محمد مباركي : مشاهد من زمن كورونا…المشهد (10)…العيد وطفولة الكورونا…

الكتابة تصالح مع لحظة الحجر الصحي وتجاوز لها في نفس الوقت…البوح ” التلقائي” استفزاز للمشاعر ” الجامدة ” لفيروس كرونا كي يخرج من جحره. سنظل نكتب ونبوح حتى تخرج من عالمنا أيها العابر “الهجين ” في دروب “عولمة ” عابرة…..
مشاهد من زمن كورونا…المشهد (10)…العيد وطفولة الكورونا…
مهداة الى جميع أطفال العالم في زمن العيد ” الكرونيالي ” !!
“عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ /ِ بما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ”….ردد ” عوتو ” هذا البيت الشعري العزيز عليه للشاعر العباسي ” أبو الطيب المتنبي ” وهو يستعد لحلول عيد الفطر أو” العيد الصغير” بلغة أهل البلد…أي طعم للعيد البعيد.؟.. جديده تباعد عن الأهل والأحباب في زمن العزل وتجسير المسافات والعناق والتهاني افتراضيا…العيد الافتراضي في زمن الحجر الصحي….تزاحمت الهموم والأسئلة المؤرقة في ذهنية “عوتو” وهو يغوص في ماضي سحيق مسترجعا شريطا من الطقوس الاحتفالية بالعيد خاصة في مرحلة الطفولة…وكيف كانت الأعياد طفولية أولا وأخيرا….حتى زوجته منانة اقتنت هذا العيد “الجديد ” كميات قليلة من الحلويات من المخبزة المجاورة…ملامح الانقباض بادية على وجهها وعجزت ابتسامتها الجميلة التي لا تفارقه عن إخفاء تلك الملامح الحزينة…منانة تتخلى لأول مرة منذ دخولها ما اصطلح عليه ظلما وعدوانا بالقفص الذهبي، عن صنع حلويات العيد بالمنزل أو بشكل مشترك مع صديقاتها من الجيران أسبوعا قبل حلول العيد، أو بالتعاون مع شقيقة “عوتو ” المعروفة بإتقان حلويات الكعك…
لما خاطبت منانة ابنهما الأصغر ” البكاي ” كي ينام باكرا استعدادا لصبيحة العيد، تأمل عوتو حركات الطفل القلقة…” البكاي ” غير راض على الذهاب الى فراشه مبكرا وهو الذي اعتاد خلال زمن الكورونا النوم وسط والديه…وكلما تلقى توجيها من إحدى والديه كي يلتحق بسريره، فهو لم يعد رضيعا، كان يلجأ الى المكر والاحتيال قائلا لعوتو وهو يعرف جديا أن هذا الأخير لن يحركه من السرير :
– يا أبي, سأبقى معكما نلعب وتحكي لي قصص من حياتك لما لم تكبر بعد كما أنت الآن، وحين أغمض عيني، قم بنقلي الى سريري..لن أحتج…اعدك أني لن أصرخ…
كان الطفل يبدي فرحا حذرا كأنه تجاوز طفولته في زمن الحجر…لم يسال عن لباسه الجديد…عن شوقه الى الاستلقاء فوق السرير والنوم بكسوة العيد… بقميصه البرتقالي وبنطلونه الأبيض وحذائه الأسود بجوارب زرقاء…عن رغبته الدفينة كي تمر هذه الليلة بسرعة وتشرق الشمس ليخرج الى الزقاق ويستعرض هيئته الجديدة مع أطفال الجيران محملا بدريهمات ليصرفها مع هؤلاء الأطفال دفعة واحدة لدى بقال الحي المعروف بالبقال كثير الكلام أو البقال الثرثار…
” هل سنصلي غدا في المنزل يا أبي؟ ماذا ستحكي لي هذه الليلة ؟ “…مستلقيا فوق السرير استقبل “عوتو” أسئلة طفله بشعور من الأسى والحنين…حتى القساوة جزء من الحنين العذب الى أزمنة مفقودة……لم يجد عوتو مهربا من مطاردة طفولية حلمها الوحيد هو أن تفرح بالعيد وهي تعي جيدا أنه فرح محجوز، من أن يقول لطفله ” نعم يا بني سنصلي صباحا صلاة العيد في منزلنا..ستصلي بنا أمك “…و حكي له قصص من العيد فيها الكثير من الغرائبية والسخرية وعبثية الموقف وشساعة روح التسامح والقلب الطيب….
