Atigmedia
المصداقية والدقة في الخبر

القلم الأممي والخطاب الاستثنائي يوقعان شهادة ميلاد واقع جديد بالصحراء المغربية..

بقلم محمد الشيخ بلا

نعيش اليوم كمغاربة وأبناء هذا الوطن، لحظة اسثنائية وتاريخية، بخطاب ملكي استثنائي يوازيه قرار أممي استثنائي، وكلاهما يهم قضية وحدتنا الترابية الأولى، ويدشن لمرحلة جديدة في مسارها الطويل.

لقد طوينا اليوم صفحة التدبير، كما ورد على لسان جلالة الملك، وفتحنا صفحة التغيير والتحول التاريخي، وانتقلنا من منطق الانتظار إلى منطق الحسم، ومن مرحلة الدفاع إلى مرحلة التتويج الأممي، حيث بات الحكم الذاتي خيارا دوليا معترفا به، ولا رجعة فيه ولا غموض.

إن ما تحقق اليوم ليس مجرد نصر للمغرب، بل هو فتح جديد للمنطقة بأسرها، إذ أن حل هذا النزاع في إطار “لا غالب ولا مغلوب” يفتح أبواب السلام، ويعيد الدفء والثقة إلى العلاقات بين الشعوب المغاربية التي يجمعها التاريخ والمصير، فقد آن الأوان ليلتئم الجرح القديم بحوار أخوي صادق بين المغرب وجارته الجزائر، بشكل يتجاوز الخلافات ويستعيد روح الجوار والقرابة والدم المشترك.

ومن رحم هذا التحول، ينهض الأمل في إحياء الاتحاد المغاربي، ذلك الحلم الذي ولد على أمل الوحدة والتكامل، ومما لا شك فيه أنه سيعيد الروح إلى المشروع المغاربي، الذي أقبرته الخلافات، كما سيفتح أمام شعوب المنطقة صفحة جديدة من التعاون والتنمية والإخاء.

إشهد يا تاريخ، أن الصحراء المغربية تستعيد اليوم صداها الأول، كما استرجعت ذاكرة الرمل التي انتظرت نصف قرن لتشهد لحظة إنصاف أممي، فها هو مجلس الأمن، بقلمه الأزرق يرسم على صفحة التاريخ قرارا ينهي فصول الجدال، ويزكي مبادرة الحكم الذاتي التي حملها المغرب إلى العالم منذ سنة 2007، بثقة الواثق بعدالة قضيته.

إنه يوم تتقاطع فيه الرمزية بالتاريخ، فخمسون سنة من الصراع الدبلوماسي، ومن الأخذ والرد، ومن العناد السياسي، انتهت بحكمة الدولة المغربية التي آثرت لغة العقل على صخب الشعارات، فقرار الأمم المتحدة اليوم لا يمنح فقط اعترافا دوليا بمغربية الصحراء، بل يضع الحكم الذاتي في مرتبة الحل العادل والواقعي، بوصفه أفقا جديدا لـ”تقرير المصير” بمعناه الإنساني والسياسي، لا بمعناه الانفصالي.

إنه يوم، تنحني فيه الرياح أمام الحقيقة، وتستيقظ فيه الصحراء على فجر جديد بعد ليل طويل من الانتظار، فخمسون عاما من الغبار، وخمسون عاما من العواصف السياسية التي حاولت إطفاء وهج الانتماء، ينقشها مجلس الأمن اليوم بمداد أزرق على وجه التاريخ، وبأعلى صوته يقول “الصحراء مغربية”، والحكم الذاتي طريق أوحد للعدالة.

نداء جلالة الملك محمد السادس حفظه الله في خطابه الاستثنائي، يحمل نفسا إنسانيا ووطنيا عميقا، يؤكد فيه على الوحدة بدل الفرقة، والتنمية بدل الوهم، إنه نداء من القلب يتجاوز السياسة إلى الإخاء، ويتخطى الجغرافيا إلى جوهر الانتماء، فالوطن لا يغلق بابه في وجه أبنائه، والمغرب كعادته، يمد يده لمن ضل بهم الطريق، داعيا إياهم إلى العودة إلى حضن الوطن الكبير، حيث التنمية والأمن والكرامة، فالوطن غفور رحيم.

إنها فرصة للعودة إلى الذات، وإلى الهوية الحقيقية التي لا تنقسم ولا تتنازع، وفرصة ليكتب الجميع فصلا جديدا من المصالحة الوطنية الكبرى التي تحتضن ولا تقصي، وتبني ولا تهدم.

إن الأمم المتحدة بهذا القرار التاريخي، رفضت صراحة أوهام الاستفتاء، وأغلقت الباب أمام شعارات استهلكها الزمن، لتعلن بذلك أن زمن المزايدات قد ولى إلى غير رجعة، وأن الواقعية السياسية هي السبيل الوحيد لصون الاستقرار بالمنطقة،

لقد حول هذا القرار، الحكم الذاتي من مبادرة وطنية إلى خيار أممي، ومن طرح مغربي إلى إجماع دولي، يوقع بالعقل ما كان يوقع بالعاطفة.

