بقلم ياسين جلوني.
“الديمقراطية أولا”
برزت على السطح في الآونة الأخيرة وبشكل فجائي وغريب، مجموعة من المعارك الفايسبوكية التي تم تجييش رواد مواقع التواصل الاجتماعي للانخراط فيها والتجند لها، بدءا بنقاش تسمية بعض أزقة مدينة تمارة بأسماء أعلام سعوديين، وانتهاءا بقضايا ازدراء المقدسات الدينية والتحامل عليها.
فمن الغرابة جدا أن يطفو على السطح قرار تسمية أزقة مدينة تمارة بأسماء أجنبية، بعد مرور حوالي 14 عاما من إقرار هذا القرار، دون طرح للسؤال: لماذا أثير نقاش هذا القرار بالضبط في هذه المرحلة، وأين كان هؤلاء المعارضون لهذا القرار قبل 14 سنة؟ هذا في حين أن لا أحد تجرأ ليتحدث عن عشرات أو مئات الآزقة والشوارع والأحياء بالمغرب التي تمت تسميتها بأسماء تافهة وعبثية، قد تحمل في بعض الأحيان دلالات قدحية أو تكون دون أي دلالة رمزية، بل وصل بنا الأمر إلى الصمت على اعتماد أسماء المستعمرين ومجرمي الحرب وأعداء الشعب المغربي في تسمية أحياء ومؤسسات بالمغرب (حي البورنازيل، ليسي الليوطي…).
بنفس الطريقة نستغرب ونتساءل كيف تم الترويج لتدوينة إحدى النكرات تتضمن إساءة لنبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، والتي تزامنت بتصريحات مثيرة لأحد رموز الذوق الهابط في الفن، والتي تضمنت ازدراء لعبادة المسلمين، هذا مع العلم أنه منذ اختراع الفايسبوك ظهرت مجموعة من الصفحات والمجموعات والحسابات تتخصص في السخرية والتهكم على المقدسات الدينية بشكل مستفز، لكن لا أحد اهتم بهذه الصفحات. وهذا يدعونا للتساؤل مرة أخرى: كيف طفت تدوينة تلك النكرة بهذه السرعة ودون سابق إنذار في حين تم التغافل عن الصفحات المختصة في ذلك؟ ولماذا هذا كله يحدث في هذه الظرفية بالذات؟
كمحاولة لتفسير هذه الظواهر الإعلامية الغريبة، سنلجأ للدراسة المشهد السياسي والإعلامي الذي سبق أو تزامن مع هذه الظواهر المشبوهة.
البداية مع مشروع القانون المشؤوم 22.20 الذي أريد به تكميم المغاربة، حتى وإن لم يتم إقراره فمجرد صياغته في صيغته الأولى يحيل أن هناك نية مبيتة لإلجام الشعب المغربي قاطبة وانزعاجا من مواقع التواصل الاجتماعي التي تعد ملاذا لنقاش القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية لعموم المغاربة، لاسياما أن هذا القانون المشؤوم تزامن مع انهيار أسهم رموز التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي، الذين يقومون بعملية إلهاء الشعب المغربي وتشتييت انتباهه واستبلاد حسه.
أيضا لا يفوتنا التذكير بالنقاش الذي بدأت ناره مشتعلة منذ أيام بخصوص دعوة مجموعة من الأسماء الإعلامية المعروفة، لاجتثاث ومحو كل ما تبقى من مظاهر الديمقراطية ببلادنا، وذلك عبر ترويجهم للحاجة لإقالة الحكومة واعتماد حكومة كفاءات وطنية.
