بقلم الطيب عمري /أستاذ باحث
خلدت شعوب شمال أفريقيا السنة الأمازيغية الجديدة 2971، في ظل ظروف كورونا. وعرفت وسائل التوصل الاجتماعي نقاشا غير صحي، ساهم فيه ناشطون جزائريون ومصريون وليبيون وتونسيون، كل يدعي أن “ششونغ” ينتمي إلى تاريخه وثقافته وبلده وذلك منذ أن نصب أمازيغ تيزي وزو تمثالا كبيرا بمناسبة رأس السنة الأمازيغية 2971 وسط مدينة تيزي وزو، مدعين أن “ششونغ” ، مؤسس الأسرة الثانية والعشرين (950 ق م) بعد انتصاره على رمسيس الثالث، وهذا خطأ تاريخي لا يغتفر، إن لم نقل جهل ليس بعده جهل بتاريخ الأجداد؛ بل تمادوا في غيهم بالقول: إن المعركة الوهمية التي انتصر فيها “ششونغ” وقعت بمنطقة تلمسان، وأن “ششونغ” انتقل بعد ذلك إلى مصر واحتلها وأسس الأسرة الثانية والعشرين، وهذا تزوير وتحريف صريح للتاريخ؛ لأن “ششونغ” عاش بمصر ونشأ فيها أبا عن جد، وترقى في عدة مناصب عسكرية سياسية ودينية، كما كان قائدا للجيوش المصرية، وصهر آخر فرعون الأسرة الواحد والعشرين (بسوسنيس الثاني) ومستشاره، وقد ورث العرش عن طريق زواجه بابنة الفرعون الذي لم ينجب أبناء من الذكور.
أما كون “ششونغ” قد انتصر في معركة وقعت بتلمسان بالجزائر فهذا يندى له الجبين، في حين أن القول بالانتصار على رمسيس الثالث (1198-1166ق م) الذي ينتمي إلى الأسرة الفرعونية العشرين، فهذا عين الجهل المركب والشوفينية الضيقة.
واتهم المصريون الجزائريين بسرقة التاريخ وتزويره، فالتهمة الأولى غير مقبولة؛ لأن تاريخ شمال أفريقيا تاريخ مشترك بين كل شعوبها الذين ينحدرون من أرومة واحدة، فرقت بينهم السبل، واعتبروا “ششونغ” مؤسس الأسرة الثانية والعشرين، وأقوى ملوك هذه الأسرة، نشأ في مصر أبا عن جد، وهذه حقيقة تؤكدها كل كتب تاريخ مصر القديم.
أما مسألة رفع الدعوى ضد الجزائر بتهمة سرقة التاريخ المصري القديم وتزييفه، فستكون مردودة على أصحابها؛ لأن هذه الشخصيات والأحداث العظام التي عرفها شمال أفريقيا مشتركة بين شعوبها، ولن يكون فيا رابح و خاسر، فقط ستزيد في توسيع الهوة بين هذه الشعوب، التي عمل كل الدخلاء والغزاة الذين مروا من هنا في تكريسها وتحقيقها منذ مئات السنين، وذلك بإبعاد مصر عن مجالها الجغرافي والحيوي.
إن هٰذا النقاش التافه الذي يبحث أصحابه عن أمجاد وبطولات وهمية ناتج عن تخلف هاته المجتمعات التي تملك رؤية ضيقة ومنحسرة لمفهوم التاريخ ووظائفه وغاياته.
إذن من حق أمازيغ تيزي وزو أن ينصبوا تمثالا لـ “ششونغ” في يوم احتفالهم برأس السنة الأمازيغية 2971، لكن ليس من حقهم أن يحرفوا التاريخ ويجهلوا وقائعه العظيمة المرتبطة بتاريخهم المشترك مع كامل شعوب شمال أفريقيا.
ومما زاد الطين بلة، دخول الهيئة العامة للثقافة بليبيا على الخط، مدعية أن “ششونغ” من أصول أمازيغية من قبيلة المشوش الليبية، حكم مصر وأسس الأسرة الثانية والعشرين (950-929 ق م). وهذا صحيح، لكنهم زاغوا عن الصواب حينما اعتبروا “ششونغ” ليبياً؛ كأن هذه الهيئة ليس فيها عقلاء ومثقفين يستطيعون التفريق بين مفهومين مختلفين هما: لوبيا وليبيا. فلوبيا مصطلح جغرافي قديم أطلق على كل شمال أفريقيا باستثناء مصر، ثم أطلق فيما بعد على كل القارة قبل أن تغير اسمها إلى أفريقيا، وأطلق على الشعوب التي تسكن غرب مصر (لوبيم) اللوبيين (الروبيين). أما كلمة ليبيا فهي مصطلح جغرافي حديث ينعت به القطر الليبي.