القرار ليس وثيقة دبلوماسية فحسب، بل شهادة ميلاد جديدة لقضية وطنية خاضت امتحان الزمن، وخرجت منه أكثر رسوخا وعدالة، فقد أوقف وبشكل مباشر آلة الدعاية الانفصالية، وجعل أطروحة “البوليساريو” صفحة باهتة في كتاب أغلقت صفحته الأخيرة، ولا غرابة في ذلك، فهو نصر للحكمة على الضجيج، ونتيجة عادلة لمسار طويل من الصبر والعمل السياسي والدبلوماسي المتزن.

القرار الأممي ليس مجرد نص أممي بارد في أرشيف الدبلوماسية الدولية، بل كان نبضا عائدا في عمق الرمال، يروي للعالم قصة وطن آمن بأن الصبر ليس ضعفا، بل قوة تعرف متى تتكلم، فالمغرب بمبادرته للحكم الذاتي كان كمن يزرع شجرة في أرض قاحلة، مؤمنا بأن الحقيقة ستنبت ذات يوم، ولو تأخرت الأمطار.

وبعد أن أينعت الثمار، اختار العالم أن ينصت لصوت الحكمة، لا لصدى الوهم، كما اختار في الآن ذاته إغلاق أبواب الاستفتاء التي صدئت بعد طول انتظار، وفتح نوافذ جديدة للحل والأمل، فـ”تقرير المصير” لم يعد شعارا يلوح به الجيران من وراء السراب، بل أصبح الحكم الذاتي أفقا جديدا لتقرير مصير إنساني متزن، يضمن الكرامة في إطار الوحدة، ويمنح للانتماء معنى أوسع وأكبر من رسم الحدود.

القرار الأممي ليس مجرد تأييد سياسي، بل اعتراف دولي بذكاء الدبلوماسية المغربية التي اختارت لغة البناء بدل صخب المواجهة، فقد انتصر العقل على الحلم الذي كان إلى وقت قريب مستحيلا في نظر البعض، وبدا جليا للمستغرب أن الرمال لم تعد ميدان نزاع، بل مرآة تعكس صبر أمة آمنت بأن الحق مهما تأخر، لا يهزم.

وبعد كل هذا النصر وكل هذا الإنجاز، ليس غريبا أن تلتقي في هذه اللحظة التاريخية إرادة الدولة بنبض الشعب، وأن يجتمع صوت الدبلوماسية المتبصرة مع صدى العاطفة الصادقة، لتصنع إجماعا وطنيا ناذر المثال، وليس غريبا أن يكون التعاطي الشعبي والعفوي مع القرار الأممي بهذه الطريقة المعبرة، فالشعوب الحية لا تفرح بالصدفة، بل تفرح حين ترى ثمرة صبرها تتحقق، ومما لا شك فيه، أن هذه الفرحة تمظهرت في القلوب قبل أن تنزل إلى الأزقة الشوارع، وارتفعت الأعلام كما لو أن الوطن بأكمله قرر أن يحتفل في آن واحد.

إنها فرحة وعي جماعي بأن العالم أنصف الحقيقة، وبأن قضية الصحراء لم تكن يوما نزاعا على أرض، وفوق أرض، بل كانت شبيهة بملحمة انتماء وهوية وكرامة، وحين تمتزج الدبلوماسية بالحس الشعبي، والسياسة بالعاطفة، يولد الإجماع الوطني الذي لا يصنع إلا بالإخلاص والتضحية.

وكما هو معلوم، فمظاهر الاحتفال على مدار السنوات والعقود الماضية، لم تكن أبدا مظاهر عابرة، بل كانت لغة وطن واحد يحتفل بانتصاراته المتتالية، فبعد الفرحة التي عاشتها مدن المغرب وأقاليمه في الأيام الأخيرة إثر الفوز التاريخي للمنتخب الوطني بكأس الأمم، يأتي الدور على فرحة عارمة أخرى، وملحمة كبرى تتجلى في مشهد وطني رائع، بدأ مع ملحمة المسيرة الخضراء، ليصل بعد خمسين سنة من الكفاح والنضال إلى مربعات القرار الدولي والدبلوماسي، ويملأ المنصات بالزغاريد محتفلا بمسيرة القانون الدولي نحو الصحراء المغربية.

إن مسيرة اليوم، لم ترفع الأعلام في الرمال فحسب، بل رفعتها في ضمير العالم، وقالت بصوت واحد “إن العدل حين يتأخر لا يموت، بل يعود أكثر إشراقا ووضوحا”.. واليوم، يطوي العالم ومعه الوطن، زمن الأسئلة الكبرى المطروحة من عقود حول قضيتنا الوطنية الأولى، ويكتب فصلا جديدا بلون السماء، فالصحراء التي حاولوا اقتطاعها من الجسد، تعود لتهمس في أذن الوطن “أنا هنا.. كما كنت دوما، وسأبقى”.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.