هذا الأمر الذي تزامن أيضا مع الاعتقال التعسفي الذي تعرض له الصحفي المبدئي سليمان الريسوني، والذي أضحت افتتاحياته محط انزعاج جهات ليس في مصلحتها ترويج الأسئلة والنقاشات الجريئة التي يتفنن الريسوني في كشفها وإعلام الناس بها. أولى الملاحظات بخصوص هذا الاعتقال التعسفي-الذي ينضاف إلى سلسلة الاعتقالات التي تعرضت لها أسماء صحافية وازنة (بوعشرين، المهداوي)- هو أنه لامسنا تدنيا على مستوى ردود الأفعال التي استقبل بها رواد التواصل الاجتماعي لهذا الاعتقال الجديد، وذلك بالمقارنة مع ردود الأفعال والنقاشات التي أثيرت إبان اعتقال بوعشرين والمهداوي، بشكل يحيل على أننا بدأنا في التطبيع مع انتهاكات حرية التعبير والصحافة، بل البعض أصبح يعتبر الصحفي الريسوني هو الجاني لأنه ” هو لي جبد على راسو النحل” وليس ضحية انتهاك حرية الصحافة، أما البعض الآخر فحاول تهريب النقاش-أو هكذا أريد- وربطه بقضايا” المثلية” التي لا يختلف إثنان على أنها ليست قضيتنا الأولية في لحظتنا الراهنة.
بعد كل ما سبق، يتبين لنا بشكل واضح وصريح لماذا شهدت الساحة الفايسبوكية كل هذه المعارك الإعلامية الفجائية والغريبة والتي تحدثنا عنها في بداية المقال، إن هذه المعارك تعد عنوانا بارزا لاستنزاف الجهد وتعميق الخلافات وإلهاءا عن الجرائم التي تحاك ضد الديمقراطية وحرية التعبير والصحافة. وهذا ما أصبحنا نألفه، بحيث أن أي حملة ممنهجة ضد العملية الديمقراطية دائما ما يصاحبها فقاعات إعلامية ونقاشات غير ذات أولوية والتي تبرز على السطح بسرعة البرق ودون سابق إنذار، ودون أن نذهب بعيدا يكفي الرجوع لما عرفته الساحة السياسية من تراجعات ديمقراطية بعد آخر تعديل حكومي، والذي كانت حصة الأسد في هذه الحكومة لحزب “التكنقراط”، لكن أغلب الأصوات أهملت هذه التراجعات وأهملت معها كذلك “قانون الإثراء الغير المشروع” الذي ما زال حبيس دهاليز المؤسسة التشريعية، وأصبحت تناقش “الحريات الفردية” كما لو أننا “تكرعنا” الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولم يعد لنا ما نناقشه سوى الحريات الفردية.
أما بخصوص رواد الفايسبوك الذين ثاروا غيرة على المقدسات، فأظنهم نسوا أو تناسوا أن النبي الكريم حورب ليس لأنه قدم لإقامة الصلاة وبناء المساجد فقط، وإنما لأنه أرسل ليحطم الأصنام، أصنام العبودية والظلم والفساد، فنبي الرحمة بنفسه لم يكترث للأعرابي الذي بال في المسجد، وأمر صحابته بأن يريقوا على بوله ذنوبا من ماء. كما أن نبينا الكريم لم يشهد له قط أنه انتقم لنفسه الشريفة (حادثة الطائف، فتح مكة…)، فجل غزواته ومعاركه كانت ضد الظالمين والفاسدين، ضد الذين يستعبدون الناس ويتسغفلونهم ويسرقون أموالهم… فأفضل رد على ممتهني إهانة المقدسات هو عدم الرد، فأي رد لن يسهم إلا فإشهار هذه الممارسات، فكم من قضية قضيناها بتركها.
وإن كنا فعلا نحب نبينا الكريم ونقتدي به، فحري بنا أن ننخرط في المعركة التي خاضها، والتي خاضها من قبله الأنبياء والمرسلون والمصلحون، إنها معركة ضد الظلم والفساد، معركة إحقاق الحق وإرساء دعائم العدل في الأرض بين الناس، قال تعالى:”لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ” صدق الله العظيم.
مناقشة هذا المقال