لقد أعاد “ششونغ” الأول وحدة مصر بوجهيها (البحري والقِبْلي) بعد انفصال دام قرابة مئة وخمسة وعشرين سنة؛ بل وحّد شمال أفريقيا وغربها وشرقها تحت حكم واحد لأول مرة في التاريخ وبذلك يستحق لقب الموحد؛ حيث جمع بين فرعون مصر ورئيس المشوش الأعظم، وهنا تكمن رمزية الاحتفال بوصوله إلى العرش الفرعوني لأنه حقق آمال شعوب هذه المنطقة التي تجمع أبناءها أرومة واحدة وثقافة واحدة وطموحات وآمال واحدة رغم تفرق السبل اليوم تحت ضغوط السياسة المارقة ولوبيات المصالح العالمية التي تخشى من وحدة الشعوب واندماجها.
يقول محمد حسين يونس في مقدمة ترجمته لكتاب “ولاس بادج” الأمريكي: « إن “مستر بادج” ومن أخذ عنهم من علماء المصريات العظام أثاروا لدي – بمنطقهم ومنهجهم العلمي وقدرتهم على الوصول بدأب إلى الحقيقة – الاحترام الشديد لمدى قدرة العلم والعلماء على ارتياد الأماكن الصعبة والخطرة في الفكر الإنساني وتحليلها، في الوقت الذي ظل فيه مفكرونا ومثقفونا يعملون على إخفاء الحقيقة التاريخية أو طمسها، بممارسة التضليل والتزييف والتجاهل … هذا الاحترام تحول إلى شعور بالخجل للموقف السلبي، وفي بعض الأحيان العائق للفهم، الذي تغاضى به هؤلاء المغرضون عن دراسة التاريخ القديم لشمال أفريقيا وأساطيرهم والديانة القديمة التي وصلت أوجها في الحضارة المصرية القديمة».
ويضيف محمد حسين يونس: « إن المنطقة التي نعيش فيها اليوم تبادل سكانها فيما بينهم، بشكل واسع، ومنذ عصر ما قبل التاريخ وحتى الآن، ثقافتهم وأفكارهم وتقاليدهم وكثيرا من طقوسهم؛ لقد حدث امتزاج وفي نفس الوقت تفرد لأساطير المنطقة منذ دخول عبدة “تانيت” و”هوريس” مصر ونشروا معهم ثقافتهم وطقوسهم».
إن المتأمل للحضارة المصرية القديمة، سيعرف أن سكان شمال أفريقيا وشرقها وغربها من أرومة واحدة، وسيكتشف مدى عمق العلاقة التي كانت ولا تزال قائمة بين تقاليد وطقوس وأفكار شعوب المنطقة، وأنهم أمة واحدة فرقت بينها السبل، تجهل جذورها وتاريخها.
وللتعرف على شخصيتنا الشمال أفريقية مرهون أساسا بتحليل مكونات عقلنا الباطن الجماعي، من خلال لغتنا وأساطيرنا وعاداتنا، وكل ما يتصل بتشكيل هويتنا المنفردة.
لقد أكد جل المهتمين بعلم المصريات أن الآثار القديمة، ولا سيما التي اكتشفت حديثا، تدل على أن الجنس البشري قطَن مصر منذ أزمان متوغلة في القدم، وقد عثر الباحثون على آلات الظران دقيقة الصنع، وعلى آنيات فخارية مزخرفة وغير مزخرفة، وغير ذلك من الآثار القديمة جدا، مما يدل على وجود حضارة بمصر قبل الميلاد بأكثر من اثني عشر ألف سنة، وأرجح الآراء الحديثة أن مؤسسي تلك الحضارة هم قوم لوبيو الأصل/ أي أمازيغ.
وقد تتبع الأستاذ “سرجي” في كتابه “جنس المتوسط” هذه الهجرات وانتشارها في أصقاع بعيدة، كما تناولها “دزموند كلارك” في كتابه ” أفريقيا فيما قبل التاريخ”، الذي درس الهجرات اللوبية الأمازيغية من الصحراء الكبرى إلى وادي النيل وشرق أفريقيا وغربها.
وأكد “هوفمان” ما ذهب إليه جل الباحثين في دراسته القيمة بقوله: « الآن على الأقل، يبدو كما لو أن ثورة إنتاج الطعام حدثت في الأرض الحمراء (غرب مصر) قرونا متطاولة، إن لم تكن ألف سنة كاملة، قبل أن تنفذ إلى منخفضات النيل الخصيبة».
ويضيف “بيتري” : «إن الغزوات اللوبية غير المستبعدة شيء نفهمه عبر التاريخ المصري، ولنبدأ القول إن المصريين أنفسهم تشكلوا في غالبيتهم من مهاجرين لوبيين ( أمازيغ)، ولعل الأفكار اللوبية دخلت بشكل واسع في الديانة والحضارة المصريتين». ويضيف “بيتري” : « لقد توالت هجرات اللوبيين إلى مصر، أو غزواتهم لها عبر التاريخ حتى جاءت الأسرة الفاطمية لتؤسس فيها أزهى دولة في القرون الوسطى».
وأختم هذا المقال بقولي هذا: إنه جميل أن نحتفي بتاريخنا وندرسه، ولكن الأجمل أن نقف عند اللحظات المشرقة منه لمعرفة الحاضر واستشراف المستقبل. فالأمة التي لا ذاكرة لها لا حاضر لها ولا مستقبل.
تيزنيت ،السبت 23 يناير 2021
مناقشة هذا المقال