قراءة في كتاب” الإسلام السياسي في الميزان-حالة المغرب-” للأستاذ حسن أوريد
صدر هذا الكتاب الذي يحمل عنوان ” الإسلام السياسي في الميزان – حالة المغرب -” عن منشورات توسنا، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط ط/1، 2016، في 160 صفحة من القطع المتوسط. وقد سبق أن صدر في الأصل باللغة الفرنسية تحت عنوان ” مأزق الإسلام السياسي”، “l’impasse de l’islamisme” سنة 2015، وقام المؤلف نفسه بترجمته متوخيا الوفاء للمتن الفرنسي الأصلي ما أمكنه ذلك، مستحضرا اختلاف اللسانين، وبما أنه صاحب الكتاب الأصلي فلم يكن هناك داع لأن يُخشى من سوء الفهم أو عدم دقة النقل مما يشوب الترجمات ويعيبها، لكن مع كل ذلك “يبقى العمل ترجمة تكتنفها ثغرات، ويعيبها ما يعيب الترجمات”( ص 8).
إن هذه الوقفة مع كتاب الأستاذ حسن أوريد لا تهدف إلى تقديم نظرة عامة عن إشكالياته ومضمونه فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى طرح أسئلة أملاها التفاعل مع محتوى العمل ، ومختلف الأفكار التي تضمنها، والمعطيات التي استند عليها وبعض المفاهيم وظفها، على أن هذه القراءة شخصية لا تُلزم غير صاحبها، ويبقى الكتاب إسهاما جادا ومهما في تأمل الظاهرة الإسلامية وتعاطيها مع الدين كرأسمال سياسي قابل للاستثمار في المعارك الإيديولوجية التي تقتضي المنافحة، والمحطات السياسية التي تستوجب الحشد والاستقطاب.
للكتاب مقدمتان، أولى للطبعة العربية طرح فيها الإشكال المتعلق ب”توظيف الدين في السياسة المفضي إلى مأزق (ص 5)، وضرورة فصل الدعوي عن السياسي انطلاقا من مراجعات الإسلام السياسي ذاته خصوصا حركة النهضة التونسية، واعتبر فيه أن أثر الكتاب بالفرنسية مختلف عنه بالعربية، فإذا كان الأول يُشبع فضول الآخر من أجل الفهم، فإن الثاني يثير النقاش والسجال والمشاركة؛ إنه ” يُذكي الفكر، ويقدح الرأي، يزعج بقدر ما يُثير”(ص 7).
المقدمة الثانية أبرزت حيثيات وأصل الكتاب ومبررات تسليط الضوء على الظاهرة الإسلامية الحركية، والتي تتعرض للمنافسة من طرف السلفيات المدرسية المهادنة والجهادية النافرة معا، مبرزا ظروف وصول الإسلاميين إلى الحكم بالمغرب في ” أعقاب ما سُمي بالربيع العربي” (ص 12) مع مقارنة ذلك بحالة تونس ومصر، ومتوقفا عند تونس والمغرب حيث تعايش الإسلاميون مع التيكنوقراط ومظاهر اجتماعية قد لا تنسجم مع مرجعيتهم (الخمر، الاختلاط في الشواطئ، التوجهات الاقتصادية…) متسائلا عما إذا كان ذلك براغماتية أو تأقلما؟ مشيرا إلى أطروحة مارسيل غوشي حول خروج الدين من الشأن العام. ومتوقفا عند تنصل بنكيران من النصرة السابقة لرابعة ومرسي والإخوان إذ لم يعد الحزب إسلاميا بقدر ما أضحى حزبا محافظا يعبر عن توجهات المجتمع المغربي ومنه يستمد مشروعيته.
