Atigmedia
المصداقية والدقة في الخبر

سيدي مْگدول : النية أبلغ من المقصود.

بقلم عبدالله بوشطارت

بذلنا جهدا جهيدا، قمنا بعمل كثيف في أيام معدودات، انتقلنا فيها إلى دواوير جد نائية، بين المرتفعات والأودية الداخلة في عمق جبال إيحاحان، لا أحب أن اسميها الفجاج العميقة، وإنما افضل وصفها بتسميتها الأمازيغية الجميلة وهي أگني ⴰⴳⵯⵏⵉ، وهذا المصطلح ليست له ترجمة، ولكن قد نصادف بعض الغباء الحاصل في ترجمة اسماء الأماكن والممرات في المغرب، مثل تسمية “فج أگني إيمغارن” قرب مدينة بيزكارن…فهذه التسمية أكثر ما يمكن أن نقول عنها أنها غبية…
بعد تلك التنقلات بين الدواوير في الجبال والمرتفعات، ها نحن قد حللنا بمدينة تاصورت، ومن الصعود والهبوط في الجبال، إلى الطلوع والنزول في مصاعد ودرج الإدارات… فالأفضل لنا صعود مدرجات الجبال الصخرية المكتنزة بالاحجار الحادة، من صعود سلالم الإدارات العمومية المزينة بالرخام اللامع في الأسفل والخشب الرفيع في الجوانب والجبس الملون في الأعلى والمحيط بالاضواء البيضاء والصفراء…
من إدارة إلى أخرى، من مكتب إلى آخر، يوم كامل انصرف في هذا الهبوط والصعود… كان من حظنا أن تلكم الإدارات اجتمعت مقراتها في نفس الفضاء المكاني… بحكم صغر المدينة…
فوق كرسي خشبي بني اللون، جلست لشرب كأس شاي بالنعناع، لعله ينعش الدورة الدموية التي كادت تحبس الأنفاس، الجو غائم هائم، رياح قوية عاصفة تحمل الرمال وتطوف بها في ارجاء الخليج الصغير الذي تقع على ضفته مدينة تاصورت، رياح تحمل الرمال من الشاطئ وترميها بشكل عشوائي على رأس الخليج من الناحية الجنوبية، وبعد توالي الايام والأعوام، واستمرار الرياح التي لا تهدأ في هذه المدينة، فإنها قد رسمت على هوامشها بجانب الوادي شريط طويل من الكثبان الرملية، وهي عبارة عن تلال موازية على شكل هلال…تمتد من خليج المدينة إلى شواطئ سيدي كاوكي…
اخترت الجلوس في هذا المقهى، ليس لأنه مقابل للشاطئ، وإنما بسبب تواجده قبالة جزيرة موگادور، جزيرة صخرية بالقرب من ميناء المدينة، تحيط بها جزر صغيرة عبارة عن تجمعات صخرية متناثرة تكاد تظهر قممها على سطح مياه البحر. تبرز على واحدة من هذه الجزر الصغيرة بقايا برج أو جدار تحطمت أرجائه بالكامل، وبقي جزء صغير منه يقاوم الرياح والأمواج والرطوبة بقدر كبير من الصمود والتحدي… ومادم أن الجزيرة صغيرة جدا فمن الغالب أن ذلك الجدار من بقايا برج صغير كان مخصصا للدفاع عن المدينة… لذلك فلازال السكان يسمونه حاليا ببرج البارود، ومن خلال هذه التسمية فإن البرج قد يكون حديثا لأن البارود معروف تاريخ دخوله إلى المغرب….

أما الجزيرة الكبيرة التي تسمى جزيرة موگادور، فتبدو بعض البنيات بارزة وظاهرة للعيان، حائط عبار عن سور، ثم برج… على الراجح أنها أصبحت اليوم محمية طبيعية، بحكم أنها تأوي بعض الطيور النادرة التي يحلو لها العيش فيها بعيدا عن عيون البشر التي أصبحت تؤدي وتدمر كل ملامح الحياة البرية على الأرض…
أشك كثيرا في تسمية هذه الجزيرة، موگادور، هذا الاسم حديث جدا مرتبط بفترة دخول البرتغاليين إلى شواطئ المغرب…يقال أن الملك البرتغالي أثناء غزوه للثغور المغربية والافريقية، وصلت سفنه إلى هاهنا سنة 1506م وأمر ببناء حصن بها… فماذا كانت تسمى الجزيرة والمدينة قبل ذلك… ؟
إن الظلم الهوياتي الممارس في حق مدينة تاصورت، مماثل للظلم الممارس على جميع مناطق ومدن المغرب، وحتى على المغاربة قاطبة… يتجلى ذلك في التزوير الممارس على أسماء المدن المغربية، حيث يتم استبدال أسمائها الأمازيغية الأصلية بأسماء أخرى تحمل هويات جديدة، برتغالية، اسبانية فرنسية ثم عربية… فقد بدأت فرنسا هذه العملية أثناء استعمارها للمغرب وعموم شمال افريقيا، فرنسة أسماء الأماكن أو تغييرها، لكن للأسف الشديد عوض أن تلجأ دولة الاستقلال إلى مغربة الأسماء والحفاظ عليها، قامت بتعريبها بشكل مستفز…
نعود إلى تاصورت، هل هي الصويرة، أم السويرة أم موگادير، أم “مي گودار” أم تاصورت كما تسميها الساكنة المحلية الآن… أم أن الاسم الحقيقي مدفون تحت الأرض، ويرقد تحت انقاض الزمان والتاريخ وتقلباته….
اتمعن في الجزيرة، وأنا جالس في مقهى، اشرب الشاي بالنعناع بدون سكر… ثم أسيح في التاريخ القديم لهذا المكان العجيب، واتذكر ما كتبه “البكري” توفي 1094م في مسالكه وممالكه أثناء حديثه عن مدينة أغمات: “ثم من وادي السوس إلى مرسى أمغدول وهو مرسى مشتى مامون. وهو ساحل بلاد سوس، ثم إلى مرسى قوز وهو رباط يعمره الصالحون وهو ساحل أغمات…”

