Atigmedia
المصداقية والدقة في الخبر

فرنسا، القطار والطوارق: المهمة المستحيلة

جاءت بعثة الكولونيل “فلاطر” Flatter في إطار النقاشات التي كانت رائجة في الأوساط الفرنسية خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حول ضرورة إنشاء سكة حديدية تربط الجزائر بالسنغال عبر الصحراء، ثم ببلاد السودان. وكانت وزارة الأشغال العمومية هي التي تحمست كثيرا لهذا المشروع، بعدما تبين للفرنسيين أن اتفاقية “غدامس1862” لم تضمن لهم ما كانوا يتوقعونه من حقوق تجارية، وحرية التحرك في الصحراء الوسطى في سلم وأمان، إضافة إلى التغيير الحاصل في الطرق التجارية العابرة للصحراء، فبعد احتلال فرنسا للجزائر، غيرت القوافل خريطة مسالكها ومراكزها، فنتج عن ذلك طريقان أساسيان: الأول يتجه نحو طرابلس عبر مدينة غاث عاصمة طوارق الأجير، والثاني يتجه نحو المغرب إلى مدينة سبتة تحديدا عبر مدينة تينبوكتو مرورا بمنطقة تافيلالت. 

– البعثة الأولى “لفلاطر” إلى بلاد الطوارق:
إن اتجاه فرنسا إلى التفكير في انجاز مشروع السكة الحديدية لاختراق الصحراء الكبرى، فرضته رهانات تجارية سياسية قوية، بدأ ذلك بشكل جدي في سنة 1878 حيث نظمت عدة ندوات ومحاضرات وتوزيع مناشير لمحاولة إقناع الرأي العام الفرنسي بهذا المشروع الكبير. وفي هذا الصدد تم إرسال بعثة إلى الجزائر في سنة 1879 لإعداد دراسة شاملة حول المشروع تحت إشراف المهندس ديبوشيل M. Dupouchel، وفي 12 يوليوز من السنة نفسها، تم رفع تقرير إلى رئيس الجمهورية الفرنسية، يضم الخطوط العريضة حول إمكانية ربط الجزائر بالسنغال والسودان بواسطة سكة حديدية. 

وقد تحدث أحمد العماري بتفصيل عن هذا المشروع الذي تحمست له فرنسا، ابتداء من سنة 1880، وعن مخططاتها في احتلال توات. وفي هذا السياق تم تأسيس لجنة متخصصة في تنمية تجارة القوافل ما بين أسواق الشمال وأسواق الجنوب، حيث كانت تهدف فرنسا من وراء ذلك إلى صرف أكبر قدر ممكن من القوافل عن اتجاهها نحو تافيلالت وطرابلس. 

وبما أن هذا المشروع يتطلب معلومات دقيقة جدا حول جغرافية الصحراء بشكل عام، فإن فرنسا جندت بعثة مهمة، تضم مهندسين وأطباء وبعض ضباط الجيش، يترأسها فلاطر. غادرت البعثة مدينة باريس في يوم 7 يناير 1880 وبعد 5 أيام حلت بالجزائر. وفي فاتح فبراير اجتمعت البعثة بمدينة “بيسكرا” بعد أن جهزوا قافلتهم بكل المستلزمات الضرورية في مثل هذه الرحلات.

وصلت البعثة إلى مدينة واركلة واستغرقت فيها حوالي خمسة أيام، وفي يوم 5 مارس غادر فلاتر المدينة في قافلة تضم 56 شخصا منهم 10 فرنسيين، واستعان فلاتر بدليلين ينتميان إلى قبائل شامبا العربية. ومكثت القافلة بضعة أيام في منطقة “تيماسينين” Timassinin ، استغلها “فلاطر” ومرافقيه لدراسة أوضاع المنطقة، والبحث في ممكنات ربط علاقات مع قبائل ايفوغاس وامنوكال طوارق الاجيير، وباقي زعمائها الذين يستقرون في غاث.

ومن أجل التقرب من هؤلاء الزعماء السياسيين الذين يعتبرون بمثابة مفاتيح الصحراء من الشمال، كان لابد لفلاطر أن يتجه نحو مدينة غاث أو على الأقل الوصول إلى ضواحيها. وحينما قرر الاتجاه نحو الجنوب راسل اخنوخن امنوكال الاجيير، يخبره بقدومه، ورغبة لقائه على مشارف بحيرة تدعى منغوغ Menghough .