إن توظيف الدين ليس حكرا على العدالة والتنمية والإسلاميين عموما ، بل هو موضوع توظيفات من الدولة وخصومها، وهو ما يخفي العلاقة الملتبسة مع الحداثة، أو هل بالإمكان التحديث دون المساس بالذات/ التقليد؟ إنه السؤال الملح الذي لا يَنتظر جواب الفاعلين بقدر ما ينظر إلى سلوكهم، لا يعول على المكشوف بل على المسكوت عنه، وقد يُصدم البعض بأن الحركة الإسلامية هي بنت الحداثة الغربية (ص 14) لأنها نتيجة صدمة الحداثة و” عسر الهضم” التي تعبر عن رد فعل الذات، وهو أمر ليس حكرا على المسلمين فقط بل عرفته شعوب شرقية وغربية معا.
إنّ العامل الديني في العالم العربي-الإسلامي يظل التعبير عن أعراض حداثة مضطربة، وتداخُل بين الديني والدنيوي، ويتم التحايل عليها أو محاولة استئناسها مع السعي لترويضها من خلال مغازلة الأنا الجمعي، ولكن الأمر يُفضي لا محالة إلى المأزق أو الطريق المسدود، وهو ما يعبد الطريق نحو الحداثة السياسية، ولن يتم ذلك عن طريق استعارة الحداثة الغربية أو استنساخها، ولكن بالجواب ذاتيا عن تحدٍ داخلي.
ويشتمل الكتاب إضافة إلى مقدمتيه على خمسة فصول؛ أولها عنونه ب”استحداث التقاليد” وهو مصطلح وظفه المؤرخ إريك هوبزباوم ، ومعناه وضع قواعد تحيل إلى الماضي وتهدف إلى ترسيخ سلطة أو مؤسسة وشرعنتها، وذلك لترسيخ التماسك الاجتماعي، وإضفاء شرعية على المؤسسات ونشر المعتقدات والقيم، وتحدث فيه الأستاذ أوريد عن عملية استحداث التقاليد وتوظيفها من طرف النظام على عهد الملك الراحل الحسن الثاني، حيث كانت تلك العملية تقود إلى عملية الضبط ثم إلى المراقبة، ليتم الحديث بعدها عن التقاليد المنقحة واستعمال التحديث كأداة لا كغاية، إنه تحديث شكلي لا ينصب على المضامين والجذور يقدر ما يستهدف السطح والشكل.
وتم الحديث في الفصل الثاني عن قضية “أسلمة الحداثة”، إذ استهله المؤلف بالحديث عن مفهوم “أدلجة التقاليد” الذي سبق أن وظفه المفكر الإيراني داريوش شايغان في دراسته للثورة الإيرانية، إذ خلص إلى أن توظيف الإيديولوجيا يرتبط بالمأزق والأزمة؛ ذلك أنها توفر سند الإيمان من جهة، والتفسير والتبرير لذلك الإيمان ذاته من جهة أخرى(ص57)، كما تطرق لـ”جذور أفكار الشيخ” عبد السلام ياسين مؤسسة جماعة العدل والإحسان، تلك الأفكار التي ترجع حسب تحليله إلى التأثر بمفهوم العدالة الاجتماعية والفكرة الاشتراكية من خلال التجربة الصينية ثم بالثورة الإيرانية1979، والملاحظ هنا أنه لم يتناول أصول تفكير الشيخ ياسين تخصيصا، بقدر ما تتبع تطور إنتاجه والعوامل التي حققت ذيوعه وامتداده الإيديولوجي الدعوي والسياسي، وفي “طريقة استعمال إيديولوجية”، يقف الكاتب على أفكار عبد السلام ياسين في كتابه ” أسلمة الحداثة” الذي سهّل عليه البحث في قضية الحداثة تحديدا، مبرزا تأثره في نقد ورفض العلمانية والديمقراطية بالباحث فرانسوا بوركَا F .Burgat، ليخلص إلى أن الخطاب الياسيني خطاب مهدوي لا جواب له(ص70). وفي”شرح المتن” الياسيني يتوقف عند كتاب السيدة نادية ياسين؛ Toutes voiles dehors ، بوصفه شرحا للنص الأصلي متن الوالد يحاول الوفاء لروح الفكرة وصاحبها، وهو العمل الذي تنخرط به المؤلفة في خطاب نقد وتفكيك الحداثة الغربية رافضة تحديث الإسلام منافحة عن أطروحة “أسلمة الحداثة” المناقضة تماما لـ “تحديث الإسلام”.