تذكر “عوتو ” بنوع من النقد اللاذع والسخرية القاسية لذاته….تذكر وهو الذي انقطع عن الصلاة منذ مرحلة الشباب لما كان يعتكف بالمسجد ويحفظ الآيات القرآنية ويطالع كتب السيد قطب عن “جاهلية القرن العشرين ” وأبو الأعلى المودودي عن “الانقلاب الإسلامي ” ومجلة الوعي الإسلامي خلال فترة الثمانيات ويهدي شباب الدوار الى الطريق المستقيم…يشعر باعتزاز وسرور داخلي لما يستعيد فتوحاته الدعوية العجيبة في الهداية وقيادة شباب الدوار نحو المسجد ومنهم حديثي الخروج من السجن كحسن المعروف ب “الحشايشي ” ويحيى المشهور ب” الشناك” ( الشناق ) و الحسين الملقب ب “خروبة “…هؤلاء الناس طيبون لكن عنف وإكراهات الحياة تحولهم أحيان كثيرة الى قساة عتاة فتصبح علاقتهم بالسجن محكومة بقاعدة ” دخل خرج “….عوتو المتعلم المثقف والفقيه صديق لخريجي السجن !!….لا يمكن أن ينسى قدرته المذهلة في هداية ” حسن الحشايشي ” الى ” الطريق المستقيم ” حيث واظبا معا على أداء جميع الصلوات بالمسجد البعيد عن الدوار قاطعين المسافة مشيا….ذات صلاة العصر وأثناء جلوسهما ملتصقين بإحدى جدران المسجد في انتظار وصول الإمام، هاجمهما سرب من الذباب… الذباب لم يختر غيرهما…أصابتهما الحيرة والاستغراب إزاء انتقائية الذباب…ولما كان “عوتو ” منشغلا بوساوس ذات صلة بالهوية الدينية للذباب…ربما أن هذا الشر مبعوث من أعداء الإسلام…اليهود والنصارى والمرتدون…صرخ في وجهه “حسن الحشايشي ” بلكنته الأمازيغية المميزة، قائلا :
– انهض يا عوتو…هيا نخرج من المسجد…نحن من أتى بهذا الذباب من الدوار…إنه ذبابنا…بمجرد خروجنا من المسجد سيلتحق بنا الذباب…هيا قبل أن يتبه المصلون ويستهزؤون بنا ونتعرض لطرد مهين…المسجد مكان طاهر يا عوتو !
نعم الذباب كان متعايشا مع ناس ودواب الدوار…لن ينسى ” عوتو واقعة ” الذباب” هاته التي ستظل شاهدة على لحظة مفصلية تؤرخ لقطيعته النهائية مع الصلاة اللهم خلال الجنازة وصلوات العيد حيث يرافق والده خاصة لما اشتغل في الوظيفة وتزوج و أصبح مالكا لسيارة قديمة رمادية اللون…لكن واقعة الذباب تزامنت مع انفتاح ذهنه الصغير الوقاد نحو آفاق الكتب الحمراء وأغاني الثورة والثوار وخلايا التنظيم السري في الثانوية وجدلية الثورة وعشق النساء والتمرد ضد كل تجليات البطريركية وسلطة النص الديني…ربما كان ذلك الذباب ملقحا بأيديولوجية نقد الفكر الديني وشعارات “الألوية الحمراء ” !! …
حكى “عوتو ” لطفلة أنه ذات صبيحة عيد، أقل والده رحمه الله في سيارته القديمة رمادية اللون، الى المُصَلَّى الكائن بالتل المعروف في المدينة ب ” لاكولين ” la coline، عالي الارتفاع ويمكن للإنسان أن يطل من فوقه على كل فضاءات المدينة…وكان ذلك التل قبلة للعشاق هربا من عيون الترصد والتلصص… وكان كذلك محجا لدوريات كرة القدم بين فرق الأحياء الفقيرة خلال شهر رمضان… جميل هذا التل الذي يجمع بين الحب والرياضة والتدين…عيبه الوحيد هو أن جماليته بدأت تفقد بريقها بفعل زحف فيلات فاخرة مهجورة ومتناثرة هنا وهناك…لوبي العقار وسماسرة الزحف الاستمنتي خربوا طبيعة المدينة وجماليتها وأراضيها الزراعية… وفي الطريق ظل والده في كل مرة وحين يحدق فيه الى درجة شعر معها ” عوتو ” أنه يسأله ” هل ستكف عن عنادك وتصلي ياعوتو ؟.