من هامش المغرب، أصغر كاتبة عربية تبدع شمسا بحجم الكف.
زهرة العسلي
جاءت إلى عالم الحكاية مكتملة النضج، بلغة شفيفة، أسلوب مبهج في الكتابة وتأملات
فلسفية برغم طفوليتها تلامس القضايا الحيوية للوجود، ألا يقال في الفلسفة خذ الحكمة من
أفواه الأطفال والحمقى..
شخوص يبدون أشبه بكائنات من دم ولحم تمرح وتتعذب، تتألم وتحلم مثلنا، نكاد نراهم في
واقعنا اليومي بصفاتهم وأسمائهم، رؤية مبهجة تذهب نحو أفق عالم رحب مطروح على كل
الاحتمالات.. ندى فتاة صغيرة من هامش مقصي، لها أخ جاء إلى الوجود بعلة مستدامة،
ظل يعاني من متلازمة داون وأورث أمه عطب الحياة، حيث نصادفها في رواية “شمس
بحجم الكف” بلا صوت، بلا أثر يدل عليها سوى أنها جثمان حي في سرير غرفة مظلمة،
دوما في شبه غيبوبة عن العالم، تحيلنا على باتريك زوسكيند بطل رواية “العطر” الشهيرة
لجان باتيست غرنوي، الذي أنجبته أمه تحت عربة بيع السمك وسط السوق، بين تلك
الروائح العطنة، حيث أرادت التخلص منه بحكم أنه ابن غير شرعي كما فعلت مع سابقيه،
يوم صرخة ميلاده ماتت الأم التي وهبت الابن بذرة الحياة، تلك الصرخة جلبت العار لأمه،
فتم عدامها.. كيف تهب الطبيعة روحا وحياة لطفل، يكون سببا في قتل أمه وسرقة بهجة
الحياة منها؟ ولكن غرنوي لم يمت برغم شنق أمه، فيما مراد سيظل معتلا هناك وأم ندى
إلى جانبه في غرفتها الأخرى يتبادلان الحزن والأنين، كيف اعتل كل واحد بالآخر؟
يهجر الأب العائلة بحثا عن مساره الشخصي، فتبدأ الطفلة ندى سلسلة كفاح منقطع النظير، بين الألم والأمل، بين الإحباط وروح التحدي في البحث عن سبيل لإعادة التوازن لوجود مختل، وأثناء رحلة البحث المضنية عن علاج للأخ الصغير والأم المعتلة، تبدأ الأسئلة الكبرى حول معنى الحياة، القدر والإرادة في تغيير العالم، النظرة المتخلفة للإنسان في مجتمع يبحث عن مسار تشكله في ظل كوابح ثقافية وتقاليد متخلفة تعيق معانقة الإنساني في الإنسان، يقول السارد: “لكن الصغيرة مع ذلك أصرت على المقاومة، وعاودتها وساوسها وأحلامها في شد وجذب، من يُردي الآخر، كانت ذاتها مثل ساحة معركة، طرفاها المتصارعان هما اليأس والأمل، الحزن والفرح، الانكسار والانتصار.. سئمت خوفها من كل آت، ملت تلك الأحزان التي ما أن توشك على الانتهاء حتى تلد أحزانا جديدة، تطلعت إلى المرآة، مررت أصابعها النحيلة على تلك الفتاة الشاحبة التي تطل من بحر الزجاج، أفزعها ذلك الوجوم العابس في وجهها، ذلك الشحوب الذي اكتسح بشرتها، نسيت نفسها، أحلامها، مستقبلها، كل شيء جميل صار موؤوداً في هذا المثوى الذي كم تمنت لو هُدمت أسواره الإسمنتية وتصدعت أعمدته وانصهرت قضبانه الحديدية التي تحميه، لتبكي على أطلاله، أو ربما يبكون على جثتها المطمورة تحت أنقاضه”.. لكنها في لحظة إشراقة جوانية تعود إلى لغة التحدي الذي لازم الإنسان في صراعه التاريخي ضد كل عوامل اليأس والحزن والإحباط لتقول على لسانها كبطلة لرواية “شمس بحجم الكف”: “أنا عائدة الآن، ومعي زخم وافر من جذوة الأمل المتقدة التي اكتشفت المنفذ السري إليها لأهزم العبوس والتشاؤم.. لقد انتصرت على جبروت اليأس ومزقت نسيج الأفكار الحزينة التي اتخذت من جمجمتي ملاذاً لها، ومن حسي البليد الأحمق حرزاً حصيناً يأويها.. لن يغريني الضعف والجمود، لن يهزمني الخمول والاستكانة! فقد دفنت كل الذوات المعتلة والمعاقة التي كانت تستوطنني.. أحسني الآن أني قوية”.
وتنتهي الرواية بأمل، مهما بدا ضعيفا يظل نافذة على الوجود الصاخب، كل ذلك ترويه عبير عزيم بلغة سردية ماتعة ومبهجة، فيها الكثير من التأمل والمونولوج الداخلي الذي يعكس روح شخصيات قلقة مما تواجهه في الحياة، لتصدح في الأخير بصوت إيليا أبو ماضي: كن جميلا ترى الكون جميلا، وابتسم يكفيك التجهم في السماء.