فيما تناول الفصل الثالث موضوع “تسامي الحداثة وتصريف التقاليد” حيث وقف الباحث على التوجه البراغماتي لحزب العدالة والتنمية من خلال قادته الذين بدؤوا نضالهم من داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قبل أن ينخرطوا بعد 1967 في الشبيبة الإسلامية، وتغير مسار بعضهم عقب أعمال عنف منها اغتيال عمر بن جلون، ليبحث الإسلاميون عن الاندماج في ظل محيط إقليمي وأحداث دولية كانت لصالحهم، وهذا ما وضع السلطات المغربية أمام حلين؛ الرهان على إدماجهم، أو المخاطرة به. ثم تتبع المؤلف مسار حزب العدالة والتنمية الذي ترأس الحكومة 2012، متوقفا عند دور بن كيران في التطبيع مع السلطة الذي حكمته البراغماتية، التي أملت استغلال “المحارة الفارغة” (حزب الحركة للخطيب) ،لأن المخزن لم يكن يريد الاعتراف بالإسلاميين كتنظيم بل يقبل بهم كمنتمين لحزب قائم سلفا، حزب معترف به على رأسه شخص مقرّب، إنه الأمين والضامن للإسلاميين أمام المخزن، وهو العراب بالنسبة للإسلاميين الذي سيمنحهم حق الوجود ( ص78)،…إن التنظيمات الإسلامية السياسية تقدم التنظيمي أولا على الخطاب والإيديولوجية وهكذا برز النقد الحاد من داعية ومنظر سابق للحركة هو الراحل فريد الأنصاري وجه فيه سهام النقد لصنمية الحزب والضحالة الفكرية وأولوية السياسي على الدعوي واعتماد” المطيعية” أي الخداع والمناورة، ثم الناشط السابق في الحزب عمر عمري الذي اكتشف أنه كان يعبد الحزب بدل الله فميز في النهاية “بين أن يكون المرء مسلما وأن يكون إسلاميا”. (ص 93)، ….إلخ).
أمّا الفصل الرابع فتطرق إلى إشكالية “تحديث الإسلام” التي سبق أن تناولها علال الفاسي بهذا المسمى من خلال بدايات محتشمة. كما تناول المؤلف ما أسماه ب” الأزمنة الثلاثة لتدبير الشأن الديني” متطرقا إلى الإطار المرجعي الذي أسس لذلك التدبير ورسم معالمه، وكذا إلى “أدوات تحديث الإسلام”، ومؤسسات تفعيل تحديث الإسلام، وأهم التحديات والرهانات ألتي وضعت مسألة “تحديث الإسلام على المحك”. وفي “الإسلام بين الاقتداء والتقليد”، يتم الحديث عن مختلف أشكال السلفيات، التي ظهرت عالميا وإقليميا، وذلك بعد كل من بعد تفجيرات عام 2001 بالولايات المتحدة، وعام 2003 بمدينة الدار البيضاء، و يرجع الإرهاب الدولي تاريخيا وإيديولوجيا إلى الجهاد الأفغاني الذي تم استثماره من طرف الولايات المتحدة والسعودية وباكستان قبل أن ينقلب عليها جميعا. ويستحضر الكاتب على المستوى النظري مقاربة “جيل كبيل” الذي وصف الراهن التاريخي بأنه “الفترة الثالثة” من الإرهاب العالمي بعد فترة سُميت بمرحلة “الأفغان العرب”، ثم فترة أسامة بن لادن، فمرحلة أبي مصعب السوري، وهي التي ستجعل أوروبا هي الحلقة الأضعف في الغرب وستجعل منه بتاء على ذلك هدفا مشروعا لسهامها وضرباتها، ولعمليات الاستقطاب والتجنيد.
