Atigmedia
المصداقية والدقة في الخبر

مقال رأي : مفارقات المشهد الديني المغربي ،الملامح والمآلات.

بقلم خالد شهبار.
لا مشاحة في أن كل متتبع حصيف لتحولات المشهد الديني المغربي في العقود الأخيرة، ستؤجج اهتمامه المفارقة التالية: في الوقت الذي سيُلاحِظ فيه ارتفاعاً واضحاً في مؤشرات تديُّن المغاربة، وحضوراً كثيفاً للدين بالفضاء العمومي، وتعدداً غير مسبوق في مظاهر وكيفيات استثماره السياسي؛ سيُلاحِظ في الوقت نفسه تقلُّص مساحة الدين تدريجياً في يوميات المجتمع المغربي، وتراجع حضوره بصمت في بنائه المؤسساتي. يحاول هذا المقال، متوسـلاً أدوات علم اجتماع الأديان، تشخيص ملامح هذه المفارقة، وإعادة تركيب وقائعها، واستجلاء دينامياتها العميقة والدافعة، واستشراف مآلاتها المستقبلية في ضوء تزايد النفوذ السياسي لحزب «العدالة والتنمية»، أحد أهم أطياف مجرة «الإسلام السياسي» في المغرب.
كلمات مفتاحية: الدين، التديُّن الفردي، الدَّنيوة، العلمانية، حزب «العدالة والتنمية».
مقدمة
إذا كان السؤال السوسيولوجي غالباً ما يجد مصدره في الجهل بظاهرة معينة، أو في التشكيك في رأي جاهز وشائع، أو في الانشغال بظاهرة تبدو تناقضية ومفارقية (Mantoussé, 2006: 14)، فاٍننا سنحاول من خلال هذا المقال، متوسلين أدوات علم اجتماع الأديان، تفكيك لغز إحدى المفارقات السوسيولوجية اللافتة التي أججت اهتمامنا في سياق مُعايَنَتِنا للتحولات السوسيو – ثقافية العميقة التي يعرفها المجتمع المغربي، وَرَصْدِنا لمؤشرات تحول مشهده الديني بشكل خاص؛ وذلك عبر تشخيص ملامحها العامة، وتَعقُّبِ شِعابِها، واستجلاء محدداتها الشاملة، وفرز مآلاتها في ظل تصاعد مد إسلامه السياسي. يمكن أن نُكثِّف عناصر وأبعاد هذه المفارقة‏[1]، التي تعبر عن طبيعة التعقد والالتباس الذي يميز علاقة الديني بالسياسي بالمجتمع المغربي، ويسِم علاقة الدين بالحداثة عموماً، على النحو التالي: في الوقت الذي نلاحظ فيه ارتفاعاً واضحاً في مؤشرات التديُّن لدى المغاربة، ونعاين كثافة حضور الدين في الفضاء العمومي، وإقبالاً كبيراً على استثماره السياسي سواء من قبل الدولة أو حركات «الإسلام السياسي» بمختلف أطيافه. نلاحظ في الوقت نفسه تراجع وتقلص مساحات حضور الدين في يوميات المجتمع المغربي أكثر فأكثر. فقد أصبح وجوده مقتصراً على بعض الفضاءات الاجتماعية الضيقة الموجودة على هامش الحياة العامة، وظل مرتبطاً بأمكنة محددة وبأزمنة محدودة وخاصة.

يوجهنا في ذلك كله هدف مركزي يروم الإجابة، انطلاقاً من رؤية نقدية مركبة لا تخلو من نَفَسٍ استشرافي، عن السؤال التالي: إلى أي حد يمكن لتفاعل كل من متغيرَي ارتفاع منسوب تديُّن المغاربة، وتضخم حضور تعبيراتهم ورموزهم الدينية في الفضاء العمومي في السنوات الأخيرة، وتكاملهما وتشابكهما مع متغير آخر هو تزايد النفوذ السياسي لحزب «العدالة والتنمية» في الحياة السياسية المغربية، أن يُفَرْمِلَ سيرورتا الدَّنيوة (Sécularisation) الزاحفة والعلمانية (Laїcité) الجزئية الصامتة اللتين تخترقان مفاصل المجتمع المغربي منذ سنين طويلة، واللتين يمكن اعتبارهما محطات متقدمة في مجرى ومسرى «الخروج عن الدين» بالمعنى الذي يعطيه إياه مارسيل غوشيه‏[2]. نُذَكّر في هذا السياق أن حزب «العدالة والتنمية»، أحد أهم أطياف مجرة «الإسلام السياسي» بالمغرب، أصبح منذ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2011 يقود ائتلافاً حكومياً بعد امتلاكه أكثر من ربع مقاعد مجلس النواب (27,08 في المئة خلال اقتراع 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2011 (وزارة الثقافة والاتصال، 2019)، و31,64 في المئة خلال اقتراع 7 تشرين الأول/أكتوبر 2016 (وزارة الثقافة والاتصال، 2016)، ويضطلع، منذ الانتخابات الجماعية والجهوية لـ 4 أيلول/سبتمبر 2015، بتدبير شؤون أغلب المدن الكبرى.