حطت بعثة الكولونيل “فلاطر” رحالها قرب هذه البحيرة، وانتظر لمد 5 أيام فلم يتوصل بأي جواب من “أخنوخن”، فظن أنه تجاهله ولا يريد لقائه، مما جعله يقرر العودة إلى مدينة “واركلة” يوم 21 ابريل 1880 حيث كانت هذه البحيرة نهاية حدود رحلة “فلاطر” الأولى. 
بيد أن أمنوكال الاجيير حينما وصلته الرسالة، اتجه نحو البحيرة للقاء مع فلاطر، الذي وجده عاد إلى واركلة، الأمر الذي دفع أخنوخن إلى كتابة رسالة مطولة إلى القنصل الفرنسي بطرابلس يشكوه فيها سوء معاملة رئيس البعثة الفرنسية.

هذا ويذكر هنري لوط أن سبب رجوع فلاطر إلى مدينة غات، كان اضطراريا، يعود بالأساس إلى رفض مجموعة طوارق إمنغاستن Imanrasaten مرور قافلته على أراضيها، إلى درجة تهديده إن لم يوجه بعثته إلى من حيث جاءت، ويوضح هنري لوط هذه المعارضة الشديدة من قبل هذه التجمعات إلى سوء العلاقات بينها وبين امنوكال اخنوخن وتعتبر اكبر خصومه بفعل العديد من الصراعات بين الطرفين. حيث كانت هذه المجموعات ترغب في عزل أمنوكال الاجيير خاصة وأنه يجني أرباحا كبيرة في علاقاته التجارية والسياسية مع الدول الأوربية، كالهدايا والاثاوات وغيرها. 

وكيف ما كان السبب، فإن الكولونيل فلاطر رجع إلى باريس مصحوب بتقارير ودراسات أعدها بمعية مرافقيه، تحتوي على معلومات دقيقة وجديدة، ولكنها لم تتجاوز المناطق الجنوبية لمدينة واركلة، وكانوا يركزون على نقط توفر المياه، وعلى خصوصية المواقع الجغرافية، ثم تعامل سكان الصحراء معهم.

– الرحلة الثانية لفلاطر واندحار بعثته: 
انطلقت هذه الرحلة في باريس في أكتوبر من سنة 1880، وضمت شخصيات فرنسية أخرى لم تشارك في البعثة الأولى وخاصة المهندس المدني ساتانM. Satin بالإضافة إلى الذين شاركوا في البعثة الأولى.
وقد ألح فلاطر على أن تكون هذه البعثة أكثر تسلحا ومجهزة عسكريا، عكس ما كان عليه الأمر في الرحلة السابقة. وقد وضع فلاتر صوب أعينه الوصول إلى بلاد السودان والمرور في منطقة الهكار. 
وصل فلاطر إلى مدينة واركلة وكتب رسالة إلى وزير الأشغال العمومية في الحكومة الفرنسية يوم 3 دجنبر 1880 يخبره بتفاصيل بعثته، ومن جملة ما تتضمنه هذه الرسالة هو عدد أفراد البعثة الذي يتكون من 98 شخصا منهم 78 من “الأهالي” من مختلف القبائل في الجزائر، أغلبهم من جنود ورماة. 

وكان فلاطر يرسل رسائل إلى وزير الأشغال العمومية تتضمن مراحل بعثته والمعلومات الجغرافية والطبيعية التي كان مرافقيه منكبين على جمعها خلال رحلتهم. وهذه الرسائل أوردها فيلوP. Vullot في كتابه، حيث كانت آخر رسالة لفلاطر يوم 29 يناير 1881 بمنطقة إينزيلمان Inzelman ، واختفت أخبار بعثة فلاطر ابتداء من هذا التاريخ، إلى أن انتشر خبر هلاكه واندحار بعثته في بداية ابريل من نفس السنة، الخبر- الفاجعة الذي هز أركان الدولة الفرنسية.

