Atigmedia
المصداقية والدقة في الخبر

نظام الخطارة بوادي الأملن : صمود الري التقليدي أمام الهجرة  الكثيف.

بقلم إيميلي هايز-ريتش. ترتفع سلسلة جبال جبل كيست ، بمنحدرات صخورها الجرانيتية الحية، بين العديد من قمم الأطلس الصغير حيث يتناقض اللون الأحمر الصارخ للصخور مع البقع الخضراء الزاهية للواحات الموجودة في سفح الجبل . جيوب صغيرة من الحياة، تغذى الكثير منها بواحدة من أعتق تقنيات الري التحت الأرضي . 

يعتبر وادي أملن، في منطقة تفراوت بالمغرب، موطنا لمجموعة من عشرة أنظمة  الري التقليدية المعروفة باسم الخطارة. من بين هذه الأنظمة العشرة، خمسة فقط  ما زالت تزود واحاتها بالماء. وبينما تتعايش معظم مناطق المغرب مع حقيقة فقدان أنظمة الري التقليدية، فإنه في وادي أملن ما زالت الخمسة الباقية من مجموعةالخطارات تحمي وتحافظ بفخر على مصادرها المائية.

    الخطارة هو نظام تقليدي لإدارة المياه معروف عالمياً باسم القناة ومحلياً باسم القاريزا، الجاليريا، الأفلاج، الفقارة، المامبو، البوكيو، السورانجام، والكانرجينج. يمكن العثور عليها في أربعة وأربعين دولة حول العالم،  من اليابان عبر آسيا الوسطى وأوروبا وشمال إفريقيا إلى أمريكا الوسطى والجنوبية. يتجاوز عمر هذه الأنظمة في العديد من هذه البلدان 2000 عام. وصفت التقنية من قبل المهندس الهيدرولوجي الفارسي أبو بكر محمد كراجي في القرن العاشر الميلادي بأنها “استخراج المياه الخفية” حيث تتيح تكنولوجيا الخطارة الوصول  إلى المياه الجوفية واستخدامها دون استخدام طاقة خارجية. يتضمن النظام نفقاً أرضياً يمتد أفقياً من مستودع المياه إلى السطح مع مآخذ عمودية توضع بانتظام للتهوية والصيانة. عندما تصل القناة الجوفية إلى السطح، تشكل ينبوعًا “اصطناعيًا” يوفر مصدرًا دائمًا للمياه الجارية. سمحت هذه التكنولوجيا بتوطين السكان والزراعة في المناطق التي لا تحتوي على مياه سطحية طبيعية، مثل الينبوع أو الوادي، مما يجعلها أداة قوية في الأراضي القاحلة. تعمل الخطارة بشكل أساسي كنظام “من أسفل إلى أعلى” (يديره المزارعون)، وكمزود ومصدر للمياه الجماعي ، وبالتالي فهي محط  عناية الجماعة”القبيلة”  بكاملها.

يعد المغرب موطنًا لما بين  2500 و  3000 نظام خطارة، موزعة في جهات كلميم واد نون ، سوس ماسة، درعة تافيلالت، مراكش آسفي، الشرقية، وفاس مكناس. واعتمادا على تقييم بالاستشعار عن بعد حديث فإن 21 إلى 35٪ فقط من أنظمة الخطارة في المغرب لا تزال نشطة؛ فعلى مدى القرن الماضي، تراجع استخدام الخطارة في جميع أنحاء البلاد بشكل كبير. يُعزى التخلي في المغرب عن نظام الخطارة إلى التغيرات المناخية الحادة، وإدخال التكنولوجيا الحديثة (بخاصة الآبار بالمضخات)، وتغيير القيم الاجتماعية بسرعة (من النظرة المشتركة للمياه إلى النظرة المستأجرة للمياه). ومع ذلك، وعلى الرغم من التخلي الشامل عن نظام الخطارة في المغرب، هناك المئات من المجتمعات التي لا تزال تكافح للاستمرار في استخدام أشكالها التقليدية لإدارة المياه.