أولاً: حول أهمية الموضوع وخلفيته النظرية
من نافل القول أن التفكير السوسيولوجي في علاقة الدين بالحداثة ظل لمدة طويلة محكوماً بما سماه أُوليفيي تشانين (Olivier Tshannen) بـ «براديغم الدَّنيوة» (Tshannen, 2001: 308) الذي يسلّم بعلاقة التعارض الجذري والتنابذ الحاد والتنافر المتبادل الذي يجمع بينهما، بعلة أن كل توجه نحو الحداثة سيجرّ حتماً في إثره تراجعاً للدين في المجالين العام والخاص.

لقد ظل هذا البراديغم مهيمناً داخل سوسيولوجيا الأديان إلى حدود نهاية سبعينيات القرن الماضي، أي إلى حدود اللحظة التي بدأت تتناسل فيها «الحركات الدينية الجديدة (NMR)» (Beckford, 2013: 808‑809)، وتتواتر فيها بعض المعطيات الدولية التي أشرت إلى زخم الظاهرة الدينية، وعلى تصاعد حضور المؤسسات الدينية بالفضاء العمومي؛ ليس فقط بهوامش العالم الحديث، مثل إيران التي عرفت ما سمي الثورة الإسلامية سنة 1979، بل وبمراكزه أيضاً، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث بدا ذلك واضحاً عبر الدور الكبير للكنائس الإنجيلية في فوز رونالد ريغان على جيمي كارتر، خلال الانتخابات الرئاسية سنة 1980، بعدما كانت تفضل دائماً النأي بنفسها عن الصراعات السياسية المباشرة (Tank-Storper, 2013: 743).

لقد مثل ظهور هذه المعطيات الجديدة حافزاً قوياً لتسليط معاول الهدم والتقويض على مسلّمات هذا البراديغم بعد أن أبرزت ضعف قيمته الكشفية، فاعتُبرت شهادة ناصعة على «ولادة جديدة» (Renaissance) للدين (Cipriani,1981: 147)، ودلالة قاطعة على «ثأر الله» (Kepel, 1991)، وتعبيراً جلياً عن «نزع خوصصة الدين» و«تعميمه» (Déprivatisation) (كازانوفا، 2005: 16)، ومؤشراً دالّاً على «استعادة سحر العالم» (Réenchantement) (Berger, 2001)، وعلى النزوع نحو «نزع الدَّنيوة من العالم» (Désécularisation) (Berger, 2001)، بل نحو «مناهضة الدَّنيوة» (Contre-sécularisation) (Berger, 2001: 20).

لقد أبرزت هذه الوقائع أن الدين والحداثة يسيران جنباً إلى جنب، بتزامن وتساوق، حيث إن حضور طرف لا يلغي بالضرورة الطرف الآخر. يشَبِّه ريجيس دوبري ترابطهما المتلازم هذا بـ «الحركات المُحتمة في رقصة باليه […] والمعادلة ذات قيم متغيرة ولكنها مترابطة التلازم» (دوبري، 1986: 468 – 469)، ويُمَاهِيه بِلُعْبَة المجموع الصفري، حيث يبدو أن «نزع السحر عن العالم» ليس حاجزاً أمام تدفق حِمَم المُقدَّس الملتهبة، بل هو وَقُودها، أو لنقل إنه ربيبها وباكوراتها في الوقت نفسه؛ ما دمنا «نحتاج إلى الاقتحام (Effraction) كما نحتاج إلى الانكفاء، وإلى جاذبية الواسع كما إلى المنطقة الآمنة، وإلى الشجرة كما إلى الزورق، وإلى المقدس كما إلى المدنس» (Debray, 2001: 9). وضمن نفس الأفق، تؤكد دانييل هرفي ليجي (Danièle Hervieu-Léger) أن «الحداثة تحطم الدين بوصفه نظاماً من الدلالات ومحركاً للمجهودات البشرية، لكنها، وفي الآن ذاته، تخلق الزمكان المناسب لظهور يوتوبيا تظل، من حيث بنيتها نفسها، مرتبطة بإشكالية ذات طبيعة دينية هي إشكالية الاكتمال والخلاص» (Hervieu-Léger, Champion, 1986: 224). وفي الاتجاه نفسه، يؤكد بيتر بيرغر (Peter Berger) أن الحداثة «تزعزع كل اليقينيات القديمة، في حين أن العيش في غياب اليقين هو حالة صعبة بالنسبة إلى الكثيرين، لهذا تستطيع بعض التنظيمات (ليس فقط الدينية منها)، التي تعدهم بمنح أو استعادة يقينيات معينة، أن تجد سوقاً جاهزة ورائجة مفتوحة في وجهها» (Berger, 2001: 21).