أما الفصل الخامس “الإسلام بين الاقتداء والتقليد أو أشكال السلفيات” فانصب على بحث جذور السلفية التاريخية و مرجعياتها النظرية، والانحراف في دلالة اصطلاح “السلفية” وانزياح المفهوم إلى معاني وأشكال تدين ومظاهر معينة مخالفة لما كان يدل عليه، وقوفا على الحالة المغربية بسلفياتها الثلاث التقليدية العلمية والتكفيرية والجهادية، وتناول مسار أبي حفص محمد رفيقي وحياته بوصفه جهاديا، ثم حالة محمد الفيزازي كوجه من وجوه السلفية الجهادية، مع فارق أن الأول دعا إلى تأويل النص الديني فيما تشبث المغراوي بحرفية وظاهر النص. وصولا إلى مجرة “السلفية المتشظية” إلى ثلاثة اتجاهات كبرى : النزعة المهادنة لمحمد المغراوي، والنزعة المُراجِعة التي يمثلها أبوحفص محمد رفيقي، والنزعة الرافضية التي لم تقطع مع الجهاد العالمي .
في خاتمة الكتاب؛ يخلص المؤلف إلى أن استعمال الدين يتغير حسب الفاعلين السياسيين ومواقعهم، سواء أتعلق الأمر بمن في السلطة أو خارجها، أي بالحركات المعارضة لها بشكل علني أو خفي، وتتطور العلاقة مع الدين عبر الزمن، لكنها تنتهي حتماَ إلى تناقضات و توافقات وتسويات، والتي تبرز كشكل من أشكال البراغماتية والواقعية، والأخطر من ذلك ما يُمكن أن يُفضي إليه الخلط بين السياسي والديني، الدنيوي والدعوي من لجوء إلى العنف أو على الأقل إلى تبريره. وبقدر ما يدعو الكاتب إلى إعادة النظر في العلاقة مع الدين من خلال منظور لا يقتفي بالضرورة أثر فولتير وماركس، فإنه يدعو في الوقت ذاته إلى ما يجب فعله؛ وعلى رأسه القيام بعمل سوسيولوجي حول الإسلام على غرار ما فعله “ماكس فيبر” في تناوله للبروتستانتية، وهو العمل الذي يجب أن ينكب على المرجعة الثقافية، والبنى الاجتماعية التي تؤثر بالضرورة على الديانات، متسائلا في النهاية ؛ هل يمكن الفصل بين الإسلام والمسلمين؟ أليس من الأجدى الاشتغال على المسلمين لتتغير صورة الإسلام ويعيش بانسجام عصره ؟
حول دلالة العنوان :
لو تيسرت قراءة الكتاب بالعربية والفرنسية أو الكتابين بالأحرى لحصلنا من ذلك على فوائد عديدة، ونجيب عن سؤال ؛ هل يكون المترجم خائنا حتى ولو ترجم عمله بنفسه إلى لسان آخر؟ولكن ما لا إدراك لكلّه وجب إدراك بعضه. أقف على العنوان متسائلا عن سرّ تغييره من معنى بالفرنسية إلى معنى مخالف بالعربية، تبيانا للفكرة التي أشرت إليها.
إن تغيير العنوان من “مأزق الإسلام السياسي” إلى ” الإسلام السياسي في الميزان” يحمل أكثر من دلالة، فإذا كان العنوان الأول (خطاب المأزق والورطة) يتوجه نحو الآخر غير المعني مباشرة بالسجال، وبالتالي يسعى لإشباع فضول ما ويضعه أمام مشهد جاهز، فإن الكتاب ينطلق من مصادرة على المطلوب وإصدار للحكم سلفا، أما العنوان الثاني (خطاب الميزان والتقويم) فيتوجه إلى الذات، والفاعلُ الإسلاميُّ جزء منها، من أجل المشاركة في النقاش وإذكاء الفكر وتحفيز الرأي، وإن كان يحمل إزعاجا ما، والكتاب بهذا المعنى دعوة إلى نبذ القراءة الذاتية لأن التحليل كان يسعى إلى الموضوعية.