ويعتبر وادي أملن أحد المناطق التي مازالت تحافظ على  استخدام واستدامة  نظام الخطارة،كأحد أعتق أشكال الري والزراعة التقليدية. يقع وادي أملن في منطقة نائية بجبال الأطلس الصغير،حيث يوجد حوالي ستة عشر دوارًا على طول سفح  سلسلة جبل الكست وعلى طول ضفاف وادي تيملت الذي يتدفق أحيانًا عبر الواحات . يتراوح الإرتفاع المتوسط على سطح البحر  بين 1500 و2500 متر. وتوفر الكثبان الجيرية المكشوفة وعدة مجموعات جرانيتية فرصة تخزين جيدة للمياه تحت السطح. تتلقى المنطقة كميات قليلة من الأمطار، يبلغ متوسطها أقل من 200 ملم سنويًا، وتتراوح درجة الحرارة بين 16 درجة مئوية في الشتاء و 34 درجة مئوية في الصيف.

بسبب قلة الأمطار، يعتمد معظم الإنتاج الزراعي على القدرة على الوصول إلى الماء وتدبير  المياه الجوفية المحبوسة داخل سلسلة جبل كيست. يوجد العديد من أنظمة الينابيع الطبيعية، ولكن العديد من المجتمعات قامت ببناء أنظمة خطارة للاستفادة من الحجرات الجوفية الغنية. من بين ستة عشر دوارًا في وادي أملن، ثمانية توجد بها  أنظمة الخطارات: أسكين، تازولت، أمسنات، أجشتيم، إمي ن تيزغت، تادارت، الأملن، وأغرض أوداد. يملك معظمهم  نظامًا واحدًا فقط للخطارة، لكن دواري تازولت وأغرض أوداد يملكان نظامين. بإجمالي عشرة أنظمة خطارة مُعترف بها في وادي أملن، وخمسة منها لا تزال نشيطة. من خلال مقابلات مع أعضاء المجتمع المحلي “الساكنة” في أسكين وتازولت وإمي ن تيزغت، يعود تاريخ هذه الأنظمة إلى ما قبل 500 و800 سنة. هناك وثائق تفصيلية تتناول النزاعات المائية من خطارة أمسنات تعود إلى أوائل القرن الثامن عشر، لذلك فإن هذا النظام موجود على الأقل منذ 300 سنة بالتأكيد.

بشكل عام، هناك نوعان من أنظمة الخطارة في وادي أملن: نظام الخطارة الجبلية ونظام الخطارة في الوادي والسهل الرسوبي. النوع الأول، الخطارة الجبلية، هو نظام أقصر يتم بناؤه في الأنهار” المسيلات” الصخرية على طول جبل الكست. يتم دمج هذه الأنظمة مباشرة في الصخور  الجوفية في الجبل التي تعبأ بالمياه المنصهرة والتي تتدفق من الأطلس الكبير وكذلك الأمطار في جبل الأطلس الصغير العلوي . تعتبر نظم الخطارة في أسكين وتازولت وأمسنات نظما بسيطة وقصيرة (تتراوح  طولها مابين  180 و520 مترًا ) مع بئر واحد (يتراوح  عمقه مابين 5 و16 مترًا ) ومنفذ واحد.

 يعد نظام الخطارة في إمي ن تيزغت أكثر تعقيداً ،بعض الشيء من غيره، مع وجود أربعة آبار رئيسية وطول الخطارة  الذي يبلغ 465 مترًا. وتعتبر نظم الخطارة في كل من أسكين وتازولت وأمسنات وإمي ن تيزغت المصدر الوحيد  للتزود بمياه الري والشرب.

