كلما حلت ذكرى الفقيد العزيز أحمد بنجلون إلا وراودتني ذكريات لا تنسى عن نضالنا المشترك منذ أن تعرفت عليه لأول مرة في المؤتمر الثالث للاتحاد الاشتركي للقوات الشعبية في نهاية دجنبر 1978.
فعبر المحطات العديدة التي جمعتنا، تعرفت على شخصيته الفريدة عن قرب، والتي تجمع بين الذكاء الحاد والقدرة على التركيب، بين التفاعل السريع والتخطيط البعيد المدى، بين المرونة الكبيرة والحزم الشديد، بين العاطفة الجياشة والعقلانية الصارمة، بين سرعة البديهة وحسن الإنصات، بين النقد اللاذع والاعتراف بالخطأ، بين الجرأة في الإقدام والتقدير السليم للمخاطر. إنها خصال متعددة لا تجتمع إلا نادرا في بعض الشخصيات التاريخية.
ومنذ بداية معايشتي ومرافقتي للفقيد أحمد حصل تكامل غريب بيننا تجسد في بلورة وصياغة معظم وثائق حزب الطليعة، وبيانات مؤتمراته ومجالسه الوطنية، والتي ساهم فيها باقي الرفاق في الكتابة الوطنية بافكارهم واقتراحاتهم. وقد كنت شاهدا على معاناته الكبيرة، وإصراره العنيد على مواجهة الصعوبات والتحديات التي كانت تعرقل إعادة بناء الحزب الذي تعرض لضربات قمعية قاسية ومؤلمة خلال النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، والتي فرضت علينا العمل شبه السري للمحافظة على استمرارية الخط الثوري للحركة الاتحادية الاصيلة.
لقد بدأت محاولات اجتثاث هذا الخط باعتقال الرفاق أحمد بنجلون واليزيد البركة ومنير عمر والهاشمي فجري، في ربيع 1980، واعتقال مجموعة كبيرة من مناضلي بني ملال، لكن اعتقالات 8ماي 1983، ويناير 1984هي التي كان لها أبلغ الأثر وأسوأ التداعيات لأنها تمت بتواطئ القيادة الحزبية، وفي تعتيم إعلامي رهيب.
هكذا لم يتمكن مناضلو ومناضلات حزبنا من استئناف نشاطهم العادي إلا بعد إصدار جريدة المسار في بداية شهر ماي 1985بفضل جهود مجموعة من الرفاق في الداخل وفي الخارج، وباشراف وادارة الفقيد احمد بن جلون. وبفضل الدور المتميز الذي لعبته المسار في الإخبار والتنظير والتوضيح، استعاد حزبنا اشعاعه وسط المتعاطفين والشبيبة بشكل خاص. ورغم توقيف المسار سنتين بعد ذلك، تمكنا من عقد اول ندوة وطنية للتنظيم في مارس 1987واول لجنة مركزية في أبريل 1988،التي اصدرت البيان الداعي لتكوين جبهة وطنية من اجل النضال الديموقراطي، والشروع في التحضير لعقد المؤتمر الوطني الرابع. وكما هو معلوم، لم نتمكن من عقد المؤتمر الرابع إلا بعد تغيير إسم الحزب، واصدار جريدة الطريق في اكتوبر 1991.ورغم تداعيات السياق المضطرب بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي وحرب الخليح الأولى، كان للنجاح الباهر للمؤتمر الرابع وقع المفاجأة على الأصدقاء والخصوم معا، لدرجة أن جريدة “الشرق الأوسط “استغربت حدوث ذلك. وقد تزامن انعقاد ذلك المؤتمر بفشل أول محاولة لتنصيب حكومة تناوب توافقي من الكتلة الديمقراطية، بسبب رفض المرحوم بوستة بقاء إدريس البصري وزيرا للدولة في الداخلية، وهو الشرط الذي سيتنازل عنه المرحوم عبد الرحمان اليوسفي خمس سنوات بعد ذلك، مما دفع الفقيد احمد بن جلون بوصف حكومة توافق أبريل 1998 بأكذوبة القرن. وفعلا، لم تكد تمر خمس سنوات ،حتى أبعد المرحوم اليوسفي عن الوزارة الأولى رغم حصول حزبه على الرتبة الاولى في الانتخابات التشريعية، في خرق واضح للمنهجية الديمقراطية، ونسف لوهم الانتقال الديمقراطي الذي طالما تم التنظير له.
بعد ذلك، وفي سياق دولي مطبوع بالغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق واحتلالهمابدعوى محاربة الإرهاب، وفقدان اليسار لمكانته في المجتمع التي احتلتها القوى الاصولية، استشعرت قوى اليسار المعارض مخاطر المرحلة وتحدياتها، وقررت بعد مشاورات عديدة تأسيس تجمع اليسار الديمقراطي ، الذي تحول الى تحالف اليسار الديموقراطي سنة 2006 بسبب الخلاف العميق حول الانتخابات والقضية الوطنية.في ذلك السياق راجع حزب الطليعة الديموقراطي الاشتراكي، موقفه من الانتخابات بعد تقييم موضوعي لحصيلة حوالي ربع قرن من ممارسة المقاطعة، ولتوضيح وتدقيق المقاربة الجديدة، كلفني الرفيق أحمد بموافقةالكتابة الوطنية بصياغة أطروحة المؤتمر الوطني السادس للحزب التي مثلت التأسيس النظري للصيغة المحينة لخط النضال الديمقراطي التي تجمع بين بعدين الجماهيري والمؤسساتي.
للاسف تمت المشاركة الأولى للحزب في الانتخابات في ظل عزوف جماهيري غير مسبوق بسبب التداعيات السلبية لنتائج ولايتين حكوميتين قادها وشارك فيها اليسار الحكومي، والتي نفرت الجماهير من كل ما له علاقة باليسار ،اضافةطبعا لعمل لوبيات الفساد السياسي والحملات الدعائية لقوى الإسلام السياسي ضد اليسار.
بعد مضاعفات أزمة العولمة الليبرالية سنة 2008،وانعكاساتها على المغرب، وانفجار الربيع العربي بصيغة حراك 20فبراير 2011،تحدث الرفيق أحمد بن جلون بواسطة رسالة فيديو في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر السابع للحزب سنة 2012 عن نبوءة جديدة سماها “الربيع المخزني “وهي المرحلة التي لانزال نعيش فصولها حتى الآن
.
في 2فبراير2021على متن القطار بين مكناس والرباط.
مناقشة هذا المقال