إن التراكم الذي حصلته الحركة المسرحية بأكادير خلال العقدين الأخيرين والذي غابت عنه المصاحبة النقدية، والمتابعات الصحفية والإعلامية لأفرز وضعا جديدا وجيلا جديدا من الممارسين، تكونوا في أحضان حركة مسرحية كان أساسها العصامية إلا أن تأطيرها كان موكول لثلة قليلة من الأساتذة العظام الذين اختاروا أن يلعبوا دور قاطرة التنوير وينغمسوا في الشأن النضالي والتنظيمي لها من خلال قلعة الاتحاد المسرحي (سابقا) على رأسهم الأستاذ الفنان والمناضل الحسين الشعبي ومعه أنذاك كل من الأساتذة الأفاضل الكرام عزالدين بونيت وعبد القادر عبابو وعمر حلي والمرحوم حسن الصوابني … وكانوا في تواصل مستمر مع رجالات الفكر والإبداع محليا (رشيد يحياوي ورشيد أوترحوت ومحمد أفوالي ومحمد الباز …) وطنيا (حسن لمنيعي وعبد الكريم برشيد وعبد الرحمان بن زيدان وعبد الله شقرون والطيب الصدييقي ومحمد تيمد والمسكيني الصغير وسعد الله عبد المجيد …) لتغذية هذه الحركة بالتصورات النظرية والجمالية من خلال ندوات فكرية رفيعة المستوى.
كان الحسين الشعبي منغمسا أشد الانغماس في التحضير الدقيق لكل هذه التظاهرات شانا حربا ضروسا على كل المفاهيم المغلوطة إيديولوجيا مدافعا بشجاعته المعهودة في بحر الاجتماعات أو خارجها أو عبر المرافعات النظرية المباشرة أمام الجمهور دون أن يفسد روابط الود مع نظرائه وملتزما بالسلوك الديموقراطي ومتشبعا بكنه وقيم الفن النبيل…
أعتبره ضمن هذه المجموعة عنصرا قياديا بامتياز ومخططا آنذاك لآفاق الحركة المسرحية وفق رؤية تجمع بين حاضرها آنذاك واضعا أصبعه على مكامن الخلل في الحركة المسرحية كأسئلة حول الضعف المنهجي للممارسة والتشردم التنظيمي والدعم والمجانية …
كلها كانت أسئلة يطرحها لفتح آفاق رحبة للحركة وتحصين إنجازاتها المحققة ، وتعبيد الطريق أمامها بالعناية من لدن المسؤولين ودعمها ماديا، وفي هذا الباب كان يناضل بقلمه على صفحات الجرائد بمقالات متعددة وبأسماء مستعارة لتضخم المادة الصحفية لديه وتواضعا منه ليؤدي الأمانة بمنتهى الوطنية، لينتزع المطالب للحركة وتوفير أجواء أكثر صحية لاستمرارها لتساهم في نسيج التنمية الشاملة لمغرب القرن الواحد والعشرين ، وكان بذلك الفعل يفتح الشهية لأقلام صحفية أخرى لتنخرط بالمواكبة للتظاهرات المسرحية وكنا حقا نستمتع بطلعات نقدية راقية المضامين ووجب الاجتهاد لدا الصحفيين إن أرادوا دعوتهم للمهرجان … الحسين الشعبي كان يحب الجديد والعمق ويمقت التغطيات الجافة التي لاتهتم إلا بقشور المناسبات.
بفضل غزارة ثقافته ومواكبته للعلوم المعاصرة وتعمقه في الأدب والشعر والفن التراث اكتسب صفة المثقف المعلم، فهو قطب جادب للعديد من المريدين من بينهم عبد ربه، جد منفتح على كل التيارات الفكرية يكره التزمت، ثقافته الرحبة وتخطيطه للمشاريع الكبرى جعلته لا يفي بالتزاماته الوظيفية عندما كان يشتغل أستاذا للغة العربية بأولاد التايمة، مما دفعه ليستقل من هذه الوظيفة ليتفرغ كلية لشؤون السياسة والعمل الصحفي والثقافي والمسرحي والنقابي بالمركز. تحمل في الظل مسؤوليات جسام في الحزب والجريدة والنقابة ويحفه رفيقه وأخوه عبد العزيز الفاروقي رجل بهامة الشمس والأنبياء، كانا يحلمان منذ الصغر بحلم ما كلاهما رائدان للتنوير بعمق إنساني عميق وأصحاب فضل على العديد من الشباب في أكادير خصوصا، صداقتهما لا حدود لها وكانت علاقتهما غنية بالعمل البناء ولم يخضعوا أبدا للابتزاز …كان الله في عون الحسين عندما اختطف الهم والمرض رفيقه الغالي، ومر الحسين من فترة كلها قلق وتوثر وأظهر الحسين صلابة غير معهودة في تحمل هذا المصاب الجلل وفي ذلك عبرة وحياة … تعاهد مع رفيقه على الأخلاق الكريمة والتواضع فلم تجد الحسين يتعالى على أي أحد فمهما يكن مستواك ونظرا لسعة أفقه المعرفي لابد أن يغرس فيك ثمار الثقافة والبحث ويحثك على العمل والاجتهاد، هو رمز من رموز النهضة المسرحية بالمغرب على اعتبار أن فكره كان ذا فعل وأثر في الساحة المسرحية، فكر خلق ديناميكية نشيطة ومعه أصدقائه محمد قاوتي وحسن النفالي ومحمد الدرهم هذه الأسماء الكبيرة ردت الاعتبار لوضع الفن والفنانين ببلورة مشروعات شديدة الطموح أشعلوا مصابيح اقتحام المستقبل وهاهم يسلمون المشاعل للخلف ولا يزالون يحفون حركة البناء والتقدم رغم الخصص المهول.