أم أنك ستوصلني وتذهب بعيدا بسيارتك كي لا يراك أي أحد في انتظار اختتام الصلاة ثم تعود بي الى المنزل؟ “..وفي هذه اللحظة بالذات تراءت أمامه حادثة رمضان لما خاطبه والده وهو حديث الزواج من منانة المؤمنة المواظبة على الصلاة ” زوجتك تصلي يا عوتو…الشرع يقول أنه حرام أن تأكل على نفس المائدة مع شخص تارك للصلاة..”… شعر عوتو بمرارة وحرج الموقف لكنه تمسك بجرأته، فحمل صحن الحريرة وقطعة من الخبز الأسود اللذيذ الذي تصنعه أمه، وانفرد بغرفة من غرف المنزل الواسع وحيدا…آنذاك تأكد أن والده العامل الكادح العاشق للفرح المحروم مبكرا من المدرسة، واقع تحت تأثير ” جماعة من التطرف الديني” في زمن كان يعرف تعاونا قويا وزواجا كاثوليكيا بين فقهاء الأيدولوجية الدينية المتطرفة وسلطة القمع والاستبداد ضد قوى اليسار التي كان عوتو يحلق عاليا في سردياتها الكبرى وعناوينها الطوباوية المغرية…انتفضت والدته رحمها الله بقوة معلنة بصوت مسموع رفض سلوك زوجها ولم يهدأ لها بال إلا بعد عودة “عوتو ” الى المائدة فوجد والده منهمكا في الأكل كأن شيئا لم يقع ونظرات الاستغراب والقلق بادية على محيا زوجته “منانة “…
فور وصولهما الى المُصَلَّى ، حمل “عوتو ” السجادة وجاور والده في الصف ما قبل الأخير حيث يصطف المصلون تحت أشعة الشمس الحارقة في انتظار ممثل سلطة المدينة الذي غالبا ما يصل متأخرا ربما بسبب تعب السهر !…لن تبدأ صلاة العيد قبل حلول الممثل الأعلى لسلطة المدينة… الناس تشتاق الى العودة بسرعة الى منازلها لتبادل التهاني مع الأهل والأحباب والجيران…الناس قلقون من الانتظار وتقرأ في عيونهم رغبة دفينة في اختصار الزمن الديني للعيد لتبدأ مراسيم الزمن الاجتماعي من التهاني والزيارات الأسرية المتبادلة….لكن في نظام “القايدية ” والمجتمع المركب كما كتب ” بول باسكون ” يسود الخوف الذي يكون فيه انتظار السلطة آلية من آليات الترويض والتطويع في منطق تلك السلطة ذاتها…وقد سبق لأجدادنا وأسلافنا أن حذروا من المخزن الحاضر في كل التفاصيل صغيرها وكبيرها…ومن عواقب الاقتراب منه أو استفزازه….
تفاجأ “عوتو ” لما همّ واقفا أمام سجادته لأداء الصلاة، بوالده وهو يصرخ في وجهه ” السجادة مقلوبة يا عوتو.”…احتار عوتو من ملاحظة والده…ما معنى السجادة مقلوبة؟…سجادتي، أعلاها يشبه أسفلها اللهم بعض الاختلافات الطفيفة في بعض الأشكال الهندسية !…وإذا افترضنا أنها مقلوبة هل تصبح الصلاة فوقها غير جائزة؟…طرح على نفسه هذه الاستفهامات ثم قال لنفسه ” بئس الدين الشكلي الاستعراضي…العناية بالشكل والهندام واللحية والرموز الدينية الخارجية والدوس على الجوهر وسمو الروح والأخلاق ويقظة الضمير “…ثم أكمل صلاته..
