Atigmedia
المصداقية والدقة في الخبر

عفيف : سيرورة إنتاج التسول داخــــل المجتمع.

تأملات
يــــــومكن ويومكم سعيد صديقاتي واصدقائي
ليليات رمضانية في ظل الحجر الصحــــي
رحلة التأملات في أعماق بحر الإنسانية.

Le processus de production de la mendicité au sein de la société ترجمة العنوان باللغة الفرنسية.

…. وتستمر الوقفات التأملية في إطـــار الجزء الثاني الرمضاني، من رحلة التأملات، والمخصص للإنسان في علاقته بالإنسان في ظــــل مجتمع يعيش بين الفينة والأخــــرى لحظات توضع فيها قيم الإنسانية موضع تساؤل وتأمل….فبعد الحديث ذو الشجون حول الشخص المعاق، وبعده الشخص المسن في علاقتهما بثقافة مجتمعية بعضها منصف والبعض الآخـــر منها مجحف، سنتوقف معكم متأملين بشأن موضـــوع إنساني آخـــر لنسائل عبره ومن خلالــــه تجل آخر لتجليات الكرامة الإنسانية….موضوع شائك جدا، قد يحدث ردود أفعال مؤيدة وأخــــرى معارضة وبشدة….وهذا كله أمــــر إيجابي في ظل الإيمان بالتفكير النسبي….نعم، إنه شائك لآن مداخل تناولــــه كثيرة ومتشعبة ومختلفة أحيانا إلى حـــد التعارض….إنه موضوع التسول في المجتمع، أو إنتاج التسول وفق الطرح والمدخـــل الذي سنسلكه….

حينما تخاطب أي شخص عن التسول la mendicité تتبادر إلى ذهنه أمور عدة، منها ما هو ديني واجتماعي ونفسي وعلائقي ….وقد لا يختلف الاثنان منا لو تم النظر إلى الأمــــر من زاوية الحاجة والحاجة الملحة لمدخل المساعدة والتضامن لتخفيف وقع قلة ذات اليد، ولن يختلف الاثنان منا حينما نستحضر تعاليم ديننا وتعاليم كـــل الأديان الأخــــرى إزاء الشخص المحتاج….لكن الاختلاف يبدأ في الظهور حينما نفحص الموضـــوع بمنظار سوسيولوجــــي أو سيكولوجي، وقد تزيــــد حدتها حينما يتم اللجوء إلـــى المنظار الحقوقي الذي يركز على بعد الكرامــــة الإنسانية في أي موقف….هنـــا إذن مربط الفرس، وهنا المنطلق والمآل، وهنا والآن، تكمن الغاية من هذه الوقفة التأملية، التي أريدهــــا أن تمارس استفزازا فكريا وقيميا على المتلقي لينوع زاويا النظــــر تجاه هذه الظاهرة الغريبة عن قيم مجتمعنا، والمستجدة فيه بالشكل الذي بدأت تأخذه يوما بعد يوم…..

قلت بأنها غريبة عن قيم مجتمعنا….هل أنا أهـــذي أم أنني واع بما أقول؟….ردت علي نفسي دون أن تترك لـــي مجالا أوسع للتأمل. نعم إنك تعي ما تقول. الحديث عن قيم مجتمعية أرجعني إلى زمن الطفولة في قريتي الصغيرة في قلب سوس العالمة، حيث القيم المجتمعية المجسدة لقيم الإنسان المغربــــي ذو عزة النفس….نعم، في القرى وفي الأحياء الشعبية في المدن العتيقة تتجسد تلك القيم في أبهى صورها، وهذا لا ينفي أنها غائبة في الحواضـــر، فقط ولأن بعض الثقافات الدخيلة أوجدت لنفسها مكانا بشكل قسري، بدأت تلك القيم الأصيلة تتكيف مع الواقــــع المستجد لتنتج لنا يوما بعد يوم قيما أخــــرى لن ننكر أنها لنا حاليا….ولو رغما عنا….لنعد إذن إلى الزمن الجميل، وأنا صغير في قريتي المسماة ” تـــــاسنولت” لم أعرف شيئا أسمه تسول بهذا الشكل الذي أراه به اليوم فـــي كل مكان ….وهذا لا يعني البتة أن الناس كل الناس كانوا ميسوريــــن. المجتمع أوجد لنفسه تخريجات علائقية وقيمية راقية لمواجهة قلة ذات اليد، بدون المس بكرامة وكبرياء المحتاج، فكانت هناك “تاولا”، و”المعروف”، وكان هناك الجار الذي يتقاسم بعضا من قوت يومه مع جاره على أن يتقاسم معه هو أيضـــا ما يملك ولا يملكه جاره…. وهكذا، كان الكل في خدمة الكل، وعاش الجميع في ظــــل الكرامة وعزة النفس….لكن، بين الفينة والأخــــرى كنا نسمع طرقات على الباب الخشبي المهترئ لمنزلنا. كنا نطل بين شقوق ألواحه المتهالكة متسائلين: من الطارق؟….لنسمع صوتا غريبا عن أصوات أهل القرية….” انبكي نربي” – ” ضيف الله” ….كنا نسميه ” امنقر” imnqr أو الطارق…أو “أنضلب” أي الطالب أو السائل، وهو حتما شخص ليس من أبناء البلدة وملامحه تكون غريبة عن ملامــــح أهلها الأصليين…كنا نتقاسم معه بعضا من طعامنا، وبعضا من السكر والشعير…وكنا نعيش معه لحظات إيمانية عميقة مع مواله الدعائي الذي يتكرر من بيت إلى بيت….