فلا بد أن أعرج على ثوابت وأصول المنطلقات الأولى لهذه الحركة بمدينة أكادير على الخصوص وعلى اعتبار أن الحسين الشعبي كان سببا في في النهوض بالحركة المسرحية بدأت شرارتها في مطلع السبعينيات في أحضان أم الجمعيات ” أنوار سوس ” المؤسسة لخطاب ثقافي جدري، استمد أساسه النظري في علاقة الفن بالمجتمع ، والفهم الواسع لعلاقة الثقافي بالسياسي، والسياسي بالثقافي، متبنية منطق التغيير للواقع، وبرزت إلى جانب تجربتها فرق أخرى ذات تصورات ورؤى مختلفة وجدت لنفسها طرائق تعبيرية أخرى، وأضفت على الساحة نكهة التنافس والالتزام في القضية ، ولعل المناقشات الحادة خلال الملتقيات والمهرجانات كانت الصورة العاكسة لذلك التنافس ، وتجد الحسين الشعبي في زحام المقارعات النظرية والفكرية التي كانت تختلف في طبيعة فهم الأسس الفلسفية للمدارس المسرحية العالمية ، ولا تعير الاهتمام الكبير للجوانب الجمالية لديها ، فلم تكن تغيب هذه المناقشات الأبعاد الايديولوجية لكل مسرحية تعرض ، وكانت الانتقادات أشبه ما تكون بالطلقات النارية ، حتى تغلب حضور السياسي في العمل الفني على حساب المكونات الجمالية والفنية ، وأصبحت تنعت هذه التجارب بالمباشراتية والتقريرية واللغات المتخشبة…وووجهت من لدن السلطة بالإلغاء والتهميش ، ولم تكن توفر لها فضاءات للتدريب ، و أحيانا تلغى أنشطتها ، وتقتحم حصصها. إلى أن تثبت حسن السلوك السياسي. وفي هذا الباب يحفظ الحسين في قلبه حكايات عجيبة تثير السخرية ، حتى المجالس المنتخبة آنذاك تنظر للعمل الثقافي من باب الربح السياسي والتعامل معه بمنطق التصنيف السياسي ، خصوصا في دعم التظاهرات المسرحية ، ويطرأ التحول لصالح هذه الفرقة أو ذاك الفنان حسب اللون السياسي ، ويقطع الطريق على الفرق المحلية ، بل إعجازها أحيانا بالوعود الكاذبة قبيل بداية أشغال مهرجان أو قبيل سفرها، بعدم توفر الإمكانيات المادية،
تفاصيل كثيرة ستبقى للتاريخ ، يحملها جيل الرواد في قلوبهم وفي ذاكرتهم لشباب اليوم.
لقد حمل الحسين الشعبي في جمعية أنوار سوس وإلى جانبها جمعية الأمل ، وسنابل أنزا ، والشعلة ، وكوميديانا لغة الاصرار والتحدي ، وشكلت بنية صلبة من منتصف الثمانينات وحتى منتصف التسعينات ، في استمرار تجربة مهرجان الاتحاد المسرحي ، وشكلت قوة للتفاوض مع المؤسسات المنتخبة للحصول على دعم المهرجان ، الذي وصل أوجه في دورته 13 ، حيث كان يستقطب عروضا متميزة وطنية ومغاربية من تونس والجزائر ، ورجالات الفكر والإبداع الوطنية والعربية ، وبالتالي أخذ موقع الريادة في طرح أسئلة المسرح المغربي فيما يتعلق بالتنظيم والهيكلة ، كلنا نتذكر الدورة 11 – أبريل 1992 والتي كان بطلها الحسين الشعبي الذي أطلق عنان الفعل النضالي المواكب للحركة المسرحية بالمغرب ، وأول فرع للنقابة الوطنية لمحترفي المسرح تأسس في المغرب هو فرع اكادير ، ففي مهرجان أكادير المسرحي تم توحيد الرؤى بين الاتحاد الوطني للفنانين المحترفين آنذاك والغرفة الوطنية للممثلين المغاربة والاتحادات الإقليمية والتأسيس لمشروع نقابة واحدة وموحدة ، والدعوة إلى صيانة قانون ينظم مهنة المسرح آنذاك ، والتساؤل عن مكانة المسرح في قاموس وزارة الثقافة ووزارة الشبيبة والرياضة ، والحصار الإعلامي الذي كان يعانيه المسرح المغربي آنذاك، ومصير الطلبة المتخرجين من المعهد العالي للمسرح آنذاك، ودور مؤسسة مسرح محمد الخامس كمؤسسة وطنية أو محلية ينحصر نشاطها بمدينة الرباط.
فتجربة الاتحاد المسرحي كان بالحق المدرسة التي من خلالها ترعرع العديد من الفنانين المسرحيين والنقاد ، ومن هناك تفتقت مواهب في مجالات التسيير والإدارة ليلجوا الآن عالم الإنتاج والترويج للعمال المسرحية والتلفزية.
إن إصرار الحسين الشعبي الدائم وتمرده وعمق رؤيته للفعل الثقافي بالمغرب عموما ما يجعلنا نجزم أنه لو كان على رأس قيادة أمور الفن والثقافة بالمغرب لتحققت معه المعجزات لأنه صاحب ثقافة تنويرية واسعة وشاملة يحسن الحوار والتفاوض ويعرف شروطه.
الحبيب نونو مخرج وممثل مسرحي
مناقشة هذا المقال