بقلم يوسف الطاهري: كاتب مغربي مقيم بفرنسا.
ليس مفاجئا أن يحذر الرئيس الفرنسي إيمانييل ماكرون في لقاء تواصلي مع الصحافة يوم الثلاثاء 31 مارس من الانتقادات التي تتعرض لها حكومته، واعتبر كل من يطعن في الحكومة فهو غير مسؤول ولا ينضبط للوحدة الوطنية المفروضة في الظروف الصعبة التي تمر منها البلاد. .
ويقصد بذلك الانتقادات الشديدة التي تقوم بها المعارضة و المتعلقة بطرق تدبير الحكومة لأزمة وباء كورونا المستجد والذي حصد مآت الآلاف من الأرواح في العالم. وكان الوزير الأول إدوارد فيليب قال بأنه لا يسمح لأحد ان يقول أن هناك تأخر في اتخاذ الإجراءات في مواجهة الوباء.
وتتجه فرنسا في اتجاه إيطاليا و اسبانيا حيث يتضاعف يوما بعد يوم عدد المتوفين و المصابين بالوباء منهم في حالات حرجة. حيث بلغ عدد المتوفين إلى حدود كتابة المقال 3523 وعدد المصابين بالوباء 52128 و تحتضن المستشفيات 52727 مصاب من بينهم 5565 حالة تحت العناية المركزة. كل ذلك في وقت لم يعرف فيه الوباء بعد ذروته. و تقول وزارة الصحة أن نهاية الأسبوع الحالي سيكون حاسما في تقييم و معرفة مستوى تطور الوباء في ظل الحجر الصحي العام المنفذ منذ يوم الثلاثاء 17 مارس .
تأخر الدولة في اتخاذ الإجراءات اللازمة و نقص الكمامات
و التجهيزات الطبية تشكل محور الانتقادات.
وحسب هذه الانتقادات فإن السلطات الفرنسية تأخرت في اتخاذا الإجراءات اللازمة في مواجهة تفشي الفيروس مباشرة بعد توسع انتشاره في الصين. وحسب استطلاعات للرأي قامت بها شركة « إيبسوس » فإن 79 في المائة من من شملهم الاستطلاع بأن الحكومة تأخرت كثيرا في اتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل مكافحة الوباء.
وقد كانت بداية الاحتقان بالنسبة للمنتقدين يوم 6 مارس عندما زار الرئيس ماكرون أحد المسارح رفقة زوجته وصرح بأن الحياة مستمرة ولا داعي لتغيير عادات الناس في الخروج إلى الشارع العام. هذا التصريح الذي خلق جدلا واسعا في الأوساط السياسية و في مواقع التواصل الاجتماعي واعتبره الكثيرون استهانة بخطورة الوباء.
وفي نفس اليوم أي 6 مارس صرح وزيرالصحة «أوليفيفيرا » بأنه لا يمكن شل الحياة الاقتصادية و الاجتماعية. مجيبا بذلك على نداءات تطبيق الحجر الصحي الذي كانت الصين اعتبرته إجراءا حاسما في التصدي للوباء. بينما حملات استهزاء بالحجر الصيني شنها جزء من الإعلام الفرنسي والأوروبي معتبرا إياه تجليا لما سموه بالدكتاتورية الصينية. بل شن البعض هجوما قويا على منظمة الصحة العالمية التي أشادت بتجربة الصين في مواجهة وباء كورونا واتهموا رئيسها بالتواطؤ مع الحكومة الصينية.
ويرجئ الكثيرون بأن عدم اتخاذ تدابير عاجلة لمواجهة الجائحة من قبل الحكومة الفرنسية ومنها الحجر الصحي
و التباعد الاجتماعي، كان نتاج هواجس الخوف من الآثار السلبية لتلك التدابير على الاقتصاد الوطني، وبالتالي فإن الحكومة فضلت استمرار النشاط الاقتصادي على الوضع الصحي للمواطنين.
وإلى حدود 12 مارس لم يكن الأمر مقلقا بالنسبة إلى النخبة الحاكمة و اللجنة العلمية التي يستشيرها الرئيس، مع أن الوباء كان قد تفشى بشكل مريب في إيطاليا.
