بقلم ابراهيم وازيد
بعدما ظل “سوقهم خاوي” سنين عديدة، عادت الحياة الى سوق الأحد الجراري منذ بضعة أسابيع بمبادرة من المجتمع المدني المحلي.. من حسنات إحياء سوق الركادة بعد توقف دام ثلاثة عقود، أن الجراريون صاروا يلتقون بعضهم البعض في مكان واحد بعدما كانوا مشتتين في الأسواق. عندما ألج سوق الأحد، أتذكر جدي حماد أوسعيد (توفي 2007) الذي اعتاد تناول فطوره بنفس السوق. كان يجلس في زاوية معروفة بمقهى “الإفراني” رفقة كاتبه الخاص “بلبريك”(توفي 2020)، وبعدما ينهي إفطاره يغادر المقهى متوجها الى الجماعة القروية، التي يسميها “البيرو”، وفي الطريق، كلما صادف شخصا، لا يسأله عن غرضه الإداري، قبل أن يستفسره عن تناول الفطور من عدمه، حيث يعزم من لم يفطر بعد لتناول الفطور على نفقته.. لما يتوقف بالسوق بعد الزوال، يكتفي بشرب الشاي الأخضر مع الموظفين في الحديقة الخلفية للجماعة، كانوا يستقبلون جدي بحرارة، بعضهم يقبل كتفه وبعضهم يلثم رأسه الملفوف بعمامة بيضاء ناصعة، أنا كنت أقبل أيدي جميع الموظفين، كما تقتضي أصول المصافحة آنذاك.. فقيه الكتاب القرآني “أخربيش” علمنا تقبيل أيدي الكبار من العجزة، الذين يجلسون في مدخل المسجد الى الوالدين في البيت.. تقبيل اليد بادرة اجتماعية تدل على الاحترام والإعجاب، كما تُشير أيضاً إلى الوفاء والإخلاص، ولو أن صغار اليوم لم يعودوا يقبلون أيدي الكبار.. الإحسان يملك الإنسان، كان جدي يكرم وفادة موظفي الجماعة لما يأتون الى قريتنا الجبلية لأداء مهمة معينة، كان يستضيفهم ويولم لهم بما لذب وطاب وقبل المغادرة يهديهم عبوات زجاجية من عسل الموسم.
الجراريون ليسوا كرماء وهذا لا يخجلهم، عندما أخبر أمي، وهي جرارية قحة، أنني مدعو الى نشاط ما في آيت جرار، تنصحني بعدم التعجل وعدم مغادرة البيت دون تناول شيء من الطعام، لأن طعام الجراريين لا يعول عليه.. فالجراري وهي عادة قديمة قدم الزمن، يقول لك عندما تلتقي به: هل فطرت؟ وعندما تقول له بأنك فطرت يرد عليك: كنت أنوي أن أعزمك للفطور معي.. وعندما تقول له بأنك لازلت لم تتناول الفطور يقول لك بدون حرج: ضريت راسك آزغبي.. ويبدو أن نفس العادة تنتقل من جيل الى جيل، لما كنت في حاضرة دكالة قبل أسابيع، عزمني جراري من زملاء الدراسة الى كأس شاي بمقهى بطريق سيدي بوزيد، ولما انتهينا نهض من مكانه دون أن يدفع شيئا سوى ثمن مشروبه.. الطبع يغلب التطبع..
