تأملات،
يــــــومكن ويومكم سعيد صديقاتي واصدقائي.
يوميـــات الحجر الصحــــي،
نحو نموذج تربـــــوي تعليمي مؤسس على تدريس الروح النقدية
Vers un modèle pédagogique fondé sur)
(l’enseignement de l’esprit critique
..وتستمر سفينة التأملات في الإبحار، لتقرر فجأة العودة بصاحبها إلى شاطئ التربية والتعليم، لتزرع فيه بذور تفكير عقلانــــي مؤسس على الروح النقدية، قبل أن تستأنف مسيرتها نحو عوالم جديدة ومستجدة…. فلماذا العودة إلى الأصــــل، هل هو الحنين بسبب التوقف الاضطراري عن العمل الحضوري، أم أن في الأمـــر ما يستدعي ذلك؟ …. حقيقة، الاثنان معا، لكن الدافـــــع الثاني حاضر في هذا التأمل بقوة…..ما الذي جعل بوصلة السفينة إذن تتوجه نحو هذا المجال مجددا؟….
في الأيام القليلة الماضية، ونحن في ظل الحجر الصحي، كثرت السجالات “الفكـــــرية” (مع التركيز والتشديد على وضع الفكرية بين هلالين) حول مختلف القضايا الاجتماعية، خاصــــة تلك المتصلة منها بالظرفية الصحية غير المسبوقة وما أنتجته وأفرزته من توابع نفسية واجتماعية…..سجالات هنا وهناك. صراعات “فكرية” بين تيارات دينية محافظة وتيارات تقدمية حداثية حول أمور يراها البعض ثانوية، بينما يصر البعض الآخر على كونها تجسد عمق الخلل المعيق لإرساء نموذج حداثي ديمقراطي تقدمي. صراعات بين مؤيدي الاقتطاع من أجور الموظفين ومعارضيه. صراعات بين مؤيدي التشهير بالفعل التضامني ومعارضيه من منطلقات مختلفة، تتفاوت بين التنافس الإيجابــــي عملا بمنطوق الآية القرآنية ” وفي ذلك فليتنافس المتنافسون”، وبين حفظ الكرامة الإنسانية وإحقاق الحقوق. صراعات وسجالات بشأن فعالية الإجراءات الاحترازية المتخذة من قبل الدولة المغربية…..وبين هذا وذاك، ارتفعت وتيرة ظاهرة اجتماعية، ذات أبعاد قانونية، بشــــكل يطرح أكثر من سؤال، يتعلق الأمــــر بالتهور في نشر أخبار زائفة بشأن الفيروس المستجد، مما نتجت عنه متابعات قضائية كان بالإمكان تفاديها لو توفر المواطـــنون المعنيون بها على الحد الأدنـــــى من آليات التفكير النقدي المنطقي الذي يخضع الخبر للغربلة قبل تصديقه ….
الطرق التي تمت بها جـــل السجالات سالفة الذكــــر، اتسمت في أغلب الأحيان بالعقلية التآمرية من جهة، وبمنطق التحضر والتخلف من جهة أخرى. مخرجات عكست في نظري حاجة ملحة لتعلم آليات التفكير النقدي السليم. في هذا السياق إذن، وفي إطــــار التفكير التأملي لمرحلة ما بعد كوفيد 19، أرى أن مدخـــــل تدريس الروح النقدية L’esprit critique بمدارسنا، مند مرحلة الطفولة المبكرة، سيكون أمرا ذا أهمية قصوى، لتمكين النشء (نساء ورجال الغد) من آليات تفكير نقدي حجاجي سليم كفيل بإنضاج أي نقاش بدون شروط مسبقة، وإخراجــــه من أزمته أولا، ثم من دائرة الطابوهات المبالغ فيها ثانيا…إنه التأسيس للنقاش الحــــر بدون أي مركب نقص.
