قراءة في "ظاهرة الرقية الشرعية"
محمد جواد سيفاو*
الرقية اجتماعية هي سلوك اجتماعي منتشر في المغرب..حيث أن الظاهرة قديمة قدم الغزو الإسلامي لشمال إفريقيا..فمن خلال تفكيك الوحدات الكلامية و المفردية لظاهرة الرقية الشرعية، نجد أن الرقية من أصل الفعل رقى من الرقى والترقي وهو الصعود والارتفاع، ورقأ بالهمز أي سكن وارتفع وكأن الرقية ما يزول به المرض ويرتفع ويسكن به الألم والرقية هي العوذة بمعنى اللجوء لمن يحتمي به. “لسان العرب”. أما كلامة الشرع أو الشريعة يعني الفقه في الدين الإسلامي ..إذن أن الرقية تستمد شرعيتها من الدين الإسلامي.
الرقيّة أو العزيمة من الممارسات العلاجية الشائعة في التدين المغربي أو الإسلام المغربي منذ قرون، وهي رقية لها نظام وطقوس أخرى غير التي نُعاينها لدى السلفيين، الذين يضيفون إليها وصف “الشرعية”، فتصبح تحت اسم “الرقية الشرعية”، وبذلك فهي تتأسس عندهم على نظام وطقوس أخرى، بل أكثر من ذلك تتأسس ضد الرقية المتوارثة في التدين المغربي، التي تصفها أدبيات السلفيين بـ”الرقية البِدعية” (من البدعة).
كما نلاحظ ظهور هذا الفعل مرتبط بظهور الأديان، إذ تعتبر الرقية الشرعية كطقس ديني يتقرب به من المقدس و طلب العلاج منه. لكن من ناحية أخرى نلاحظ أن الرقية الشرعية جاءت كحيلة اجتماعية للتخفيف من حدة الكبت الجنسي للمجتمع المغربي باعتبار الجنس من الطبوهات المحظورة إلى جانب السياسة..حيث نلاحظ أن غالبية الإناث و الذكور ، و من فئات اجتماعية مختلفة..تتكالب على هذا الفعل الإجتماعية..
- المراماكايدير لها راجلها والو فالفراش ..مكايقنعهاش ..كتمشي عند الراقي الشرعي..و بحكم تجربتو ..كيقضي لها غرض ..و كيقنعا ديك المرا .. ومازال كتعطيه الفلوس و الريحة و الصابون الملون .. و تعيدها مرارا و تكرارا..
- شي وحد عندها العنوسة ..و المجتمع مكايرحمها ..كتمشي لهاد الراقي الشرعي
- المرا راجلها عاكر كتعيش معاه سنوات ..و ملي كتمشي عند الراقي كترجع حاملة ..و كيقولو الناس بلي داك الفقيه مجهد
- الذكور من يكتسحون مجال إنتاج و إعادة إنتاج هذه الظاهرة بشكل كبير..
من خلال هذا التشخيص السريع نفهم أن ظاهرة الرقية الشرعية لها علاقة بالبنية الإجتماعية القائمة في المجتمع المغربية ..لها وظيفة اجتماعية خفية و التي هي التخفيف من شدة وطأة الكبت الجنسي داخل المجتمع و ظيفة ايديولوجية يعطي فيه المجتمع رخصة دينية و ثقافية و اجتماعية لهذه الظاهرة..و بمأن المجتمع المغربي مجتمع ذكوري ..فالذكور أكثر استفادا من هذه الظاهرة ماديا و بيولوجيا ..في حين تؤدي الأنثى المقابل أو ما يسمى ب “الفتوح” بع خدمة الرقية..علىعكس حينما تلبي رغباتها الجنسية خارج النظام الإجتماعي فالذكر هو من يؤدي مقابل الخدمة الجنسية
و السؤال المفتوح إلى أي حد تبقى ظاهرة الرقية الشرعية كسلوك و طقس ديني يسعى الحفاظ على نظام البنية الإجتماعية القائمة و يعيد انتاج الهيمنة الذكورية..؟
حينما نتحدث عن المجتمع المغربي المعاصر كببنية اجتماعية تحتوي على مجموعة من الأنساق (النسق الثقافي _النسق الإقتصادي_النسق السياس…إلخ) كل نسق يتكون من من عناصر و يترجم عبر أفعال اجتماعية تظهر ملامحها في الواقع..و ظاهرة الرقية الشرعية كوحدة فعلية و عنصر يستقي شرعيته من مجموع الأنساق المتفاعلة في البنية و يبرزطبيعتها..و يرتبط بطلب “بركة” الراقي أو الفقيه ..فهو من يحتكر هذه البركة ..كرأسمال رمزي يستمد خلفيته من الأسطورة .. و حيلة يكتسب من خلالها المال و الثراء و يلبي بها رغباته الجنسية و رغبات المرأة المريضة إثر كبت جنسي ..معتمدا على مجموعة من المعايير كاللباس و طريقة الكلام و بعض الكتب القديمة المتناثرة حوله و قلم قصبي و و قنينة “صمغ” أو الحبر..هنا يبدأ دوره الإجتماعي ..و غالبا ما يرثه عن أبيه أو الفقهاء الذين تتلمذ على يدهم..يمررون هذا الرأسمال الرمزي إلى الإجيال القديمة و يعيدون إنتاج بشكل مباشر أو ضمني..