بين العنوانين إذن فرق كبير لا يرجع إلى مقتضيات اللغة والبلاغة، بل إلى ما تفرضه الظرفية من الإظهار والإضمار، فما دام الإسلامي قويا بخطابه وقدرته على الحشد والاستقطاب التي تجعل كل يقين مبني على سيناريو مستقبلي ضربا من المغامرة، لاسيما وأن الأمور لم تنضُج بعد، وأننا في مرحلة انتقالية(حالة حامل يستعد للوضع)، فمن يدري أهو حمل حقيقي أم زائف، أهي ولادة طبيعية أم قيصرية، أهو من جنس الذكران أو الإناث…
إن هناك تخوفا إذن من “انتقادات من أطياف إسلامية أو من المتعاطفين مع الحركة الإسلامية” (ص5)، وكان هناك أيضا توجس من أن يصدر الكتاب باللغة العربية، وقد يكونون من الأغلبية التي تنتمي لتيارات إسلامية، قد ترى فيه حكما مسبقا….”ولا ترتاح إلى صيرورة خروج الدين من الشأن العام”(ص 8).
والمفارقة أن يُسمي أوليفييه روا Olivier Roy الأمور بمسمياتها ـ حسب قناعته وتحليله ـ حين عنون كتابه بـ”إخفاق الإسلام السياسي” L’échec de l’Islam politiqueمنذ 1992، ويـُحاولَ الأستاذ أوريد سنة 2016 أن يستعمل الكنايات والتوريات وضروب المجاز محاولا إخفاء الشمس بالغربال، وكأنه يقتفي أثر فلاديمير جانكلفيتش في قولته الشهيرة ” ما كل حقيقة يصلح أن نجهر بها…ثمة حقائق ينبغي أن نعالجها بحذر شديد” .
حول محتوى الكتاب :
أول ما يَستوقف في الكتاب هو مفهوم “الإسلام السياسي”، الذي يلف استعماله من طرف الكاتب التباس وغموض بمجرد تأمل مكونات غلاف الكتاب، والذي يجمع جلّ الحساسيات الإسلامية (الشبيبة، التوحيد والإصلاح، العدالة والتنمية، السلفيين، العدل والإحسان،…) وممثل السلطات الأمنية ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، فما الإسلام السياسي؟ هل هو كل من يوظف الإسلام سياسيا بما في ذلك الدولة؟ ما يحمله الغلاف صحيح، هل هو التنظيمات الإسلامية التي تؤمن بالعمل ضمن المؤسسات الحديثة؟ هل هو كل من يتحدث عن السياسة من داخل الدين فيشمل كل السلفيات وكل الدعاة؟ إذا كان الكاتب يراهن على أن المصطلح إجرائي شائع الاستعمال من طرف الدارسين، فذلك لا يمنع من تحديد المقصود منه لاسيما وأن كل دارس قد يقصد به بعض ما لا يقصده به غيره، ومن ثمة يكون من الأجدى رفع الالتباس بتحديد المفهوم مثلما فعل الكاتب حين تعامل مع “استحداث التقاليد” مثلا.
وارتباطا بهذا، يرى المؤلف أنه من الصعب وضع فواصل بين السلفية التقليدية (العلمية) والجهادية والتكفيرية. إذا كان السلفيون والحركيون (الإخوان) يلتقون في تقي الدين الهلالي، عبد الله عزام، وهؤلاء لهم علاقات ب “حسن البنا” المؤسس، ثم جواز انتقال النشطاء من نزعة إلى أخرى، بما يجعل المرجعية الدينية ذات طابع زئبقي تقبل الانتقالات والتوظيفات والتأويلات من الشيء إلى نقيضه… فهل هناك إذن فواصل صارمة بين السلفية والإخوان المسلمون؟