ونظراً لتكرار فيضان الأنهار الصخرية (وغالباً فيضانات عنيفة)، تم تعزيز جميع أنظمة الخطارة على طول جبل الكست بالإسمنت. ويشمل ذلك مداخل التهوية والصيانة وأحياناً القنوات الأرضية. وفي دوار أسكين، تم تعزيز المداخل أصلاً بأعمدة حجرية/خرسانية مكدسة ولكنها تمت تدعيمها  عام 2019 وأصبحت الآن بنى خرسانية قوية. كما عرف  نظام الخطارات في إمي ن تيزغت تهيئة  حديثة أيضًا. فما بين عام 2008 إلى 2011، أنجزت جمعية AIDECO سلسلة من الترميمات على الخطارة:إذ  تم تغطية القناة التي تجلب المياه من المنفذ إلى الخزان لمنع فقدان المياه بسبب التبخر، وتمت إعادة بناء المصبنة الجماعية  وطلاؤها، وأضيفت أنابيب مطاطية إلى بعض القنوات  الأرضية للمساعدة في تدفق المياه.

تعمل نظم الخطارة في كل من أسكين وإمي ن تيزغت وأحد نظامي تازولت بشكل ممتاز. كما تواجه هذه الأنظمة أحيانًا مشاكل بسبب جذور النخيل والاشجار  التي تحجب القناة الجوفية، لكن يمكن حل هذه المشكلة بسهولة من خلال تنظيم الجمعيات المحلية لحملات التنظيف السنوي  . ومع ذلك، تعاني نظم الخطارة في أمسنات والخطارة الثانية في تازولت من نقص المياه ،ولا يمكنها تزويد القرى بما يكفي من المياه. ومع ذلك، وفي محاولة للاستمرار في استخدام النظم التقليدية، تم تجاوز القناة الأرضية في كل من تازولت وأمسنات بواسطة سلسلة من الأنابيب المطاطية التي تساعد في التقليل من فقدان المياه وتسللها إلى الأرض مرة أخرى.

تلعب نظم الخطارة في أسكين وتازولت وأمسنات وإمي ن تيزغت دورًا حيويًا في المجتمعات المحلية. وما يزال توزيع المياه محليا قائما، وهو يعتمد  على النظام التقليدي”توالة”  “نوبة”. وضمن العديد من الممارسات التقليدية للري، لا يمتلك أفراد المجتمع  المياه ؛ بل يمتلكون “جزءا” داخل دورة. يعرف هذا  باسم “النوبة” “توالة”  ويعتمد على نظام معقد لتوريث حقوق المياه. 

عمومًا، يتم تقسيم نظم النوبة في المغرب إلى دورات تتراوح بين 10 و28 يومًا. بموجب  هذه الدورات، تمتلك العائلات بعض أوقات حقوق الري (مثل ساعة واحدة في اليوم 5 أو 4 ساعات في يوم 11 من دورة النوبة). يتم إنشاء نظام النوبة عادة عند بناء خطارة أو قناة نهرية للسقي  لأول مرة، وتحصل الأسر التي شاركت في بناء النظام على جزء  معين. يتم توريث  هذه الحقوق العائلية بعد ذلك.

النوع الثاني من أنظمة الخطارة في وادي أملن هو نظام خطارة تم بناؤه على طول ضفاف الأنهار الصيفية. هذه الأنظمة في دواويرتادارت وأملن وأغرض أوداد بتافراوت أصبحت معطلة . وعلى عكس الخطارات الجبلية  في جبل الكست، فإن هذه الأنظمة مصنوعة من القرميد والحجر وأحيانًا الإسمنت ،ولها قنوات طويلة (تتراوح بين 280 و1000 متر) وآبار عميقة (تتراوح بين 5 و25 مترًا). في الماضي، كان يتم تخزين مياه الفيضانات في الخطارة الثانية واستخدامها للري في فصل الصيف.

وفي الفترة من عام 2014 إلى 2017، تم تجريد نظام الخطارات هذا من الكرميد الخزفي لبناء الأسقف. تم استبدال هذا الكرميد بالخرسانة المصبوبة محليًا ، وقد تم ذلك في وقت لاحق، وهو مشروع طوعي أشرف عليه المعهد الوطني للعلوم الأرضية ومعهد البحث الزراعي ومنظمة الإغاثة الفلاحية AGR.