المجتمع المغربي قائم على الهيمنة الذكورية لكونه مجتمع تحكمه مجموعة من المحددات التاريخية و الإجتماعية و السياسية ..و ظاهرة الرقية الشرعية لم تسلم من هذه الهيمنة ..فالفقيه يجب أن يكون ذكرا ..فهو الوحيد الذي لديه قوة التوسط بين الضحية و المقدس ..أو بين الضحية و شياطين الجن ..حيث نجد أسطورة الذكورية مرتبطة بأسطورة الخرافة..بل أن أسطور الخرافة التي تجسدها الطقوس و الأفعال المرتبطة بهذا المنوال جاءت لتحافظ و تعيد انتاج الذكورية في المجتمع المغربي .
كل ظاهرة اجتماعية تتعرض للتغير اجتماعي نتيجة حتمية التغير الإجتماعي..فانتقال المجتمع المغربية على مستوى العلاقات الإجتماعية من الواقع من خلال علاقات و تفاعلات اجتماعية مباشرة إلى علاقات افتراضية التي تمخضت عن ظهر الأشكال الجديدة للتواصل ..كظهور الإنترنيت و الهاتف الذكي و قنوات التواصل الإجتماعي ..
نلاحظ ظهور مواقع اليكترونية و صفحات على الفايسبوكوالتويتر و قنوات باليوتيب..تستثمر في الرقية الشرعية الإليكترونية ..حيث تحولت الظاهرة من الواقع الى الإفتراضي ..
إذا شئتُ أن أستعمل عبارة كلود ليفي ستروس مع بعض التعديل الذي يناسب موضوع الرقية، أقول: “إن الراقي لم يصبح راقيا لأنه يشفي المرضى، بل إنه يشفيهم لأنه أصبح راقيا معروفا”. بشكل أبسط، إن الناس عندما يلتفون على الراقي ويحكون عن علاجاته للأمراض المستعصية، والعلاج هنا يعني التخلص من ألمٍ ما، معاناةٍ ما، فإن الناس يزدادون التفافا، ودائرة المعتقدين في الراقي تزداد اتساعا.
أن الرقاة أنفسهم يروجون بشكل فعّال لممارستهم العلاجية عبر استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، فقد لاحظت صفحات فيسبوكية تتابع بالآلاف، وفيديوهات على يوتيوب تتابع بمئات الآلاف. إن استعمال مختلف الوسائط الإعلامية يجعلنا أمام استراتيجية تسويقية من أجل صناعة صورة الراقي “الشافي”، وبمقدار نجاح الراقي في رسم هذه الصورة يضمن إقبال جمهورٍ أوسع على طلب خدماته، تصبح الشهرة في حد ذاتها عاملا في الإقبال على الراقي.
إن الشهرة، وحرص الراقي على إظهارها، تصنع ما يسميه ماكس فيبر بـ”الكاريزما”، وهي سلطة خاصة يمنحها الشخص الاجتماعي للراقي، ولا تُبنى بواسطة استدلال منطقي وإنما بعوامل متعددة، مثل التنشئة الاجتماعية والثقافة الدينية وغيرها.
الرقية الشرعية كنشاط مهني للرقاة و الفقهاء، هي إحدى وسائل التجذر والامتداد الاجتماعي، إنهم يتصورونها “خدمة عمومية” يحتاجها المجتمع، ويتصورون أنهم الوحيدون المخول والمشروع لهم تقديمها. ولعل الإقبال الكثيف الذي عاينته على ما يسمى مراكز الرقية الشرعية يؤكد أن هناك جمهوراً واسعاً يُقْبل على الرقية الشرعية. فهناك طلب كثيف وهناك عرض يحاول الاستجابة. إن الرقية الشرعية تعطي للتدين إمكانية الظهور الاجتماعي، ولذلك نفهم أن الرقية الشرعية ليست مجرد “علاج ديني” لأجسادٍ يُعتقد أنّ الجن تلبّس بها، إنها فرصة بالنسبة للرقاة للدعوة إلى نمط من التدين ونمط من الحياة. الرقية الشرعية وجهٌ من وجوه المشروع السلفي الوهابي في المجتمع.
و في الأخير نخلص إلى أن الرقية الشرعية ظاهرة اجتماعية قديمة جديدة قائمة في البنية الاجتماعية المغربية و تحافظ على توازنها تماشيا مع طبيعة المجتمع و خصوصياته الأنثربولوجية و السوسيولوجية ، و ترتبط بمفهوم “الشهرة” التي يحرص الراقي على إظهارها، أو ما يسميه ماكس فيبر بـ”الكاريزما”، وهي سلطة خاصة يمنحها الفرد للراقي داخل المجتمع، ولا تُبنى بواسطة استدلال منطقي وإنما بعوامل متعددة، مثل التنشئة الاجتماعية والثقافة الدينية وغيرها.