يصرح الأستاذ أوريد أنّ ما قام به ليس بعمل أكاديمي يتطلب جهد البحث والتنقيب، بقدر ما هو رؤية وتصور خاص (ص8)، وهذا يُعفيه من أسئلة الاستقصاء والتوسع، لكنه حينما يستند على معطيات التاريخ (مذكرات، الحركة الوطنية، القومية العربية،…) ودارسيه (ماركس، هوبزباوم، العروي…) وعلى مرجعيات سوسيولوجية (فيبر، باريتو،لوفو…) وإسلامولوجية (أوليفييه روا، كيبل، شايغان…)، فهذا لا يُعفي العمل من الأسئلة الأكاديمية المنصبة على مساءلة الرؤية ومنطلقاتها والمرجعيات وانسجامها والأحكام والنتائج وقيمتها خصوصا أمام الدفع بصفة الموضوعية والحياد، ولكنّ الموضوعية بأي معنى هنا ؟ إن موضعة “الإسلام السياسي” في الميزان، تدعو إلى التساؤل عن هذا الميزان ذاته، أهو ميزان النقد السياسي النظري (العلوم السياسية، الفقه السياسي…) أم النقد السياسي العملي؟ أهو ميزان التاريخ ؟…الكل يسعى للوضع في الميزان، وحتى السلفي يكتب محيلا على ميزان الشرع أو العقيدة عقيدة السلف الصالح. لا يتضح الجواب في الكتاب، ومادام المؤلف يصدر عن رؤية وتصور لا عن عمل أكاديمي يبتغي الاستقصاء، فإن الرؤية ذاتية من موقع ما، موقع الذي كان قريبا جدا من دائرة القرار الضيقة أولا، ومن موقع المتشبع برؤية من خارج انطلاقا من أوليفييه روا وجيل كيبل…وغيرهما ثانيا، وكلها مواقع ليست بريئة أو على الأقل لا تسمح برؤية موضوعية.
يقول المؤلّف ” ويمكن أن أعتد بمعرفةٍ للفاعلين، بحكم موقعي وتجربتي كباحث وفاعل في المجتمع المدني، وشخصٍ تقلب في الدوائر العليا للدولة وعرف عن كثبٍ الفاعلين.” (14)، إذا أضفنا لذلك تخصيص “حالة المغرب” بالتناول والدراسة، فهذا ما يُذكي التطلع إلى الجديد، الذي ينأى عن أدبيات الإسلاميين المتحيزة لهم أولا، وأحكام الإسلامولوجيين المرتبطين بدوائر أجنبية معينة، والمعالجات الصحفية الظرفية والسطحية في الغالب… إلا أن حالات البوح القليلة التي كاشَفَ فيها المؤلف قد لا تشفي الغليل بالمرة، وهنا يمكن أن نتساءل، هل يرتبط التريث والتكتم باستصحاب المؤلف لواجب التحفظ الذي ربما يقتضيه الظرف حول الموضوع ؟ لاسيما وأن الزمن لم يمض بما فيه الكفاية للوقوف على مسافة معينة من الأحداث. المهم أن المؤلف يضعنا في قلق فكري يجدد الأسئلة ويُعمقها، وهذا في حد ذاته قد يكون مطمح البحث.
واستحضارا للمتن الخلدوني في أن العلماء (المثقفين ) أبعد الناس عن السياسة، فالمثقف تصور ورؤية ومبدأ والسياسة مناورة وتسويات ودهاء، السياسة ليست إذن للمثقف وهو ليس لها إلا من جهة التفكير والتنظير. فهل الكتابة عن السياسة وعن تجربة كان للمثقف فيها دور وموقع. هل هي نظر وتحقيق؟ هل الكتابة نسخٌ وتجاوز للتجربة بتأملها أم هو توثيق وتثبيتٌ لها ؟ أم هي مرافعة وتبرئة للذات من لوثة السياسة أمام التاريخ أم اعتراف بدور ما في ظرفية معينة ؟ (الإحالة إلى دور المؤلف في المفاوضات بين السلطة والعدل والإحسان لرفع الإقامة الجبرية(ص 108)، تصريح الشيباني أنه سلم “رسالة إلى من يهمه الأمر” إلى أوريد الذي يكذب الأمر ويضع الشيباني والأمنيين في سلة واحدة، تجوِّز كل شيء بما في ذلك الافتراء والكذب والتجني.(هامش1، ص 109).