واتضحت اللامبالاة بالخطر المحدق في إصرار الدولة على إجراء الانتخابات البلدية في موعدها بالرغم من نداءات من اليمين واليسار لتأجيلها، مبررة ذلك بعدم التضحية بالديمقراطية و بأن لجنة علمية يتشاور معها الرئيس اشارت عليه بأنه لا خطر في إجراء الانتخابات في موعدها إن تم التحضير لها بشكل جيد و اتباع الارشادات التي وجهت للمواطنين أثناء الإدلاء بأصواتهم أي غسل الأيدي بسائل المطهر الكحولي والالتزام بمسافة متر بين شخصين.
وستتضح الارتجالية وعدم الاحترافية التي ميزت ممارسة السلطة أكثر في مواجهة الجائحة يوم 12 مارس عندما أعلن الوزير الأول على إغلاق المؤسسات التعليمية من مدارس وثانويات وجامعات، في حين استبعد وزير التعليم هذا الإجراء في زوال اليوم نفسه، وذلك قبل إجراء الانتخابات بثلاثة أيام. تلك التي ستجرى في وضع الهلع والقلق من تفشي الوباء الذي استوطن في نفوس المواطنين.
وستعلن الحكومة على التشبث بإجراء الانتخابات في موعدها وستجرى بالفعل يوم الأحد 15 مارس وسيتكبد حزب الرئيس خسارة كبيرة بعدما ارتفع العزوف عن التصويت إلى أعلى مستوياته في تاريخ الانتخابات البلدية.
وفي اليوم الموالي للانتخابات البلدية أي مساء الاثنين 16 مارس أعلن الرئيس في خطابه بداية الحجر الصحي العام بدأ من يوم الثلاثاء 17 مارس. وكانت حصيلة الوباء أنذاك 148 حالة وفاة و 6622 من المصابين. وجاء في الخطاب أن الدولة اتخذت عدد من الإجراءات من أجل مكافحة الفيروس ومنها تأجيل الدورة الثانية للانتخابات. و أكد على أنه تم الاتفاق في الاتحاد الأوروبي بغلق الحدود بين دول مجموعة شينغين.
و اعتبر الرئيس في خطاب 16 مارس أن فرنسا تعيش حربا ضد الجائحة ويجب تجند كل مكونات المجتمع من أجل المواجهة، ثم جاء خطابه في مدينة « مولوس » اثناء زيارة المستشفى العسكري الذي أنشئ في المنطقة بغرض استقبال المرضى مركزا على الوحدة الوطنية من أجل القضاء على الجائحة. الشيء الذي فسره البعض بأن الحكومة قلقة من الانتقادات لطريقة إدارتها للأزمة والمطالبة بمحاسبة مسؤولين متهمين بالتأخر والبطء في التحضير لمواجهة الجائحة خاصة عندما ركز على الوحدة والابتعاد عن الجدل بمبرر أن الوقت غير مناسب للمحاسبة.
إلا أن خطابات رئيس الدولة وتصريحات الوزراء لم تقنع عددا كبيرا من الفاعلين السياسيين والعاملين في قطاع الصحة من أطباء وممرضين وغيرهم، خاصة و أنه مع تفشي الوباء بشكل واسع ، بدأت تنكشف حقيقة الأزمة التي يعيشها القطاع الصحي الفرنسي والتي أثارها مهنيي الصحة منذ عقود عندما بدأت تتخلى الدولة عن القطاع و تقلص من حجم الدعم له، واتسعت دائرة الانتقادات للسلطة لتشمل العجز في توفير الإمكانات المادية والبشرية للقطاع الصحي في مواجهة كورونا من كمامات طبية واقية ونظارات و بذل وأجهزة التنفس الاصطناعية ونقص في الأطباء والممرضين ونقص الأسرة ووسائل الاختبارات الصحية…
هكذا وجه كثير من الأطباء والمواطنين انتقادات واسعة وشديدة للرئيس ماكرون و الوزير الأول ووزيرة الصحة السابقة ووزير الصحة الحالي والمدير العام للصحة. حتى أن إحدى الصحف عنونت مقالا لها في الموضوع بعنوان: << نحو وباء من الشكاوى والطعون ضد طرق تدبير أزمة الوباء >>
وقالت جريدة لوموند في عدد 26 مارس إنها توصلت بخبر من مصدر موثوق يقول بأن رئيس الوزراء إدوارد فيليب أثار حملة الانتقادات للحكومة و استعداد المعارضة للمطالبة بإنشاء لجن للتحقيق و دعاوي قضائية رفعها الأطباء والمرضى. وكان ذلك بمناسبة فطور جمع الأغلبية الحكومية صباح يوم الثلاثاء 24 مارس والذي انعقد عبر الفيديو.