انفجر “البكاي” ضحكا من قصتي الذباب والسجادة المقلوبة بشكل أحسن معه “عوتو ” أن الضحك والمرح من العلاجات المساعدة لحالة الحجر الصحي خاصة بالنسبة لأطفال وجدوا أنفسهم محرومون من اللعب مع أقرانهم خارج المنزل، وجدوا أنفسهم في عزل صحي ممتد في الزمن ونهايته غير معروفة، أمام ضغط مدرسة رقمية جديدة عليهم وغير متكافئة وعدد كبير منهم ارتموا في عوالم الحياة الافتراضية بشكل مبالغ فيه….أطفال يصعب إقناعهم باللعب في مساحات ضيقة وباحتفالية محجورة بفرح العيد…لا شك أن سوق ” البسيكولوجيا ” و مقامات ” الأولياء الصالحين ” ستنتعش مستقبلا بأطفال الكورونا بقدر ما ستنتعش فيه المحاكم وجمعيات الحقوق والاستماع الى ضحايا العنف بنساء كورونا…معظم أعيادنا تحظى بحفاوة الاستقبال لدى أطفالنا بالدرجة الأولى…الكثير منا نحن الكبار يسكننا قلق الأعياد…قلق ناتج عن تكلفة المصاريف…والأصعب هو تزامن المناسبات والأعياد الدينية مع عطلة الصيف والدخول المدرسي…معظم الأجراء والموظفين وغير المرئيين اجتماعيا تنتابهم فرحة كبرى لما تلغى الأعياد خاصة عيد الأضحى من طرف السلطة…نعم السلطة قادرة على تعطيل مناسبات ومؤسسات وطقوس دينية لاعتبارات اقتصادية ترتبط بتأثير الجوائح الطبيعية كالجفاف أو بتأثير زمن الأوبئة كوياء كورونا….
ولما انتهى من الحكي وتملكته الرغبة في النوم، أصر ” البكاي ” على المزيد، فكر “عوتو ” مليا واهتدى الى اقتراح أن يسمعا معا لأغنية” يا با غدا العيد ” لمجموعة “زجل” المحلية وهي قصيدة زجلية لصديقه ورفيق دربه، درب الهم والحلم والوهم، ” يوسف ” المقيم الآن بالديار الفرنسية، وطالما غنوا جميعا هذه القصيدة التاريخية – كما يحب عوتو أن ينعتها – خلال نهاية الثمانينات في التظاهرات السياسية والثقافية وطقوسهم النضالية وكذلك في ليال أنس الرفاق بالخلاء المفتوح للمدينة البرتقالية الصغيرة على إيقاعات النبيذ “الكارطوني ” الرخيص المهرب من مليليه المحتلة… الكل نائم إلاهم، رفاق عوتو، البوهيميون وعشاق الليل حيث يمارسون أحلامهم الثورية في غفلة من أصحاب الحال ….لما كان رفيقه يوسف ينغمس في إلقائها ينسى نفسه إطلاقا، لتذوب ذاته بنوع من الحلولية الصوفية، في عالم ذلك الطفل المحروم من أبيه المحتجز في زنازن الخوف والذل، ومن فرحة العيد…فكان عوتو يقول وهو يستمتع بحرقة ” يوسف ” وصدقه العميق وهو يغني القصيدة بصوته الجهوري الخشن والمسموع “إنه يوسف الطفل …العالم طفل في عيون يوسف ! “…..فنام “البكاي” مبتسما على نغمات موسيقى هادئة وأصوات طفولية تسترجع كأس فائضة بهموم الكبار لأن كبير السجانين صادر فرحة العيد وها هي الكورونا تؤجل الابتسامة البريئة…
محمد امباركي
الأحد 24 ماي 2020.