يرى الكاتب استنادا إلى مارسيل غوشيه M.Gauchet أن دخول الفاعل الإسلامي إلى المجال السياسي هو إرهاصٌ وتهييئٌ لخروج الدين من الشأن العام، وبالتالي تصير الحركة الإسلامية فاعلا في عملية التحديث السياسي (ص15)، لكن هل تهيئُ الدولة هي الأُخرى بتوظيفها للدين والخطاب الديني في ضرب “خصومها” لخروج الدين من السياسة أم تزيد من احتكار السلطة الدينية والتحكم في الحقل الديني بما يخدم مآربها السياسية المختلفة؟
ثم علاقة بما سبق إذا كان الكاتب يرى أن التحديث السياسي سيأتي عن طريق دخول الفاعل إلى المعترك السياسي، فمعنى ذلك أن التطور حتمي وذاتي، فهو موكول للزمن والتاريخ، لكننا نتفاجأ بما يناقض ذلك في قوله إن التحديث لن يتم من خلال تطور ذاتي بل من خلال نضال نشطاء…فاعلين شجعان…يتحدون كل أشكال الجمود والسلطوية والإغراءات النكوصية (ص16)، و إن “التحول في حاجة إلى ماهدين لا يكتفون بشرح العالم…بل يسعون جهدهم إلى تغييره.”(ص17) وهنا نسجل أن هناك فرقا كبيرا بين أن يوكل التحول للحتمية التاريخية، وأن يُلقى على عاتق الإرادات الحرة !
يرى مارسيل غوشي أن دخول الدين إلى السياسة إرهاص بخروجه من الشأن العام في إطار دراسة تاريخ-سياسية للدين أوضح فيها مسالك الانتقال من عالم تحكمه الشرائع السماوية إلى عالم آخر يكون فيه البشر مصدر القانون والتشريع. لكن داريوش شايغان يتبنى في دراسته للثورة الإيرانية على ما يبدو أطروحة مفادها أن الديني في انبلاجه قادر على إزاحة قرون من العلمنة والتحديث (ص 56). ويظهر أن توظيفهما لدراسة نفس الظاهرة لا يؤدي إلا إلى التساؤل والحيْرة في نهاية الأمر لتعارض التصورين.
إذا كان من المقبول إدراج خطاب الأستاذ عبد السلام ياسين بين المنزلتين؛ منزلة النزعة الإصلاحية (محمد إقبال، مالك بن نبي)، والنزعة الثورية (سيد قطب، علي شريعتي)، فليس من المفهوم والمقنع بتاتا إدراجه ضمن سلسلة المهدويين الذين عرفهم الغرب الإسلامي (المهدي بن تومرت، ابن أبي محلي…) (ص61)، هناك إسقاط متسرع بناء على قراءة شعار ما للجماعة، أو هناك حلقة مفقودة في التحليل تسوّغ هذا الزعم ب أن “خطاب الشيخ مهدوي” (ص70)، ولا يقف الأمر عند هذا بل يتجاوزه إلى القول، إن الخطاب الشارح للسيدة نادية ياسين خطاب مهدوي، وكأننا أمام نسف ممنهج لسلم حجاجي، من الأعلى إلى الأسفل، فبعدما كان خطاب الشارحة للمتن تفكيكيا للحداثة على غرار ديرّيدا ، نزل إلى المدرسية القاصرة عن تحقيق الغاية، ثم انحدر إلى مهدوية لا جواب لها (ص 74).