 على الرغم من تحديات الإستدامة التي تواجهها أنظمة الخطارة في وادي أملن، فإن مجتمعات الخطارة المحلية تظل ملتزمة بالحفاظ على هذا النظام التقليدي القديم واستخدامه بفخر كطريقة مستدامة لإدارة المياه ودعم الزراعة المحلية.

هناك نظامان في أكرض أوداد، واللذان يعدان أكبر بكثير من غيرهما، وقد تم استخدامهما إلى وقت قريب. حيث كان أحد أنظمة أغرض أوداد قيد الاستخدام حتى حوالي عام 2019، عندما تم إعادة استخدام مياه البئر الرئيسي  في استغلال ربحي لمشجرة  الزيتون. تم حفر  بئر كبير على العين  الرئيسي للخطارة وهو الآن يستغل لنظام ري كبير بالتنقيط. ولم تعد الخطارة التقليدية تتلقى الماء على الإطلاق. النظام الثاني في أكرض أوداد هو أكبر نظام في وادي أملن. يبلغ طوله حوالي 530 مترًا مع آبار تهوية بقطر يبلغ حوالي 10 أمتار. في مقابلة مع أحد ساكنة أكرض أوداد، أشار إلى هذا النظام كان نشطًا حتى الستينيات / السبعينيات وأنه يتذكر ذلك ، كما يتذكر أن المنطقة كانت في الماضي “جنة” مع بساتين خصبة ومزارع فلاحية غناء. و أصبحت المنطقة الآن قاحلة جدًا، مع وجود نزر قليل جدًا من المغروسات  المتبقية.

تحكي أنظمة الخطارات وادي أملن قصتين مختلفتين للغاية. تلك الموجودة في الوادي نفسه، على طول ضفاف الوديان ، هي أنظمة مهجورة لعقود من الزمن وحقول زراعية قاحلة . وفي المقابل ، تحكي الخطارات على طول جبل الكست قصة أنظمة ناجحة وتظل المصدر الوحيد للمياه للمجتمعات التي ما زالت صامدة ومصممة على الاستمرار في الاعتناء بها.

وتعتبر تلك المجتمعات المخلصة لهذا النظام التقليدي أن نظام الخطارات  ليس فقط جزءًا مهمًا من تراثهم، ولكنه أيضًا مصدرا مستداما للمياه للزراعة والاستخدام المنزلي. ويلاحظ عضو  المجتمع المدني المحلي، مصطفى النقراوي، من إمي نتزغت أن نظام الخطارات يعتبر  من التراث العالمي والمحلي. ويعتقد أن الممارسات التقليدية أكثر استدامة وأفضل للمجتمعات لأنها تتناسق  مع الطبيعية البيئية بدلاً من استغلالها واستنزافها . وتتفانى المنظمة، AIDECO، في الحفاظ على نظام الخطارات الفريد الذي يعد  المصدر الوحيد للمياه المنزلية والزراعية لساكنة إمي نتزغت (البالغ عددهم حاليًا 320) ، لأكثر من 800 سنة. وبينما توفر الخطارات المياه لإمينتزغت ، فان المجتمع المدني يعتني بتلك الخطارات لضمان ديمومتها واستمرارها.

تقر المؤلفة بامتنان بالدعم المالي المقدم لهذا المشروع من برنامج الطلاب التاهيلي للحصول على منحة فولبرايت الأمريكية، والذي ترعاه وزارة الخارجية الأمريكية واللجنة المغربية الأمريكية للتبادل التربوي والثقافي (MACECE). كما تم توفير تمويل إضافي من جمعية نساء الجامعات الأمريكية (AAUW)، فرع سانتا في، نيو مكسيكو، ومعهد الدراسات الأمريكية حول المغرب  (AIMS). . وتتحمل  المؤلفة كامل مسؤولية نتائج هذا البحث والتي لا تمثل بالضرورة وجهات نظر برنامج فولبرايت، أو AIMS، أو AAUW، أو حكومة الولايات المتحدة، أو MACECE.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.