زمن الأوبئة: الفقيه والطبيب ورائد الفضاء كيف قفز الوباء الى صدارة المصطلحات الأكثر تداولا هذه الأيام؟ وما السبب في ذلك؟
بقلم الحسين بوالزيت.
للوهلة الاولي يبدو ان كلمة وباء تتير الكثير من المخاوف اثناء نطقها العادي خصوصا إذا كان ذلك مقترنا بانتشار وباء او “جايحة ” -بتعبير المغاربة قديما- كما حدث هذه الأيام. فإيحاءات الكلمة وسيميولوجيتها تتير علهه لا يقل عن الإصابة بالمرض نفسه. وذلك راجع إلى سبب بسيط وهو ان هذه الكلمة تجر معها الكثير من قصص المأساة والمعاناة القاسية التي اكتوت بها أجساد شعوب المعمور على مر التاريخ. هذا الأخير باث مع مرور الأيام والسنوات يوفر لنفسه مساحات أخرى للاهتمام والاشتغال ومنها بطبيعة الحال المعرفة الطبية كموضوع للبحث التاريخي.
وانا اتابع هذه الأيام تطورات انتشار وباء “كورونا” عبر العالم تتبادر إلى ذهني بين الفينة والأخرى وقائع تاريخية اطلعت عليها على امتداد سنوات من التكوين في مجال البحث التاريخي في كبريات الجامعات المغربية ومنها على الخصوص جامعة ابن زهر بأكادير وكلية الآداب والعلوم الانسانية اكدال بالرباط وجامعة الحسن الثاني ببنمسيك بالدار البيضاء، ومنها مسالة الأوبئة والمجاعات في تاريخ المغرب، والامراض والتطبيب في المجتمع المغربي زمن الحماية ومواقف العلماء والفقهاء من بعض قضايا الطب المعاصر كتشريح الجثث واستعمال مختلف العقاقير والأدوية والفحوصات الطبية وخاصة ما يتعلق بأمراض النساء والتوليد والتي يقوم بها أطباء ذكور… في مجتمع تحكمه الكثير من الطابوهات المتعلقة بالأماكن الحساسة في جسد الانسان.
كل هذا جعلني اطالع بين الفينة والأخرى كتب ودراسات لها صلة بهذه المواضيع ومنها هذا الكتاب القيم (انظر الصورة المرفقة) الذي أشرفت عليه الأستاذة الفاضلة آسية بنعدادة ويحمل عنوانا مثيرا وهو «المعرفة الطبية وتاريخ الأمراض في المغارب”، وهو من منشورات مؤسسة الملك عبد العزيز-الدار البيضاء وكلية الآداب والعلوم الإنسانية-الرباط، سلسلة اوراش البحث، ويقع في 297 صفحة من الحجم المتوسط، وصدر سنة 2011، وساهم فيه ثلاثة عشر باحثا أغلبهم من المغرب، وآخرون من تونس.
يستمد موضوع الكتاب أهميته القصوى في قدرته على تمكين القارئ من التعرف على مختلف الصور الذهنية التي كونها المغاربة عبر العصور عن المرض والاوبئة المعدية التي تصيبهم، كما يقفز بنا إلى اكتشاف المساحات التي باث علم التاريخ يكتسبها بين العلوم الإنسانية والاجتماعية بحيث اننا امام موضوع لم يعد حكرا على العلوم الدقيقة والتخصصات العلمية المجهرية التي تعتمد كثيرا على المجهر والعمل المختبري الجاف. فعندما يمارس الطبيب اوالبيولوجي سوف يجد إلى جواره بهذه المعنى مؤرخ يرصد كل حركاته وسكناته ويؤرخ لحركات لولب مجهره وحركات سماعاته الطبية التي ترصد نبضات قلوب المرضى ضحايا الأوبئة والمجاعات.
اذن من حق المؤرخ ان يأخذ منظاره الكبير ويتابع به مجهر الطبيب ويكتب عن شريحاته البيضاء اللمعة التي يضعها الطبيب تحث مجهر البحث الجرثومي والتحليل النووي للميكروسكوبيات التي يشتغل عليها.
وهذا ما سيساهم حتما في تغطية النقص الحاصل في الدراسات التي لها علاقة بمواضيع الطب مغربيا، فالأطباء كفاعلين أساسيين في المجتمعات الإنسانية الحالية باثوا شريحة تحظى بأهمية قصوى وذلك راجع الى العديد من الأسباب لن نخوض فيها الان.