وهناك الكثير من الأشياء التي سكت عنها الكتاب وهي غاية في الأهمية بنظري، من أجل تمام الرؤية، ومنها على سبيل المثال:
ـ المرور الخاطف على السبات العميق (الخمول، ص 124) الذي عرفته رابطة علماء المغرب على عهد عبد الله كَنون وبعد وفاته ، ثم الإطار الجديد للعلماء المتمثل في الرابطة المحمدية للعلماء حاملة تجديد الفكر الإسلامي (ص 116)، وعلاقة رئيسها السيد أحمد عبادي بالتوحيد والإصلاح والعدالة والتنمية قبل استقطابه للحقل الديني الرسمي، بل وعلاقته بالزعامات الإخوانية المشرقية، وتوجه الرابطة الذي ليس على تناغم تام مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، إن الرابطة تبني مشروعا نخبويا أكاديميا، في حين تدبّر الوزارة الإسلام اليومي المرتبط بالمساجد والقيمين وشؤون التأطير والإرشاد، ونادرا ما يحصل التوافق بين النخبوي واليومي….ثم المجالس العلمية المحلية وعلاقة بعض رؤسائها بالحركة والحزب، ويكفي أن نذكر أسماء أحمد الوكَي، الشاهد البوشيخي، الراحل عبد الباري الزمزمي….، وهل هو احتواء رسمي للحساسية الحركية باحتواء الكوادر الدينية/العلمية وتقييد بالعمل المؤسسي ؟
ـ حين تم الحديث عن التعريب والأمازيغية وإعادة قراءة تاريخ شمال إفريقيا تمت الإشارة إلى محنة المثقف علي صدقي أزايكو، ولم يَرد ما يُنبئ بموقف الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، وتأثير ذلك على الحركة الأمازيغية…وعلى التطورات التي عرفها مسار الأمازيغية في علاقته بالإسلام السياسي، ومن ذلك صدور كتاب الأستاذ أحمد عصيد ” الأمازيغية في خطاب الإسلام السياسي” وما أثاره من سجال، قبلت جماعة العدل والإحسان أن تشارك فيه بشكل علني دون الطرف الإسلامي الآخر ! علاوة على معركة الحرف التي كان الإسلاميون يتبنون منه موقفا يستحق الوقوف عنده، وهو ما لعبت عليه الدوائر العليا وتبين في النهاية أنه لا حلّ للمعضلات إلا بتحكيمها.
ـ تمت الإشارة إلى التعريب في عهد عز الدين العراقي لمواجهة الأمازيغية، لكن لا ننسى أيضا أنه تم ضرب تدريس مادة الفلسفة ومحاصرتها التي تدخل في الحقيقة في شد الخناق على اليسار الذي كان خطابه مسموعا ومؤثرا، وهو ما ظهر من خلال إحداث شعب الدراسات الإسلامية بهدف الزيادة في التطويق والمحاصرة، وكان قبل ذلك حدثُ إغلاق معهد السوسيولوجيا من طرف أعلى سلطة في البلاد، ورفض علال الفاسي التدخل لإعادة فتحه بدعوى أنه معهد يُفرّخ الزنادقة.
لا تَسلمُ الترجمة من بعض ما يُمكن وصفه ب “قلق العبارة” الذي تُعاني منه الترجمات، فالمؤلف يفهم المنقول لأنه قام بصوغه، لكنه حين ينقله إلى اللغة العربية لا يتخلص منه مؤقتا كي يفهم منه ما سيدركُ القارئ الذي يتعامل مع النص المترجَم بدون فكرة مسبقة. وهذا ما يستوجب استحضار الصياغة الفرنسية حتى في قراءة الترجمة العربية من أجل سلامة الفهم وتمثل الفكرة المراد إيصالها.
إن قيمة الكتاب تتجلى في أنه يحمل تصورا نظريا متكاملا، ومعطيات تاريخية وسياسية مهمة جدا، معتمدا على مقاربة تُزاوج بين تناول الخطاب وتتبع مسالك الممارسة، بين تناول التنظيمات والجماعات، وبين دراسة الرموز والحالات، وهو نقد وتقويم لمراحل وأفكار ورجال وسياسات، والأهم من هذا أنه استشراف ومحاولة ارتياد عوالم الممكن نظريا، ومآلات تطور الظاهرة واقعيا؛ الظاهرة التي لا تستوفي المعالجة الجزئية الظرفية كلَّ أبعادها، ولا تنفع المعالجة الأمنية الاِستئصالية في النفاذ إلى جذورها، إنها أكثر من هذه وتلك، تتطلب الاشتغال على الجسد الاجتماعي والبنيات الاجتماعية والثقافية من أجل تشخيصها تشخيصا شموليا ودقيقا، ولا شك أن العمل إغناء للبحث والتأمل والنقاش حول موضوع شغل ماضي المسلمين، مثلما يشغل حاضرهم، وربما سيشغل جزءا من مستقبلهم أيضا.
المصدر :