وقد رفعت أكثر من خمس دعاوي قضائية إلى محكمة العدل الجمهورية من قبل أطباء و مصابين بالفيروس أو غير مصابين.
كانت أول دعوى للمساءلة الجنائية ضد الحكومة يوم 19 مارس تلك التي رفعها 600 طبيب ينتمون لمجموعة تدعى بالسي 19 إلى محكمة العدل الجمهورية (وهي المحكمة المختصة بالقضايا الجنائية المتعلقة بمسؤولي الدولة) ضد كل من رئيس الوزراء إدوراد فيليب ووزيرة الصحة السابقة انسي بوزين Agnès Buzyn يتهمونهما بالكذب »كذب الدولة » في مكافحة تفشي فيروس كورونا.
ويعتبر هؤلاء الأطباء أن الحكومة كانت على علم بخطورة تفشي الوباء و تأخرت في اتخاذ الإجراءات الضرورية من حجر صحي و اختبارات طبية وتوفير الكمامات الطبية الكافية وغيرها.
وقد وقع لحدود كتابة المقال ما يقرب من 450 الف مواطن عريضة لدعم الدعوى القضائية التي رفعتها جمعية السي 19 يطالبون فيها بمحاسبة الوزير الأول ووزيرة الصحة السابقة متهمين أيهما بالكذب وإخفاء حقيقة الجائحة وتعريض الناس للخطر غير المتعمد…
الصحوة المتأخرة لوزيرة الصحة السابقة أنسي بوزين Agnès Buzyn.
وإذا كانت الانتقادات تنحصر في البداية حول تأخر التحضير لمواجهة الوباء فإنها انتقلت إلى إخفاء الحقيقة حول خطورة الوباء والارتجالية وعدم الحرفية التي تميزت بها سياسة مواجهة الوباء خاصة عندما فجرت وزيرة الصحة أنسيي بوزين Agnès Buzyn فضيحة من عيار ثقيل تتمثل في إخبارها وتحذيرها لكل من الرئيس ماكرون و الوزير الأول إدوار فيليب بخطورة الوباء. مما يفرض تأجيل الانتخابات البلدية، إلا أنهما ( أي الرئيس والوزير الأول) استهانا بالأمر ولم يتفاعلا بجدية مع تحذيرها. وبسبب ذلك تقول أنسي بوزين في تصريح لها لجريدة لوموند يوم الثلاثاء 17 مارس أنها اذرفت دموعا يوم غادرت الوزارة من أجل خوض معركة الانتخابات البلدية في باريس لأنها كانت تعلم أن موجة تسونامي قادمة.
إلا أن الكثيرون من المنتقدين لسياسة الدولة في مواجهة كورونا، يعتقدون أن تصريح « انسي بوزين » هو بمثابة صحوة جاءت متأخرة، وهي فقط ردة فعل غاضبة بعد فشلها في تحقيق مقعد عمدة باريس، ويذكرون بالتصريح الذي استهانت فيه بجائحة كورونا في 24 يناير، حيث قالت: إن وباء كوفي 19 يشبه سحابة « تشيرنوبيل » وسيتوقف عند الحدود ولن يصل إلى فرنسا وأوروبا. وجاء هذا التصريح بعدما حذر الصينيون ومنظمة الصحة العالمية من قدرة الوباء على الانتشار السريع في العالم.
يوسف الطاهري: كاتب مغربي مقيم بفرنسا
مناقشة هذا المقال