اللافت للانتباه، أن المجتمعات الإسلامية غالباً ما يتم استحضارها كأفضل مثال لحالة ما يسمى «عودة المقدس»، وبخاصة بعد تصاعد مدّ الحركات الدينية – السياسية فيها على نحو غير مسبوق من جهة، وتضخم حضور الرموز الدينية المرئية بفضائها العمومي، وكثافة تصاعد مؤشرات تدين أفرادها من جهة أخرى. وبأثر من ذلك، ستغذي سيرورة «إعادة أسلمة» (Ré-islamisation) (Roy, 1992: 81) هاته المجتمعات الصورة العامة التي نسجها الخطاب الاستشراقي عن غيرية المسلمين المطلقة التي يُعتَقَد أن من أهم مظاهرها رفضهم المطلق لأيّ فصل أو تمييز بين الدين وبقية الحقول الاجتماعية الفرعية الأخرى، وبخاصة بين الدين والسياسة. للإشارة، وكما أوضحت ذلك فاليري أميرو (Valerie Amiraux)، «فالمُسَلَّمة الاستشراقية التي تتخذ من الخصوصية الثقافية والدينية مفتاحاً لقراءة وتأويل التطورات السياسية، والاجتماعية والاقتصادية لمجال يسمى تارة بالشرق – الأوسطي وتارة أخرى بالإسلامي، تستمر حالياً في كل الظروف والأحوال، بغض النظر عن سياق التجرية الكولونيالية» (Amiraux, 2004: 213). فمن بين مفاعيل هذه المسَلَّمَة على الخطاب اليومي والإعلامي والسياسي الغربي نظرته إلى المسلمين بوصفهم كتلة واحدة متجانسة، وتضخيمه من دور وآثار الإسلام على تمثلاتهم وممارساتهم. فإذا كان المسلمون يختزنون كل مكونات الضدية، فلأن الدين، من هذا المنظور، هو عامل محدد بصورة تظافرية لديناميات مجتمعاتهم، ومتغير تفسيري ثقيل لفهم منطقها الاجتماعي والسياسي، ما دام المسلم هو بالضرورة إنسان إسلامي (Homo islamicus) (بالتعارض مع الإنسان الغربي Homo occidentalis) بالمعنى الذي يعطيه ماكسيم رودنسون لهذا المفهوم (Rodinson, 2003: 83)، أي ذلك الكائن المختلف (tre à partêun) الذي يتخذ لديه الإسلام شكل الوصفة الطبية التي تحدد بالضرورة كافة معالم وتفاصيل حياته اليومية مثل طريقة أكله وشربه وملبسه ومصافحته… إلخ. فلفهم المعنى الذي تنطوي عليها تصورات وممارسات المسلمين وتفسير التمثل الذي يقبع خلف ديناميات مجتمعاتهم، يكفي، بأثر من ذلك، الرجوع إلى النصوص الدينية التأسيسية التي يحتكمون إليها بكونها سلطاً مرجعية أساسية يستمدون منها نظرتهم إلى الكون والإنسان، دون الحاجة إلى التعرف بدور المتغيرات التفسيرية الأخرى سواء كانت نفسية أو تاريخية أو سوسيو – اقتصادية أو ديمغرافية أو سياسية.

