موت مؤسسة المدرسة بين الوهم و الحقيقة
بسبب التداعيات العديدة التي صاحبت النظم التعليمية في العديد من الدول، بدأ الشك يتسرب في نفوس نسبة عظيمة من الناس ، بالنسبة لقوة تأثير التربية و قدرتها على قيادة المجتمع نحو التغير الجدري و السليم ، أو على أقل تقدير إمكانية أن تبقى المدرسة كمؤسسة متكاملة و متجانسة تسعى بشكل منهجي و علمي تمكين الأفراد من الإندماج في محيطهم المحلى و الكوني، و تحويله من أفراد إلى أشخاص بذوات فاعلة، مما يستدعي إعادة التفكير في مفهوم المدرسة و تفكيك أدوارها في البنى السوسيواقتصادية و السياسية.
لا غرو أن نتفق على أن المفاهيم ليست تابثة على مر الأزمان ، و ليست مستقرة باختلاف المجالات الجغرافية، و لا تخلو المدرسة و المعلم و المربي و الطالب و التعلم و الفصل و التقنية، و غيرها من تحول فيها سواء من حيث الممارسة أو المفهوم .
و يخطئ من يظن أن الإنسان يتعلم كل شيء في المدرسة التي يلتحق بها، أو أن هذه المدرسة بما تعنبه من مبان و أدوات و موارد بشرية و مادية هي المكان الأوحد للتعلم أو الحصول على المعرفة، لقد أثبتت بعض الدراسة أن الإنسان عندما يلتحق بالمدرسة و هو في السن السادسة يذهب إليها بعد أن تعلم حولي 70 بالمائة تجمع بين اللغة و العادات و التقاليد و نمط السلوك و المعتقد، و تحدد هذه العناصر الملامح الأساسية لشخصيته، و إن كانت المدرسة تكسب الطلاب المهارات و المعلومات و المعارف فإن دورها يأتي بهد أن يكون الطلاب قد مروا بأخصب فترة ذات أثلر في حياتهم، و هي مرحلة ماقبل المدرسة.
و هذه” المدرسة” التي نراها في صورتها المعاصرة ، ما هية إلا إفراز لعصر الثورة الصناعية التي ركزت بصفة أساسية على العملية الإنتاجية و “ليست العملية التعلمية”، فحرصت على ان توظف كافة الإمكانات و الادوات من اجل إخراج ” نسخ متكررة” تتشابه إلى حد كبير في النموذج الذي يتم إنتاجه من الطلاب، و لذلك تضع المدرسة لهم المناهج و البرامج و المواد الدراسة، و كافة ما تقدمه إليهم لتحقيق هذه النمذجة أو القولبة .
في القرن العشرين أجمع معجم التربويين على أن من أغرب ما واجهوه خلال هذا القرن ، هو ظهور نفر من المفكرين ، ادعوا قلب الجسد التربوي و المؤسساتي و عناصر اشتغاله في المجتمعات المعاصرة ،مما أدى إلى بروز الإتجاه اللامدرسي في كتابات المفكر الفرنسي جان جاك روسو(1668-1712م) الذي ذهب إلى أن المدرسة و التعليم النظامي يفسدان الطبيعة الخيرة و السليمة للطفل، و ما تلا هذه الفكرة من أفكار فروبل و بستالوتزي و ديوى الذين أكدو على مبدأ تعليم الأطفال ما يرغبون فيه دون تقييد، فإن الهجوم العنيف على المدرسة في صورته المتطرفة المطالبة بالإلغاء و الإعدام تماما قد كان في النصف الثاني من القرن العشرين على يد إيفان إيليتش و رفاقه.
و كان نقد إليتش للمدرسة ينطلق من غطار عام للنقد موجه أصلا نحو الإتجاه المؤسسي في المجتمع الغربي، فإليتش يؤكد أن المناخ المؤسسي يسحق الحرية الفردية بالبيروقراطية و المركزية و الهرمية ، و من ثم فقد تحكمت في حياة الناس، والأدهى ان هذه المؤسسة التي أنشاءها الناس لخدمتهم أصبحت في يد قلة منهم ، وعليه فلم تعد هذه المؤسسات خدمية للجميع بل إقتصرت منفعتها على هذه القلة .
ينتمي إيفان إليتش صاحب كتاب “مجتمع بلا مدارس”-1970- إلى فلسفة سياسيّة واجتماعية تعرف بالمدرسة اللاسلطوية، والتي يمكن تعريفها باعتبارها “أيديولوجية اجتماعية وسياسية، فكرتها الأساسية رفض السلطة الخارجية، واتخاذ مواقف جذريّة منها، سواء كانت من الدولة، أو رب العمل، أو الهرميات الإدارية والمؤسسات القائمة كالمدرسة والكنيسة إلخ”، وتشير الكتابات التي تؤرخ لتاريخ اللاسلطوية المتعلقة بالتعليم إلى أنّ أول ما كُتب في تلك الرسالة الذي نشره ويليام جودوين عام 1795، وصولا إلى كتاب بول غودمان “التعليم الإلزامي الفاشل” 1964، وكتاب إيفرت رايمر “موت المدرسة” 1965، في حين أصبح تزايد الناس على استهلاك مؤسسة المدرسة يتزايد اشكل كبير.