قد يكون للأمر جذور تاريخية، فالجراريون لما استقدموا في عهد المرينيين لمحاربة الجزوليين الأقوياء، ظلوا يعيشون على الغارات والنهب ضد القبائل المجاورة، كي يجدوا موطئ قدم في سهل “أزغار ن تاسرا”، الذي يمتد شمالا من وادي ماسة الى مرتفعات لاخصاص جنوبا ومن المحيط الأطلسي غربا الى مرتفعات اغيرملولن شرقا. المختار السوسي قال: “لا عرب في سوس إلا أولاد جرار وهوارة وأولاد يحيا والمنابهة، وكلهم إخوة في النسبة العربية، ثم تناقص عددهم الكثير. حتى لم يبقى من الجراريين كقبيلة، إلا ما يوجد الآن في ضواحي تيزنيت وهم نحو ثلاثة آلاف دار..[1] ورغم ذلك لا زالت أولاد جرار أكبر جماعة قروية بإقليم تيزنيت من حيث الكثافة السكانية، بعد التقسيم الاداري لسنة 2009، مندوب إحدى الوزارات المهمة يرجح، في تصريح غير رسمي déclaration off أن تيزنيت لن تقوم لها قيامة ما داموا يقتطعون من مجالها الجغرافي في كل تقطيع إداري، بالأمس اقتطعوا أراضي وضموها لإقليم طاطا بعد إحداثه سنة 1977 كما اقتطعوا أراضي أخرى وألحقوها بإقليم كلميم سنة 1980 وتكرر نفس السيناريو بعد إحداث إقليم سيدي افني وغدا سينشؤون إقليم تافراوت وتعود تيزنيت لحالتها الأصلية: واحة صغيرة تعيش على زراعة النعناع والفصة.. أستحضر جدي، الذي دفع رشوة في السبعينات، ليس لتوسيع النفوذ الترابي لمشيخته كما قد يتباذر الى الذهن، بل لتقليصه كي يبقى محصورا على إغيرملولن وحدها، وهو المطلب، الذي لم يقبل سوى في منتصف السبعينات وإن كان الجزء الجنوبي من أولاد جرار (إغرم والنواحي) لا يزال ضمن نفوذ مشيخته.. لم يكن جدي راغبا في حكم قبيلتين: أولاد جرار واغيرملولن. كان لا يستسيغ أن يأتيه الجراريون على متن دوابهم في ساعات الليل لفك مشاكلهم وخلافاتهم التي لا تنتهي.. لم يكن قاضيا يعاقب بل حكما يبحث عن الصلح..
اتفق المؤرخون أن أولاد جرار هم “عرب معقل، استقروا بسوس في فترة علي الزكندري ق13-14 في عهد المرينيين. ففي سنة 1218 وصلت قبائل معقل الى واحات باني، قبل أن تتجه الى سهل سوس بدعوة من ابن ايدر الزكندري..[2] وذكر لوشاتولي le chatelier أن قبائل أولاد جرار “تنتمي الى أولاد بو سباع (اولاد يحي) مثل أولاد جلال. والذين أتوا من الساقية الحمراء..[3] بعد قدوم عرب معقل الجراريين الى سهل “أزغار” قادمين من الصحراء. “ملكوا قبائل سوس السهلية بالإتاوة وتسلطوا على وادي نون وإفران ولاتزال بقاياهم هناك الى الآن. كما كانوا يملكون كل السهول الشمالية لسوس من رأس الوادي الى ضواحي تيزنيت. وقد كانوا من المهادنين للبرتغال يوم احتلوا “فونتي” فرضة اكادير، وكم حروب جرت بينهم وبين الجزوليين الجبليين..[4] وذكر سينيفال أنهم (الجراريون) كانت لهم شبه سيطرة على سوس قبيل ظهور السعديين. ولعل سيطرتهم تلك، استمرت حتى بعد بيعة زعيم السعديين..[5] وبعدما قام الجزوليون ببيعة أول ملوك السعديين، انضم إليهم إذ ذاك هؤلاء (الجراريون)، حين رأوا القوة في جانبهم، فكانوا منذ ذلك العهد صاغية السعديين وكثيرا ما توجد الآن رسوم من قبائل شتى اشتروا بها من الجراريين مواطن سكنهم..