هكذا، يبدو أن هذه النزعة الاستشراقية، بمسلماتها الماهوية والثقافوية وبرؤيتها المانوية والاختزالية، تنظر إلى الإسلام وكأنه جوهر عابر للتاريخ يعلو على أطر وديناميات المجتمعات ويسمو على تناقضاتها وصراعاتها، فتخلط بذلك، دون رَوِيَّة، بين «مستوى النظام الرمزي المرجعي (الإسلام) من جهة، ومستوى كيفيات استخدام هذه الرموز والدلالات التي تضفى عليها، من جهة أخرى. ذلك أن التوافق على الرموز (الإسلامية هنا) في مختلف السياقات لا يفترض بالضرورة وجود إجماع حول مضامينها أو حول طبيعة علاقتها بالممارسة» (Kilani, 2004: 96)، ما دام كل حديث عن الإسلام بصيغة المفرد حديث متهافت، لتعدد أنماط فهمه وتأويله وممارسته.

من هذا المنطلق، تفترض هذه الدراسة وجود هوة عميقة بين الواقع السوسيولوجي للمجتمعات الإسلامية بتناقضاتها المختلفة وتعقداتها السوسيو تاريخية المتعددة من جهة، والخطاب اليومي والإعلامي والسياسي الغربي حولها من جهة أخرى؛ لكون هذا الخطاب لا يزال متشبعاً، في أغلب متونه، بالرؤية الاستشراقية المسكونة بهاجس »التمييز الأنطولوجي والإيبيستمولوجي بين الشرق (وغالباً) الغرب» (Saïd, 1980: 15).

فاٍذا كانت المجتمعات ليست كما تبدو أو كما تدّعي أنها كذلك، لأنها ترغب دائماً في إخفاء ما تصنعه، وإخفاء ما هي عليه (باسكون، 1986: 15)، فإننا نسعى، في ما يلي، أن نبين، عبر المثال المغربي، أن النفاذ إلى الواقع المتواري للمجتمعات الإسلامية والإنصات العميق لدينامياتها، يجعلنا ندرك بسهولة أن مفهوم الإنسان الإسلامي (Homo islamicus) هو مجرد بناء أيديولوجي خالص وليس حقيقة إمبيريقية ملموسة، ويدفعنا إلى الإقرار بأن المد المتصاعد للحركات الدينية – السياسية بالمجتمعات الإسلامية، وارتفاع مؤشرات تدين أفرادها لا يمكنه أن ينفي التراجع المتصاعد، بصورة متزامنة، لنفوذ الدين في قطاعات واسعة من حياتها اليومية، ومن بنائها المؤسساتي. هذا ما التفت إليه كل من يوسف كورباج وإيمانويل تود (Emmanuel Todd) عندما اعتبرا في كتابهما لقاء الحضارات (Courbage and Todd, 2007) أن ارتفاع نسبة تعليم النساء، وانخفاظ معدل الخصوبة وتراجع نسبة الزواج الداخلي بالمجتمعات الإسلامية هي مؤشرات دالة على أنها تعيش انتقالاً ديمغرافياً على غرار ما عرفته المجتمعات الغربية في السابق، منخرطة بذلك في سيرورة دنيوة عميقة؛ ومن ثمة، لا يمكن اعتبارها حالة استثنائية وشاهدة في العالم الحديث. فالإضطراب (Agitation) الديني الذي يعيشه العالم الاسلامي الآن، يقول إيمانويل تود «قد يخفي في ثناياه ظاهرة لا نستطيع إدراكها الآن هي ظاهرة الشك والتراجع الخفي للدين. فربما قد يكون العالم الإسلامي، الآن، منخرطاً في سيرورة نزع الطابع الإسلامي عن واقعه (Désislamisation) على غرار سيرورة نزع طابع المسيحية (Déchristianisation) التي عرفتها أوروبا (Courbage and Todd, 2007b)». كل هذا قاده إلى القول، رداً على صامويل هنتنغتون، أن العالم لا يسير في اتجاه صدام الحضارات، بل في اتجاه لقاء الحضارات.

وضمن نفس الأفق، سيؤكد ساري حنفي أن التحولات التي عرفها الحقل الديني وكذا بعض الحركات الإسلامية في الكثير من البلدان العربية جعلها تتحرك في اتجاه ما يسميه عبد الوهاب المسيري «العلمانية الجزئية» أو «العلمانية الأخلاقية والإنسانية»، التي تؤمن بالتوفيق بين السياسي والأخلاقي، وتميز بين الدعوي والسياسي، وتسمح للدين بالحضور في المجال العام، وتسمح للإيمان وعدم الإيمان بالتعايش (حنفي، 2019: 83 – 84).