إن المدرسة حينما تحدد سنا أدنى لدخولها إنما تمارس نوعا من التفرقة لصالح الأطفال ضد الراشدين، و تتيح فقط لهؤلاء الصغار الاستفادة من الإنفالق الضخم المخصص للتعليم . كما ان الناس تتعلم خارج المدرسة أكثر ما تتعلمه داخلها، أي أن التعليم ليس نتيجة التدريس، بل إن المدرسين هم الذين يعطلون التعلم الطبيعي لدى التلاميذ نتيجة لعملهم الروتيني النمطي، و المدرسة بهذه الصفة تحكمت فب التنشئة الإجتماعية، و عملت على تنميط السلوك، و توحيد الاستجابات في تجاهل فاضح للفروق الفردية الطبيعية بين بني البشر.
و حينما نفكر المعرفة في هذه المدراس فإننا نجدها سلعة معلبة معدة للإستهلاك مما يجعل المدرسة غير قادرة على تخريج مفكر مبتكر، لأن المدرسة أشبه ما تكون بمعتقل لتدريب الطلاب عبى الإنضباط و الخنوع و الخوف و الغنقباد و التراتب الإجتماعي..، أما المدرس في المدرسة فليس سوى سجان وواعظ يهيمن و يسيطر على تكوين شخصية التلميذ.
و حينما نسائل المناهج و البرامج المدرسية المعاصرة نجد انها برامج تحمل إيديولوجية ضيقة تسعى و ضع التلميذ في علبة سوداء ضيقة في التفكير و تقتل لدية الآليات الإبداعية و الإبتكارية و و النقدية، فيصبح فريسة سهلة للتطرف و العنف و إعادة إنتاج الأنماط القبلية و التقليدية في الحياة. و إيفان إليتش أشار إلى أن المناهج تتوزع بين المناهج الظاهرة و المناهج الخفية التي تضمر كما كبيرا من القيم و المفاهيم و المعاريف و الاتجاهات التي تبث داخل ذوات الطلاب بطريقة غير مباشرة و خفية، رسائل خفية تربط قيمة الإنسان بالتمدرس، أي أنه من خلال المرسة يصبح الإنسان ذات قيمة، و ينبه إليتش إلى أنه مع تزايد الاهتمام بالشهادات المدرسية، ضاع كثير من العلوم و المهارات و الأفكار و فرص الإبتكار و الإبداع، ووصل الإنسان إلى حالة شنيعة من الإغتراب المعرفي .
و قدم إليتش بديلا عن مؤسسة المدرسة، ليشمل التعليم جميع فئات و أفراد المجتمع إنصافا و مساواة.و سمى مشروعه البديل “شبكات التعليم” استثمارا لما وصل إليه العقل البشري من تقنية معلوماتية في الأونة الأخيرة، و هي شبكات تدخل التقنية في تكوينها، تمثل وسائط يتعمل الناس من خلالها، و هذه الشبكة لا تحدد عمرا أدنى أو أقصى لمن يريد دخولها . و تتيح للمتعلم نوع التعليم الذي يرغبه،و بالتالي سيحصل على أقران يلائمونه من حيث الميول و الإتجاهات و الرغبات، كما أن هذه الشبكات تتيح في نفس الوقت لمن يملك معرفة أو مهار، أن يوصلها و يعلمها لمن يرغب فيها، كل هذا لا أحد يفرض على المعلم و لا على المتعلم منهجا بعينه أو وقتا معينا أو عمرا محددا …و بذلك يصبح التعليم خدمة متاحة للجميع في أي وقت كالهاتفأو التليفيزيون على سبيل المثال .
و يجب أن تنبني شبكة التعليم حسب إليتش على :
- أنها تتكون من الوسائط التقليدية للتربية اللامدرسية (الأسرة، دور العبادة، المؤسسات المهنية والسياسية، وسائل الإعلام، المكتبات والمعارض والمتاحف…….) والدور الأساسي فيها للتعلم الذاتي الحر
- أن المدرسة لا يمكن الاستغناء عنها ضمن هذه الشبكة، ولكن يتم تحوير دورها بحيث تصبح بمثابة بؤر على الشبكة تعمل على تنظيم السيال المعرفي الساري فيها
- يركز التعليم ضمن هذه الشبكة على كيفية وصول المتعلم إلى المصدر الملائم والحصول على المعلومات، والاستجابة النقدية لهذه المعلومات.
- أن تكون كل الخبرات المطلوبة في متناول جميع المتعلمين يختار المتعلم منها ما يناسبه وفقا لمساره الذاتي في التعلم.
- وجود مراكز لتبادل الخبرات بين المتخصصين والمتعلمين، ويتم اعطاء الخبراء والمحترفين الفرصة للمشاركة في عملية التعليم، وبالتالي اثراء المعرفة التعليمية
- بعكس نظام الفصول الدراسية، تجمع شبكات التعلم بين الأقران على أساس الاهتمام والميول التعليمية، وتقدم لهم لوائح من المصادر والأنشطة الذين هم في حاجة إليها ضمن مسارهم التعليمي، ويختارون منها بكل حرية.
- دور المعلم كخبير معرفي يتمثل في ارشاد الطلاب والعمل على تطوير قدراتهم النقدية والإبداعية فيما ينتقونه من مسارات تعليمية وخبرات تربوية.
موت مؤسسة المدرسة في السياق السوسواقتصادي و السياسي المعاصر، لا يعني إنهيار المبنى المدرسي، فقد تموت المدرسة و هي واقفة شامخة، يؤمها التلاميذ و المعلمون كل صباح، يعمقون موت العقل و توسيع الهووة بين بنية المدرسة الداخلية و دورها الإجتماعي و بين البيئة الإجتماعية التي تنتمي إليها، ومنه نتساءل :
إلى أي حد أدى التغير الكوني التقني الشامل إلى تغير الأدوار المناطة بالمدرس؟
* طالب باحث بسلك الماستر بالمعهد المكي لتكوين الأطر في الشبيبة و الرياضة الرباط