تلك إذن علاقتنا مع التسول والمتسول، شخص غريب ليس من أهـــل البلدة….يطرق كل الأبواب…ويدعــــو للمعطي مقدما بعض الإشارات العامـــة الشبيهة بلغة المجذوبين…….تلك المشاهد لم تكن يوما تزعجنا، لأنها ببساطة لا تعكس ثقافتنا ولسنا معنيين بها مباشـــرة….استمرت الأحداث، وتغيرت الكثير من الأمـــور الحياتية، وبرزت ظواهر اجتماعية عديدة بدأ بعضها يخدش الثوابت القيمية ….فبدأنا نرى في المدن كما في القــــرى أطفالا ونساء وشيوخا يمتهنون التسول، فلا تكاد تسير خطوتين حتى تصادف أحدهم يلقي عليك خطابا تعوذ على إلقائه بإتقان شديد وبخطابة جذابة….حتى أصبحت أذاننا تحفظ كـــل الصيغ التي تختلف باختلاف السياقات….حتى أبواب المساجد لم تسلم من الظــــاهرة، بحيث تجد أحـــدهم ينتظر المصلين لأداء صلاتهم المفروضة، وهـــو غير معني بها، ليتسابق مع إخوتـــه في التسول على الخارجين من باب المسجد لعلهم يستغلون استمرار ارتفاع المنسوب الإيمانـــي الناتج عن أداء فريضة في الجماعة….لن أدخل في الكثير من التفاصيل بشأن أصناف المتسولين لنميز بين المحتاج الحقيقي منهم، ومن يتخذ ذلك سبيلا للاغتناء أو لاستغلال آخــــرين في ظل تجارة مربحة في نظر أصحابها …..لكنني سأتوقف عند الوجه المتعلق بكرامة الإنسان، وعند سيكولوجية المعطي وسيكولوجية المعطى له…..

لن، بل لا يحق لنا أبـــدا أن نتحدث عن نوايا المعطي، لأن السرائر لا يعلمها إلا خالق العباد…وإنما سنتحدث في إطار الخطاب التأملي عن القيم الظاهرة وتلك الخفية التي ترافق ذلك الفعل. فحينما يمد أحدهم يده إلينا طالبا دريهمات …. هلا طرحنا أسئلة تأملية على أنفسنا ونحن نفتش في الجيب ” أحيانا” عن تلك القطعة التي لا نريد لها أن تحتل مكانا في جيوبنا ونمدها للمعني بطريقة لا تخلو من الاستعراض (لا أعمم) …هل تساءلنا يوما عن إحساس ذلك الشخص؟ عن إحساس قريب ذلك الشخص؟ …..هل سألنا أنفسنا إزاء فعلنا المؤسس على حسن النية وبالرغبة الشديدة في إحياء التضامن…ألا نكون إزاء صناعة مهنة جديدة تسيء لكرامــة الإنسان؟ ….ألا نكون بقصد أو بدونه نشجع البعض على اختيار الطريق السهل لربح لقمة العيش، ولــــو على حساب الكرامة التي بدونها لن يتحقق حلم المجتمع السوي؟ ….ألا نكون أحيانا بفعلنا نشجع البعض على عدم الانخراط في عجلة الإنتاج الاقتصادي للبلاد ( هذا، مـــرة أخرى مع التأكيد على أن الحديث غير معمم وأن هناك فعلا أناس محتاجون، لكن وجب التفكير في صيغ أخـــرى تحفظ كرامتهم وتسهر عليها جهات رسمية في الدولة)….

المتسول يكون محبا “لمهنته” ومواظبا عليها كلما تواجد “الزبناء” بوفرة، وكلما كانت الأمور مربحة باستمرار…وحتما أينما وجد الربــــح ستوجـــد المنافسة. والمنافسة في هذا السياق طبعا تتمثل في ازدياد وتيرة التسول والمتسولين. ويا ليث الأمور تتوقف هنا…. فالتسول ينتج ظواهـــر اجتماعية أخـــرى أكثر وقعا على الإنسان وكرامته….وستكون موضوع التوقفات التأملية القادمــــة…

قبل أن أختم وقفة اليوم، وتفاديـــا لأي تأويـــل يبعدنـــا عن جوهر التأملات وعمقها، أرجو من المتلقي أن يتأمل كثيرا في الأسئلة المطروحة أعلاه قبل أن يبني موقفا مؤيدا أو معارضـــا، كما أتمنى من القراء إغناء الموضوع بمزيد من التأملات ولما لا بمقترحات عملية تحفظ كرامة الأشخاص وتقلل في الآن ذاته من وقـــع الحاجة الملحة أحيانا….

أختم الوقفة التأملية اليومية بمقولــــة ذات صلة بموضوع اليوم، لصاحبتها اليانـــور روزفلت (1884-1962): لا أحد يمكنه إشعارك بالنقص بدون موافقتك …..وينتهــــي تأملي ليبدأ تأملكم.

إلى تأمل آخـــر، أرجــــو لكم ليلة رمضانية كلها أحاسيس إنسانية …. إلى لقاء آخر بحول الله

إبــــــــراهيم عفيف
سوس ماســـــة
01/05/2020

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.