لنتأكد أن الاسم الامازيغي الاصلي لهذه المدينة، هو امگدول، ذكره البكري الذي يعتبر من بين الجغرافيين الذين يكتبون بأمانة، كونه مرسى، أي افتاس بالامازيغية، وقد وقفنا في مقالة سابقة، على عدة مدن أمازيغية كانت على ساحل المحيط الأطلسي المقابل لمراكش، اندثرت واندرست لم تعد موجودة الآن، منها مدينة أگوز ومدينة أمگدول… أما ابن سعيد في كتابه الموسم بعنوان الجغرافيا، فقد كتب مايلي:”ومن هذا النهر إلى مصب نهر أمكدول أربعون ميلا وهو أيضا في بلاد حاحا….وهناك جزيرة صغيرة بينها وبين النهر ميل….”
فلاشك إذن أن الاسم الأصلي والحقيقي لهذه المدينة هو أمگدول قبل مجيئ البرتغاليين، الذين قاموا بتصحيف التسمية من أمگدول إلى موگادور….حسب السردية التاريخية التي تقول، أن البرتغاليين حين وصلوا إلى الجزيرة أطلقوا عليها اسم موگادور، فتلقف المؤرخون والباحثون هذا الاسم وجعلوه راسخا في الأدبيات والكتب التاريخية… وتم تجاهل الاسم الأصلي الامازيغي أمگدول… لكن الغرابة لا تتجلى فقط في تحريف الاسم وإنما تزوير تاريخ الجزيرة والمدينة… فحين نقرأ تاريخ هذه الجزيرة لا نرى فيها إلا تاريخ الأجانب والغزاة والقراصنة… فتارة يذكرون أن الفينيقيين قبل الميلاد احتلوها ثم يقولون أن القرطاجيين وصلوا إليها عبر حانونهم، وتارة يكتبون أن الرومان احتلوها وهكذا دواليك إلى أن وصل إليها البرتقيز والفرنسيس….
أتسائل… أين السكان المحليين؟ أين الامازيغ أصحاب الأرض؟ هل تاريخنا يبدأ فقط مع تاريخ وصول الأجانب والغزاة، وتاريخ الغزو، وإذا لم يتواجد السكان الأصليون، الأمازيغ فلماذا لم تبق تلك الأقوام والغزاة يحتلون هذه الثغور المحتلة؟ لماذا لم يبق الفينيقيون لماذا لم يبق القرطاج والوندال ولماذا لم يبق الرومان والبرتقيز… مَن هم هؤلاء الذين طردوهم من هذه الجزيرة ومن هذه الثغور والمراسي…؟
أنا اتذكر أن الملك الامازيغي يوبا الثاني قام ببناء مصنع لإنتاج صباغة الارجوان داخل هذه الجزيرة المقابلة مع ميناء تاصورت/ الصويرة، وهي الصباغة الفريدة والباهضة الثمن التي يتم استخراجها من بعض الرخويات البحرية، تسمى تانگروزت، وقد كتبت مقالة حول هذا الموضوع بعد اكتشاف بقايا اركيولوجية لمصنع آخر مماثل بناه الملك الامازيغي يوبا الثاني في واد أساكا جنوب مدينة إفني… اكتشاف علمي انجزه فريق اركيولوجي مغربي اسباني قبل سنوات قليلة… وهذه الصباغة كان يوبا الثاني يبيعها لملوك الفنيقيين لأن أميرات قصورهم يفضلن التزين والتجميل بهذه الصباغة التي يصنعها الامازيغ في سواحل محيطهم….
ضاقت بي هذه المقهى وأنا جالس أمام شاطئ تتناثر رماله بسبب الرياح التي تشتد قوتها بعد الزوال، أنظر إلى الجزيرة وبعض البواخر تدخل إلى ميناء تاصورت، والبعض الآخر يستعد للمغادرة، أنظر إلى الجزيرة وأمواج البحر تقفز عليها لوائح هواة رياضة السورف… أنظر إلى تلك المشاهد، وأتذكر التاريخ… وأشعر بألم حاد في الرأس…

تاريخنا تدوس عليه أقدام من هب ودب.