وفي طريقه نحو الهكار كان فلاطر يتبادل الرسائل مع زعيم الطوارق في هذه المنطقة، وهو امنوكال أيتغال Aitghel من أجل ضمان مرور قافلته عبر المناطق التي تدخل تحت نفوذه في سلم وأمان، واشترط زعيم الهكار في إحدى رسائله على ضرورة اتخاذ دليله من طوارق الهكار وترك الدليلان اللذان رافقا البعثة منذ انطلاقها في واركلة واللذان كانا ينتميان إلى عرب الشامبا.
وقد وافق فلاطر على ذلك، حيث أصبحت بعثته يقودها دليلان أرسلهما Aitghel وكان احدهم يسمى محمد الصغير، وقد اعتبر هنري لوط موافقة فلاطر لطلب الامنوكال بمثابة اكبر خطأ ارتكب من قبل رئيس البعثة وهو الذي أدى فيما بعد إلى سحقها.

كان الكولونيل فلاطر يلح في مراسلاته على ضرورة وأهمية اللقاء مع امنوكال، إلا انه حينما وصلت البعثة الفرنسية مدينة صغيرة تدعى ايدلس Idles وصلت تمثيلية من طرف الامنوكال تتكون من حوالي 30 شخصا، واخبروا فلاتر على أن امنوكال لا يستطيع لقاءه نتيجة لظروفه الصحية، وحصلت هذه التمثيلية على كل الهدايا التي حملها فلاطر إلى أمنوكال الهكار. 

هكذا وفي يوم 16 فبراير حين وصلت القافلة إلى مكان خال وسط الصحراء، أعلن الدليلان بأنهم يجهلون مكان وجود الآبار في المسار الذي اتخذته البعثة نحو الجنوب، لاسيما وان القافلة في حاجة إلى الماء. واقترحا على فلاطر تحوير مسار القافلة نحو الشمال الغربي وهي منطقة معروفة بوجود العديد من نقط المياه، مما جعل فلاطر يأمر بتوقف القافلة وذهب مع أربعة مرافقيه الفرنسيين للبحث عن أقرب بئر من المنطقة التي يوجدون بها، واستدرجهم الدليلان إلى ممر ضيق وصعب. وبعد ساعتين من المشي تقريبا، وجدوا بئرا في واد يدعى اينواون Inouauen، وما أن تركوا دوابهم ليستريحوا قليلا، باغثهم الطوارق الذين كانوا بالمنطقة وقتلوا فلاطر ورفاقه الفرنسيين، وهاجموا القافلة بشراسة، حيث لم يبق من البعثة سوى 56 فردا وفقدت 36 شخصا. 

استطاع الفرنسي ديانوسDianous أن يجمع ما تبقى من البعثة وان يغادروا المنطقة في اتجاه الشمال مشيا على الأقدام، لأنهم فقدوا كل الإبل التي كانت تضمها بعثتهم، وبعد 50 يوما وصل ما تبقى من البعثة إلى مدينة واركلة في 28 مارس من سنة 1881 ، حيث هلك العديد من أعضاء البعثة في الطريق، بسبب العطش والجوع والعياء، لأنهم كانوا يمشون على الأقدام من 12 إلى 14 ساعة تقريبا في اليوم. 

وقد ساهم هذا الحدث الذي يمكن اعتباره منعطفا حاسما في تاريخ الاستعمار الفرنسي للصحراء الكبرى، وهيمن بشكل كبير على السياسة الاستعمارية الفرنسية في إفريقيا، وأثر على مسلسل التوسع في الصحراء. كما وقفت فاجعة هذا الاندحار عائقا أساسيا لضم الصحراء الوسطى، حالت دون إرسال فرق عسكرية إليها لسنين عديدة، حيث لم تستطع الجيوش الاستعمارية الوصول إلى مناطق الطوارق إلا بعد مرور حوالي 20 سنة. كما ساهم ذلك في تغيير السلطات الاستعمارية لإستراتيجيتها التوسعية خاصة على مستوى الوسائل المستعملة لتسهيل مهمتها في إخضاع المناطق الصحراوية. 

(طرحنا هذا المقال للمساهمة في فهم مزاعم فرنسا في شمال افريقيا والصحراء على سكة مشروع تيجيفي كازا-طونجي الضخم تتبدل الاحوال والازمنة من القرن 19 الى 21 ولا تتغير شهية فرنسا في أكل ثروات واوطان الامازيغ)

بقلم عبدالله بوشطارت.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.