تأسيسا على ما سبق، ومن باب وضوح الطرح الفكــــري، لا بد من تحديد ماهية وتجليات الروح النقدية التي نطرحها كمدخل للخروج من أزمة نقاشاتنا العقيمة. فما الذي نتحدث عنه تحديدا؟ ….الحديث عن تملك الفكر النقدي هو حديث عن القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب ليس فقط من منطلق التقارب أو التباعد، أو من منطلق الانتماء أو عدمه أو من منطلق التبعية تحت أي مسمى؛ لكن من منطلق قوة الحجة والبرهان، التي تفضي إلى الاقتناع la conviction، وحضور أو غياب المنطق. حديث عن ممارسة الشك بشكل سليم، بعيدا عن نظرية المؤامرة. حديث عن الوصول إلى الفهم عن طريق المعرفة التي تبنى وليس تلك التي تملى. حديث عن تكوين شخصية مستقلة فكرا وسلوكا. حديث عن مواطنة كاملة مؤسسة على القانون وفق ثنائية الحق والواجب بصرف النظـــر عن اللون واللغة والمعتقد والجنس والإعاقة وووو….
الوصول إلى هذه المخرجات من منطلق المدرسة، تلك المؤسسة التنشيئية الأساسية، لن يكون بمحض الصدفة ولا بلعبة حظ، بـــل سيكون نتاج اختيارات قصدية مثمنة لما هو قائم ومكملة عليه تنقيحا وإضافة….لهذه الغاية، أقترح أن يتم التركيـــــز على أمور عدة – قد تساهم في تحقيق المطلوب- أجملها في النقط التالية:
1. ترسيخ مفهوم المواطنة عبر التركيز على:
– ثنائية الحق والواجب؛
– الانتماء للوطــــن والاستعداد للتضحية من أجله خاصة في ظروف الأزمــــات؛
– مفهوم التعايش عوضا عن التسامح الذي يخفي في ثناياه وجود قوي متسامح مع ضعيف؛
– التركيز على الإنصاف عوضا عن المساواة.
- تشجيع الفضول وحب الاستطلاع: نظرا لكون المدرسة فضاء مناسبا يمكن أن نأخذ فيه الوقت الكافي لتعلم وفحص الأشياء، وجب تمكينها من جميع الوسائل اللوجيستيكية والتكوينية القمينة بتحقيق هذا الهدف، حتى تتمكن من تكوين أفراد يبتعدون عن إصدار أحكام في حقول معرفية بعيدة عن تخصصاتهم.
-
إرساء التربية الإعلامية: عبر تكليف التلاميذ بالقيام بتحقيقات واستقصاءات حول المواضيع الاجتماعية ذات الصلة بواقعهم المعيش، ومن اختيارهـــم ترسيخا لمدخل التربية على الاختيار من جهة. وأجرأة للمقولة المشهورة في الفلسفة اليونانية: ” معرفة الذات بذاتها ” من جهة أخرى، للوصول لليقين حول معرفة الأنــــا ومعرفة الآخر بصفته كائنا اجتماعيا نعيش ونتعايش معه لزومــــا.
-
مزيد من إعلاء مكانة المدرسة والمدرس (ة): وذلك برد الاعتبار أكثر، في المخيال الاجتماعي للمواطنات والمواطنين وفي الإعلام، للمكانة العلمية والتربوية للمدرس (ة) ولأدوار التنشئة الاجتماعية والتكوينية للمدرسة. فضلا على الثقة أكثر فأكثر في الأطر التربوية بعد إخضاعها لمزيــــد من التأهيل والتكوين. في هذا السياق، أشير أنه في اليابان مثلا عندما يواجه طفل مشاكل مع الشرطة، لا يتم الاتصال بالآباء بل بالمدرس (مقتطف من حوار مترجم أجرته مجلة le point الفرنسية مع Andeas Shleicher، وقد حاوره مدير التربية لدى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية المعروفة اختصارا ب OCDE / مجلة أفكار العدد 25 – ماي 2018). هكذا سيتعلم الطفل منذ الصغار أن الخطأ والصواب يحددان وفق إطــــار مرجعي تحدده المدرسة التي تعتبر مؤسسة مجسدة للتوافقات القيمية وللسياسة العامة للدولة، وليس العائلة او القبيلة أو الحزب أو …..هنا تبدأ التربية المعيارية التوافقية. معيار منفتح دوما على النقد المستمر (في إطار التفكير النقدي دوما) المفضي لمزيد من التجويد والتحسين والمناهض للتلقي السلبي.