اتجهت صوبا، إلى ضريح سيدي مگدول، آخر ما تبقى من المدينة المرسى الأمازيغية، كما يفعل أجدادنا الأولون وأسلافنا السابقون، كلما ضاقت بهم السبل يلجأون إلى المزارات والاضرحة المقدسة… وصلت، ووجدت جميع أبوابه مغلقة، على خلفيته، تتكدس الاتربة والمتلاشيات، خشب وحديد، بسبب أشغال الترميم المستمرة داخل الضريح، استفسرت أحد العمال، وقال لي يمنع الدخول بسبب الأشغال، وأشار بيده إلى باب صغير بلون ازرق، برهة، خرج رجل من البيت، طلبت منه السماح لنا بالزيارة، أجاب بالرفض لأن الزيارة ممنوعة بسبب الاشغال… استفسرت متى ستنتهي الأشغال… أجاب ضاحكا، أنا لا أعرف متى بدأت ومتى ستنتهي مهمتي هي مقدم الضريح، لكن الاشغال بدأت منذ مدة، منذ ثلاث سنوات…. سألت، كيف ثلاث سنوات ولم تنته بعد…. هذا تأخر وتماطل كبير…. أجاب المقدم مؤكدا، أنه ليس له علم بالموضوع… ربما أن الشركة المكلفة بترميم الضريح لها مشاكل مع وزارة الأوقاف… حاولت أن استفسر عامل من العمال، رفض الحديث عن أسباب تأخر إتمام الاشغال…

وسيدي مگدول الذي حرف اسمه من أمگدول، مكدول ثم موگادور، مؤكد أن الاسم امازيغي مشتق من الجدر ⴳⴷⵍ گدل ومنها اسم قبيلة إگدالن الصنهاجية المعروفة في صحراء ايزناگن، ومنها مؤسسة أگدال وهي عبارة عن قانون يشتغل به الامازيغ لحراسة أراضيهم المثمرة واستدامة مواردهم من غابات وماء ومراعي وأشجار ومرافئ وغيرها، وتسمية أمگدول موجودة في عدة مناطق مغربية منها أمگدول في آيت باعمران وأمگدول في أزيلال والريف ووارزازات وغيرها ومن الجدر گدل اقتبست تسميات كثيرة تعني تقريبا نفس المعنى أي المكان المحروس أو المكان المحمي أو المكان الذي يطبق فيه أگدال كقانون، يمنع على الجميع الدخول إليه أو الرعي فيه…. كتاسگدلت في آيت باها وتاسگدلت في ايداگوگمار…. لذلك، نرى أن المكان الذي يتواجد فيه سيدي مگدول في مدخل مدينة تاصورت كله تابع لسلطة وزارة الأوقاف وهي عبارة عن اراضي الأحباس، تقوم وزارة الأوقاف باستغلالها عن طريق بناء عمارات سكنية تقوم بكرائها، كما تبني بالقرب من الضريح مركب ديني كبير… فليس بالضرورة أن يتواجد جثمان ولي صالح داخل الضريح، لأن التاريخ لم يؤكد وجود شخصية اسمها سيدي مگدول، وإنما وجود مدينة ومرفأ قديم اسمه أمگدول، لكن جريان التاريخ وسيوله قامت بجرف أجزاء من هذه المدينة الأمازيغية، وبقي منها جزء بسيط اسمه سيدي مگدول راسخا في الذاكرة الجماعية للساكنة، ليكون رمزا شامخا لهذه المدينة المقدسة…. فقداسة هذا الفضاء باعتباره خاضع لنظيمة أگدال، هي القوة الباطنية التي جعلت من مدينة تاصورت الحالية، مدينة أرواح ومدينة الملائكة، ومدينة صلحاء إيرگراگن، تلتقي فيها جميع الأديان وجميع الجنسيات وجميع الطوائف… سيدي مگدول هو تعبير عن الثقافة الأمازيغية القديمة التي تقدس الأرض، وتجعله مزارا للتعايش والتضامن وفضاء رحبا للتعدد الديني والثقافي… وسيدي مگدول هو ضمان لهذا التعدد الديني والتعايش الثقافي الذي تمتاز به تاصورت/ الصويرة حاليا..

قُلت لمقدم الضريح، وهو ابن قبيلة إيداوكرض في ايحاحان، وهو رجل وقور ومحترم، أنا أريد زيارة الضريح والتبرك ببركة سيدي مگدول… قال لي، إن الضريح منعت فيه الزيارة منذ عشر سنوات لأنه آيل للسقوط… لكنه اردف قائلا ” إن النية أبلغ من المقصود”..
عبدالله بوشطارت
صحفي وكاتب أمازيغي

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.