وبالرجوع إلى إشكالية النقص المسجل في الدراسات التاريخية المغربية ذات الصلة بقضايا التطبيب والاستشفاء فإننا سنعثر على مجموعة من الأسباب التي تفسر ذلك ومنها على الخصوص ما هو مرتبط بتطور علم التاريخ في الجامعة والمعاهد المغربية ومنها كذلك ما هو مرتبط بأجندة المدرسة التاريخية الوطنية ابان نشوؤها الأول والاولويات التي اشتغلت عليها. فعلى الرغم من وجود مخطوطات تزخر بها الخزانات المغربية/ المغاربية كما يتضح من فهارسها، فان الدراسات الجادة والمتعلقة بالمعرفة الطبية وتاريخ الامراض بقيت محدودة جدا (ص06 المعرفة الطبية)، هذه المخطوطات تكمن أهميتها في الكبيرة في تزويد الباحث في تاريخ الأوبئة وتاريخ الطب بركام مهم من الأفكار والحقائق المتعلقة بانتشار الامراض وردود فعل المغاربة على ذلك ونخص بالذكر هنا طبقة العلماء والفقهاء والمخزن في المدن، زيادة على طبقة محترفي الطب الشعبي/إمزيلن في البوادي وفي تخوم المدن الكبيرة.
نسعى هنا إلى اثارة انتباه مختلف الفاعلين إلى دور المؤرخ الحاسم في سبيل سن استراتيجيات محكمة لمواجهة انتشار الأوبئة في الظروف الحساسة كالتي نعيشها اليوم، فثقافة المواجهة كما هي معروفة في تاريخ المغاربة عبر العصور أضحت في يومنا هذا كنزا ثمينا لا يمكن الاستهانة به في سبيل محاصرة “الجايحة” اذا وقعت، ولذلك لا تقل في نظرنا على تطبيق التعليمات العاجلة لمحاصرة انتشار الوباء والحيلولة دون استفحاله وتذميره البلاد والعباد.
فالنصوص التاريخية التي اشتغلت عليها الأسطغرافية المغربية تبين لنا بجلاء تمثلات المغاربة للأوبئة ودور العلماء والفقهاء في تكريس وجهات نظر معينة، فالتنافر الحاصل بين الفقهاء والعلماء/الأطباء في بعض فترات تاريخ المغرب يذوب في لحظة الأزمة مثل هذه لأن الجميع يعي جيدا بانه مهدد بشكل من الاشكال.
فوباء الطاعون الذي دمر المغرب في القرن الرابع عشر مازالت اصداءه تتردد في النفسية العميقة لكل مغربي بدرجة متفاوتة بطبيعة الحال وحسب الأجيال كذلك.
ولكن المغاربة لم يقفوا مكتوفي الايدي بل عملوا على استيعاب وفهم هذا الوباء، كما قاموا بتشخيصه ومن تمت وصلوا إلى اختراع عقاقير ومستخلصات طبية من الأعشاب وغيرها واستخدموها في علاج مرضى الطاعون وضحايا الجذام والسل وغيره من الامراض الفتاكة.
كما اتجهوا إلى سن الحمية الغذائية ومنعوا على المرضى تناول أنواع محددة من الاغدية والاشربة تجنبا لتفاقم أوضاعهم الصحية، ومن يتحدث اليوم عن الحمية يخيل اليه انه يتحدث عن اكتشاف جديد… والحق ان هذا الشعب قد عرفها واكتشفها منذ زمن بعيد. كما عمل على تأسيس مؤسسات استشفائية لمواجهة الأوبئة الهائجة والامراض المعدية التي تفتك بصحة وبدن الانسان.
اذن المغاربة لم يقفوا مكتوفي الايدي واستسلموا او استسلموا للامر الواقع وتركوا الطاعون يمزقهم كما يحلوا له؟؟ فالباحث في تاريخ انتشار الأوبئة سوف سيستنتج لا محالة ورود العديد من المواقف التي صدرت عن مختلف الفاعلين في المشهد المغربي زمن الوباء ونخص بالذكر هنا ثنائية الفقيه والطبيب والمخزن كطرف ثالث أساسي في المعادلة. وفي هذا الاطار أشار باحث مغربي مرموق في مجال التاريخ وهو أحمد المنصور حين عمل على تحديد موقف المحزن من الطاعون، واستجابة اغلب الفقهاء لإملاءاته مما يظهر ان المخزن أراد ان يتحكم في الفقيه والطبيب معا (ص08 المعرفة الطبية). لا اريد ان تفوتنا الفرصة دون الإشارة إلى تناول الشعراء لمواضيع انتشار الأوبئة في المغرب عبر العصور ونذكر هنا ان المتون الشعرية والقصائد التي نظمها الشعراء المغاربة في هذا الموضوع تعد بالآلاف، ومنها نكتشف ان ذهنية المغربي في بعض الفترات التاريخية تعتبر المرض محطة انتقالية فاصلة بين الحياة والخلود الابدي، ومن هنا سر رفض بعض المسننين تناول العقاقير الطبية الموصوفة من قبل الأطباء ورفضهم اجراء التحاليل الطبية التي لا يرون فائدة منها زمن الشيخوخة المتقدمة.
إذا كان العالم فعلا قد بلغ عهد الحروب البيولوجية باستعمال الفيروسات، فما على الأطباء الا ان يستعدوا لقيادة العالم وحكم المعمور. ولكن قبل ذلك عليهم ان يتعلموا فن السياسة. الدور على الأطباء الان والمستقبل على رواد الفضاء. دمتم مرحين وسعداء.