الأطر العليا). كما أن هذا الإصلاح يستوجب مراجعة الوضع القانوني للمعاهد التابعة للوزارة وإعادة النظر في مسالكها البيداغوجية وفي هيكلتها ومنحها الاستقلالية الضرورية التي تـمكنها من الحصول على موارد مالية ذاتية عبر واجبات تسجيل الطلبة الأجانب وعبر ما تنتجه من خدمات لفائدة القطاعين العمومي والخاص الوطني والدولي.
كما نجدد الاقتراح بأن تعمل الوزارة على تحويل معاهد العلوم التمريضية وتقنيات الصحة (ISPITS) إلى معاهد عليا جهوية لعلوم ومهن الصحة، يعهد إليها بمهمة إنتاج الأعداد الكافية لتغطية احتياجات المنظومة مركزيا وجهويا من أطر مؤهلة وفق المعايير الدولية لشغل الوظائف الميدانية التي تحتاجها هياكل ومؤسسات القطاع بمختلف تدرجاتها. ونؤكد أن تلك المعاهد لا ينبغي أن تبقى حبيسة نظرة فئوية تمييزية ولا أن يقتصر التدريس فيها على المهن التمريضية، بل يجب استغلالها لإحداث تخصصات وأسلاك بيداغوجية إضافية تتماشى مع خصوصية القطاع واحتياجاته الآنية والمستقبلية، وما يصاحب ذلك من تكوينات تكميلية وتأهيلية لاستكمال الخبرة وصقل القدرات. كما ينبغي أن تفتح جميع المسالك في وجه حملة الباكالوريا الجدد وفي وجه العاملين بالقطاع الراغبين في نيل شهادات أكاديمية والمستوفين لشروط تقرها الوزارة، على أن يخضع جميع المرشحين لاختبار القدرات قبل الولوج إلى تلك المعاهد.
وفيما يخص المدرسة الوطنية للصحة العمومية (ENSP)، فندعو الوزارة أولا وقبل كل شيء إلى رفع الظلم عن أفواج المتصرفين والممرضين والمهندسين والتقنيين حاملي دبلوم التخصص في الصحة العمومية والتدبير الصحي الذين تخرجوا من هذه المدرسة دون أن يعترف لهم بالحق في التعويض عن التخصص المعترف به لزملائهم في نفس الأفواج من فئة الأطباء رغم كل مرافعاتهم من أجل إحقاق حقهم وإخضاعهم لنفس المقتضيات المقررة لزملائهم والتي لم تستجب لها الوزارة بل تمسكت عكس ذلك بالمقاربة الفئوية التمييزية التي حان وقت القطع النهائي معها نظرا لكونها لا تنتج إلا الإحساس بالغبن ومزيدا من الاحتقان.
أما فيما يخص إصلاح هذه المؤسسة، فإننا نقترح أن يتم تحويلها الى مدرسة وطنية عليا لإدارة وحكامة النظم الصحية وأن تتم إعادة هيكلتها وتغيير وضعها القانوني لتصبح مؤسسة جامعية للتعليم العالي والبحث العلمي ذات صيت عالمي، يخضع كل طلابها وكل خريجيها بدون تمييز لنفس المقتضيات والشروط والحقوق والواجبات. وأن تهتم حصريا بإنتاج ما يحتاجه القطاع الصحي من كفاءات عليا مؤهلة لشغل المناصب السامية والوظائف الاستراتيجية في مجالات الإدارة والتخطيط والبرمـجة والتمويل والتشريع، وتهتم بتنشيط البحث العلمي التنموي في كل مهن وعلوم الإدارة والتدبير والاقتصاد السياسي الصحي، وتساهم في إعداد الأبحاث والدراسات الاستراتيجية وفي تطوير الخبرات الوطنية في ميادين التغطية الصحية وتصدير الخبرة المغربية إلى الدول الصديقة في إطار التعاون جنوب/جنوب أو التعاون الثلاثي. هذا، ويفترض أن تكون لهذه المؤسسة الجامعية المتخصصة في الحكامة والإدارة الصحية إشعاعا دوليا وامتدادات وفروع جهوية تمكن المهنيين المتوفرين على المؤهلات اللازمة من استكمال تكوينهم من خلال مسالك بيداغوجية وشواهد جامعية مكملة للشواهد العليا من قبيل MBA, DU, DEUST وغيرها.
- ارتباط وتقاطع محاور إصلاح المنظومة الصحية وإلزامية معالجتها وفق منظور شمولي مندمج غير قابل للتجزئة
اعتبارا للتحديات متعددة الأبعاد التي تواجه المنظومة الصحية، وضمانا للنقلة النوعية التي يتطلع إليها جميع المعنيين بالشأن الصحي من مرتفقين ومهنيين ومتدخلين من داخل وخارج القطاع، وجب ترتيب الأولويات في معالجة الإشكاليات البنيوية المطروحة وفق منظور شمولي ومندمج يأخذ بعين الاعتبار حقيقة ارتباط وتقاطع عدد من المحاور فيما بينها، خاصة منها تلك التي لها انعكاس مباشر على مهنيي الصحة باعتبارهم المورد الاستراتيجي الأهم للمنظومة الصحية. ومنها على الخصوص:
- إحداث منظومة متكاملة لوظيفة صحية لكل العاملين بالقطاع العمومي للصحة وتحفظ لهم مكانتهم وحقوقهم دون تمييز.
- إصلاح منظومة التكوين في مهن وعلوم الصحة بمختلف تجلياتها العلاجية والتدبيرية والتقنية.
- تصميم هيكلة إدارية مركزية وجهوية وإقليمية لوزارة الصحة تراعي تحديات النجاعة والفعالية ومبادئ التخصص والاحترافية وتضمن لكل الفئات حق تقلد المسؤوليات المناسبة لمؤهلاتها وبناء مسار مهني يضمن لها الأمان والاستقرار والطمأنينة.
- مأسسة قواعد متينة لتنظيم وتدبير العرض الصحي الوطني، تقوي أدوار القطاع العمومي وتحصن مكتسباته ومكانته، وتضبط علاقاته مع القطاع الخاص الربحي وغير الربحي وتقوي رقابة الدولة عليهما وتحدث آليات ناجعة للحكامة والتحكيم والحوار.
وفي هذا الإطار نعتبر في الجمعية الوطنية لمتصرفي قطاع الصحة أن المحاور المذكورة مرتبطة ارتباطا عضويا فيما بينها، وتغطي مقتضياتها بشكل كلي أو جزئي جوانب ذات حساسية عالية تدخل ضمن تطلعات كل العاملين بالقطاع، ونأمل أن تتم معالجتها في المرحلة الأولى للإصلاح دفعة واحدة دون تجزئة أو إرجاء، مع مراعاة تقاطعها وتكاملها وملاءمة النصوص المرتبطة بها./.
مناقشة هذا المقال