ثانياً: مؤشرات تحولات المشهد الديني
لا شك في أن المتتبع الرصين لتحولات المشهد الديني في المغرب قد لايحتاج بالضرورة إلى الإطلاع على نتائج الاستطلاعات التي تقوم بها المراكز البحثية الوطنية أو الدولية، مثل معهد «غالوب» (Gallup) و«منتدى بيو فوروم للدين والحياة العامة» (Pew Forum)، ليلاحظ كثافة حضور مؤشرات التديُّن بالفضاء العمومي المغربي، وليخلص إلى القول بارتفاع منسوب التديُّن لدى المغاربة، وبتزايد وتيرة دلائله الكمية في السنوات الأخيرة؛ بغض النظر عن الإختلاف في قراءة وتأويل هذا الأمر، بين من يرى فيه مؤشراً دالاً على «عودة الديني»، وعلى «ظمإ أنطلوجي للمقدس» (الرفاعي، 2016: 5)، وبين من يعتبره مجرد تعبير عن تعدد شديد، وتنوع غير مسبوق في أنماط فهم الإسلام وممارسته.

يمكن رصد كثافة هذا الحضور الديني الساطع في الفضاء العمومي، واستجلاء دلائل ارتفاع منسوب تدين المغاربة من خلال المؤشرات التالية:

خلال فترة زمنية لم تتجاوز العقد والنصف، تضاعف تقريباً الحيز الزمني الذي تخصصه النساء للممارسة الدينية؛ إذ انتقل من 27 دقيقة الى 48 دقيقة يومياً؛ كما ارتفعت نسبة المُمارِسات الدينيات من 47 في المئة إلى 68 في المئة، وفق نتائج البحثين الوطنيين اللذين قامت بهما «المندوبية السامية للتخطيط» حول تدبير الزمن عند المغاربة سنة 1997 وسنة 2012 (HCP, 2014:40).
تزايد عدد المساجد أكثر فأكثر، حيث ارتفع عددها من 33407 سنة 2003 (وزارة الأوقاف، 2019)، أي بمعدل مسجد لكل 881 مواطن، إلى 51000 سنة 2018، أي بمعدل مسجد لكل 690 مواطن. وإذا ما استحضرنا عدد سكان المغرب الذي انتقل من 29438000 نسمة سنة 2003، إلى 35220000 نسمة سنة 2018 (HCP, 2019)، نلاحظ أن العدد الإجمالي للمساجد قد ارتفع بـ 34,49 في المئة، مقابل نصف هذه النسبة فقط، أي 16,41 في المئة، بالنسبة للزيادة السكانية.
الإقبال المتزايد على ارتداء الحجاب والنقاب، وارتفاع الطلب على المنتوجات التي تحمل ختم «حلال»، مثل لباس البحر الإسلامي «البوركيني».
التزايد الملحوظ في عدد الذين يحلقون شواربهم، ويطيلون لحاهم، ويرتدون قمصان أفغانية، وسراويل فضفاضة تنتهي عند حدود الكعبين.
التزايد الملحوظ في عدد ما يسمى «الدعاة الدينيين» و«الرقاة الشرعيين»، والإقبال الكثيف على مشاهدة القنوات الفضائية المتخصصة في الوعظ والإرشاد الديني.
النزوع الشديد نحو إظهار الممارسة الدينية وعرضها. فهواتف الناس تصدح بالآذان أو تشدو بالأناشيد الدينية، والقرآن تُسمع تلاوته في كل الأمكنة، من سيارة الأجرة إلى المحل التجاري مروراً بعيادة الطبيب، والملصقات المكتوب عليها «لا تنسَ ذكر الله»، تؤثث واجهات معظم السيارات.
ومع كل هذا، فارتفاع منسوب التديُّن لدى المغاربة لا يجب التسليم به بارتياح تام وبيقينية مطلقة، بل بتحوُّط واحتراس شديدين، نظراً إلى الصعوبات المنهجية والإيبيستمولوجية التي تطرحها إشكالية قياس تديُّن الأفراد والجماعات، ولتعقد وتعدد أبعاد التجربة الدينية (Hervieu-Léger, 1996: 21; Glock, 1965: 51). فمجال الإيمان المرتبط بالدخيلة والسريرة والجوف ليس مادة صماء أو واقعاً إمبيريقياً يمكن ملاحظته، بل هو مجال يعْتاصُ على الإدراك، ويستعصي على كل برهان أو تحقق تجريبي.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.