[6] وفي عهد المنصور الذهبي أصبحت أولاد جرار، تحت النفوذ السعدي تؤدي التكاليف المخزنية، حيث أوردها صاحب “ديوان قبائل سوس” باسم أهل جرارة وأحصاهم بستين سرجة..[7] وبعد ظهور الامارة السملالية بإيليغ في القرن السابع عشر، لم تتوقف الحروب بين الجراريين والايليغيين وكانت إغيرملولن ساحة الحرب بين الطرفين، ومن أشهر المعارك نذكر معركة العرگوب في العام 1252ه/ 1842م[8] التي انتصر فيها الجراريون على خصومهم وقتلوا أمير ايليغ سيدي علي أوهاشم.. لكن الجراريون سيدفعون الثمن مضاعفا في عهد سيدي الحسين أوهاشم، الذي انتصر عليهم في معركة دوار بلفضيل سنة 1875. واختلف المؤرخون حول دواعي الحرب بين الجراريون والإيلغيين، حيث أرجع جوستينار سببها الى سرقة بغلة في موسم سيدي حماد اوموسى، وبعد بحث مظني تم العثور عليها بين يدي أهل إدغ أولاد جرار، بعدها كاتب “الحسين أوهاشم” الشيخ محمد الجراري لإعادة البغلة مع وزنها ذهبا كغرامة، لكن الجراري استغل البغلة للتسوق ولم يعر أي اهتمام لمراسلة الحسين اوهاشم[09]… في حين رجح آخرون ان يكون السبب الرئيس في الحرب بين الطرفين هي السيطرة على أراضي ايغيرملولن باعتبارها منفذا نحو سهل تازروالت وموقعا مهما للتحكم ومراقبة التنقلات في سهل “أزغار”.. وهو نفس الرأي الذي تبناه المختار السوسي، إذ اعتبر أن سبب الحرب بين الحسين اوهاشم والجراريين هو مجاذبة ايغيرملولن، فانتصر الحسين على محمد الجراري لما خذله الجراريون، فهرب من تالعينت الى العوينة، فاستقدمه بعض الجراريين على وجه أن يصالحوا بينه وبين الحسين، ولكن بمجرد ما دخل عليه (الحسين أوهاشم) بين العشائين انقض عليه العبيد فاعتقلوه، وعند العشاء طلب منه أن يسرحه حتى يصلي، فقال: كيف أسرحك للصلاة ومنذ كنت رئيسا على الجراريين ما حضر قلبي في أي صلاة، ثم أركب بغلا فطار به العبيد الى ايليغ فكان آخر العهد به، فلم يدر كيف قتل، وكانت في داخل دار الحسين اوهاشم مقبرة، للذين فتك بهم هكذا من غير أن يعلم أحد..[10]
بالإضافة الى جنوب تيزنيت، ينتشر الجراريون في واد نون وتحديدا في جماعة تيمولاي نواحي بويزكارن، إذ لا يزال جزء منهم هناك، في مكان يسمى “آيت جرار”. كما ينتشر الجراريون بنواحي الدار البيضاء ونواحي سيدي بنور بدكالة، حيث توجد قبيلة تحمل اسم “أولاد جرار”.. وكذلك الحال في المنطقة الشرقية، اذ نجد قبيلة تحمل اسم “اولاد جرار” وهي من القبائل التي تعيش في الحدود الشرقية بين تافيلالت وكلوم بشار والقنادسة..[11]
توحي بعض الاشارات أن الجراريون كانوا يتسوقون يوم الأحد منذ تاريخ غابر، يعود على الأقل الى فترة القائد عياد الجراري (توفي 1942) وهكذا يروى أنه في زمن المجاعة، يتوقف الجراريون يوم الأحد عن حرث أملاك القائد عياد الجراري وفق نظام السخرة لأنهم يذهبون للتسوق، ويتركون المهمة للجراريات اللائي يحرثن الحقول دون زرع البذور التي يذخرنها لبيوتهن، ولما سقطت الأمطار تفاجئ القائد الجراري بالزرع ينبت من كل الأراضي المحروثة باستثناء تلك المحروثة يوم الأحد، وكان جواب الجراريات حازما: “النهار لحد ما ينبت..
مناقشة هذا المقال