-
تشجيع الأساليب التعليمية المرتكزة على المحاورة والحجاج: وذلك بعدم الاكتفاء بالتلقي السلبي الذي يكرس العلاقة التبعية الشبيهة بعلاقة الشيخ والمريد، المغيبة للتفاعل والانفعال بهدف ممارسة القراءة النقدية والقراءة التبصرية لمضمون خطاب الملقي. أدعم هذا الطرح بمقتطف من كتاب الأستاذ محمد بوبـــــكري ” التربية والحرية: من أجل رؤية فلسفية للفعل البيداغـــــوجي” ، إصدارات إفريقيا الشرق/ ص ص.9-10 ، يؤكد فيه على أهمية المحاورة : “…..يظهر سقراط في المحاولات الأولى لأفلاطون رافضا علاقة الأستاذ بالمريد، وتدريس أي مذهب جاهز، مكتفيا بالتأكد من متانة آراء محاوريه. وهكذا يظهــــر أنه إذا كان الاتفاق بين شخصين مؤسسا على الحقيقة وفيها، سيكون أفضل من الاتفاق الحاصــــل بين عدد كبير من الناس والقائــــم على ما هو مرجح فقط…..يحكي أفلاطـــون في نهاية محاورة فيدر Phédre قصة توث Teuth وتموس Thamous : لقد قام الإله المصري توث (مؤسس االفنون) باكتشافات عديدة منها الكتابة، وذهب بها إلى الملك تموس آملا في أن يهنئه على إنجازاته. وفعلا قدم له الملك التهانــــي على اختراعاته، وعاب عليه بعضها الآخــــر، حيث عاتبه بشدة على اختراعه للكتابة، إذ رأى في ذلك إقداما على إنجاز عكس ما وعد به: لقد أراد محاربة النسيان، لكن اختراع الكتابة سيؤدي بالناس إلى فقدان ذاكرتهم حيث سيثقون في النصوص التي تم إيداعها في حروف جامدة وفاقدة للحياة. يمكن للنصوص المكتوبة أن تجعل الناس حكماء من حيث المظهــــر لكنها لن تجعلهم حكماء حقيقيين؛ إنها تعطيهم الفرصـــة لتكرار ما سبق قوله من قبل غيرهم، ودون أن تمنحهم إمكانية أن يقوموا بأنفسهم بحركــــة الارتداد conversion الداخلي، التي بدونها لا يمكن أن تكون هناك معرفة حقيقية…..وهكذا فالكتابة عاجزة عن تزويدنا بما يمدنا به الكلام parole والمحاورة dialogue ، حيث يحضر كائنان حيان ويتواصلان من أجل الوصول إلى الحقيقة…..ويقر سقراط الذي يحكي لنا قصة توث Teuth أن النص المكتوب يتيم…ولا يمكننا أن نطلب منه شرحا إضافيا كما هو الشأن بالنسبة إلى المحاور…” انتهى كلام الأستاذ محمد بوبكري.
من شان هذه الإضافات، في نظري، أن تساهم في تحقيق جملة من النتائج الإيجابية، وعلى رأسها:
1- الاستقلالية الفكرية، المؤسسة على التفكير المنطقي، لدى المتعلمين وذلك بالتمييز بين الوقائع التي نمر بها وتفرض علينا أحيانا، وبين التأويلات الشخصية التي نقيمها بها؛
2- جعل المدرسة فضاء للتثاقف؛
3- تأسيس مفهوم الحق على قواعد العقل وعلى قوانين التعاقد الاجتماعي بتعبير جون جاك روســـو.
رسالة اليوم…..بإعلاء مكانة التفكير النقدي في مدارسنا يمكن أن نساهم في إنضاج النقاشات والحوارات اليومية ونخرجها من أزمتها…….وإلى رســــالة أخرى وتأمل جديد بحول الله
إبــــــــراهيم عفيف استاذ مفتش تربوي وفاعل جمعوي .
سوس ماســـــة 17/04/2020
مناقشة هذا المقال