Atigmedia
المصداقية والدقة في الخبر

سينما : النقد المزدوج في “ذاكرة للنسيان”.

جمال عبد الناصر  الفزازي– (ذاكرة للنسيان)

قادما من الدراسات العليا في الاقتصاد بالدار البيضاء، استن الفنان المتعدد الهواري غوباري لنفسه مسارا فنيا سينمائيا بعد تخرجه من المعهد السينمائي البلجيكي أثمر الأفلام السينمائية القصيرة التالية: القضية فالطاقية-التفاحة-بوخنشة – طفل الحب-

وله مؤلفان:

      -” Bruxelles la marocaine.   “كتاب مشترك ، و -“حدثني الماء ” ديوان شعر

للتذكير فأفلامه حائزة على جوائز تقديرية في مناسبات فنية متعددة ومنها ( ذاكرة للنسيان) الفائز بالجائزة الكبرى سنة 2023 في  مناسبتين : مهرجان كاب سبارتيل بطنجة ومهرجان ايموزار كندر  ومهرجان الفيلم المغاربي بوجدة

عتبة  العنوان والملصق:

   ينبني العنوان على علاقة تقابل دلالي (ذاكرة/نسيان) يفتح التلقي على إيحاءات شتى، وبالموازاة، يشير ملصق الفيلم إلى علاقة تقابل مرآوي بين المصور “امرأة” / موضوع الصورة الذي قد يكون هو المشاهد نفسه، الداخل/الخارج، العتمة/ النور، مما يفتح الفيلم على احتمالات قرائية وإمكانات تأويلية متعددة منها الربط النسقي بين عوامل: ذاكرة -امرأة-نسيان – كاميرا –باب-

أولا: المحتوى الفيلمي:

تقوم مخرجة سينمائية بإقناع منتج بتصوير فيلم عن انتهاكات حقوق النساء بمنطقة نائية. تستثمر كاميرا لتصوير صور فتوغرافية على أمل توثيقها سينمائيا لتكون شهادة تاريخية على نظام اجتماعي وثقافي وسياسي،

نشهد حالة امرأة تبحث عن أي وسيلة لإنجاب ولد -ذكر في قرية نائية، ولو بزيارة الضريح وممارسة طقوس الشعوذة، وتنتهي إلى حملها على الأكتاف لمسافات بعيدة للولادة على يد «قابلة مباركة” لكن إنجابها لبنت سيغضب الأب ويشعره بالعار. وسيدخلها الكتاب فيغتصبها الفقيه معلم الصبيان، لتتضاعف مأساتها بإجهاض الأب لحلم ابنته هاته، في الاستمتاع بصور فتوغرافية تشرع لها حلما بالانعتاق من قهر يومي تهرب فيه من الكتاب لرعي الغنم. طمعا في المال، وهربا من اللعنة سيسعى الأب إلى إجبارها على الزواج من شاب مهاجر، لكن البنت اليافعة، ستتمرد على الجميع لترسم لنفسها مسارا حياتيا حرا، إذ ستكتشف في فن التصوير المصادر في الطفولة، وسيلة للانعتاق من مجتمع ذكوري في فيلم سعت فيه المخرجة لإخراج البنت المقهورة من أسر واقع ذكوري بثقافة تقليدية مستبدة.

الفيلم محبوك في مقاربته لموضوعة السلطة الذكورية مجسدة في الأب والفقيه والقبيلة، وفي فضحه لذهنية التحريم سواء تحريم الجسد الأنثوي الغاوي المسكون بالشيطان أو تحريم الصورة والحلم.

ثانيا: المبنى الفيلمي

   الملاحظ أن الفيلم نجح في بنائه لهذه الوقائع على نسقين متداخلين هما: نسق واقعي يتمثل في أفعال سردية منجزة (مثل الإنجاب والتصوير  ورعي الغنم) ونسق رمزي (مثل الضريح- الشموع- البركة -الاغتسال بالماء -الصور الفتوغرافية وملصق فيلم dosti – الفزاعة الرهيبة التي تبرز المكبوت والمقموع في اللاوعي الجمعي..الخ)، وتنهض العلاقة بين النسق الواقعي “التعيين” والرمزي “الإيحائي” على التناقض والمقابلات الدلالية الضدية مما يغذي الخيال والسؤال.

ولعل من جماليات الفيلم، اعتماده تقنية الحكاية داخل الحكاية، صيغة وتعدد الساردين :

  (غباري يحكي بإخراجه (المصورة المخرجة داخل الفيلم تحكي إخراجا وتمثيلا “البنت الممثلة تحكي سيرتها تمثيلا “) يترتب عن هذا التضمين تعدد زوايا النظر وتداخلها مخضعة السرد الفيلمي لتقطيع فني يقوم على توظيف أنواع من الأزمنة منها: التزامن المحايث لرصد شهادات كاميرا التصوير للمخرجة الضمنية والزمن الاستشرافي والزمن الاستعادي مما يساهم في تكسير سيرورة الزمن الخطي (من الماضي في اتجاه المستقبل) وتجاوز الرتابة، كما يساهم هذا التضمين (حكاية ضمن حكاية) في الإيهام بأننا نعاين فيلما وثائقيا وليس فيلما متخيلا لمضاعفة التأثير الفني. وأساس اللعبة السينمائية يقوم على حرفية السيناريو واشتغال المونطاج والميكساج الصوتي بفاعلية جمالية محبوكة، تمكن الفيلم من مقاربة الشخصيات اعتمادا على إطارات مكبرة بالـ”زوم” عن قرب للتركيز – مثلا-على ملامح الوجه والعيون، للإيحاء بمعاناة الطفلة النفسية (وقد أدت الممثلة ببراعة دور الطفلة المقموعة) في مقابل اللقطات بإطارات مفتوحة على الطبيعة لجعل الأحداث موضوعية والشخصيات واقعية. وتلعب الشخصيات فعلها التمثيلي في نظام من العوامل والحوافز مؤسسة على الاختلاف والخلاف بين قوى عاملة تمثل السلطة الذكورية وأخرى تجسدها شخصيتان (المخرجة والبنت التي تمردت على الزواج بالإكراه والقبيلة) وقد أدى الممثلات والممثلون أدوارهم باقتدار، وأخص هنا بالذكر المخرجة (نجاة الوافي) والفقيه (لعبابسي) والطفلة ( آية لواح ) ووالد الطفلة ( سعيد ظريف) وأمها ( حسناء عتيق).

   ومما يلاحظ أن الفيلم انتقد الذهنية السائدة في القرية والبادية محتميا بشرعية التصوير القانوني مما قد يوحي باستنتاجين:

  الأول يتمثل في أن الدولة بمؤ سساتها القانونية ترخص للتصوير قصد المساهمة في التوعية الاجتماعية من مخاطر نزعة المركزية الذكورية التي تجهز على النوع الاجتماعي وتمس بدولة الحق والقانون، وهذا فيه نظر، والاستنتاج الثاني أن الدولة تفرض رقابة على فعل التصوير الفتوغرافي والسينمائي، وهذا احتمال وارد…

على سبيل الختم:

   يتبين أن الفيلم محاولة لمقاومة النسيان وتجاوز الطابوات المتعلقة بالصورة النمطية الاعتيادية للجسد الأنثوي، وإعادة بناء الهوية الفردية والجمعية ومساءلة مؤسسات الأسرة والمدرسة والدولة على أساس النقد المزدوج: نقد الذات ونقد الآخر…

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.