تأملات ابراهيم عفيف : الوظائف الاجتماعية للأسواق الأسبوعية “ثلاثاء ن ماســـــت” نموذجا(الجزء الأول)
تأملات
يــــــومكن ويومكم سعيد صديقاتي واصدقائي
ليليات رمضانية في ظل الحجر الصحــــي
رحلة التأملات في أعماق بحر الإنسانية.
…. وتستمـــر الرحلة التأملية، مع وقفة أخرى ذات طابع اجتماعي واقتصادي وثقافي…. وقفة تأمل وحسرة في الآن ذاته تجاه الأسواق الأسبوعية في القرى وفي المدن الشعبية بين الأمس واليوم، وقفة يختلط فيها الحنين للماضي الطفولي الجميل النوستالجي بالقيم الاجتماعية الراقية لتلك الفترة، في أفق رسم صورة جميلة لفترات من الزمن الرائع، وإسقاطها علـــى واقعنا اليومي لإبراز أهم ما فقدناه كمجتمع من خلال تراجع مكانة وقيمة هذه التجمعات التي كانت لها وظائف اجتماعية عديدة ومتنوعة….
وأنا أخط الكلمات الأولى لهذا المقال، تذكرت تلك الأيام الجميلة، وأنا في قريتي تاسنولت بماست، حينما أحصل على وعد ذهبي من والدي أطال الله في عمره، بكونــــي سأكون رفيقه للسوق يوم غذ….آه، تكون تلك أجمل ليلة من ليالي الفتى القروي ….طيلة الليل وهو يتقلب ذات اليمين وذات الشمال منتظرا شروق الشمس للانطلاق صوب السوق الأسبوعي ثلاثاء ن مــــاست…يومها لم تكن هناك وسائل عديدة للنقل عدا الحمار لعامة الساكنة أو الحصان بالنسبة للأســـر الميسورة ….رحلة لها طقوس خاصة، بدءا بتسلم لائحة اللوازم من يد سيدة البيت….الأم أطال الله في عمرها….مرورا بالطريق المؤدية للسوق والممتدة تقريبا على مسافة 4 إلى 5 كيلومترات….حيث أكون مجرد مستمع لأحاديث الوالد مع رفاقه المتوجهين هم أيضا لنفس الوجهة…..
ونحن في الطريق، كنت أرسم في ذهني خريطة افتراضية للأماكن التي أود زيارتها، ولائحة للمشتريات التي أرغب فيها….لكن أحيانا، شتان بين ما يخطط له وبين الواقع…شتان بين أولويات الوالد وأولويات الولد….أمام أبواب السوق، الذي يتواجد اليوم في وضعية انتظار ….، تختلط الأصوات بين مناد وبين داع للالتحاق بحلقته أو بطاولته التي تعرض عليها مواد مختلفة ….منها ما هو مخصص للقضاء على الفئران والصراصير…وأشياء أخرى…في مكان بعيد تأتيك رائحة زكية…رائحة السردين المقلي…والذي كان ضمن لائحة الأولويات….قبل البدء في الجولة رفقة الوالد، الذي يأخذ في الكثير من الأحيان طلباتي بعين الاعتبار، يتم اقتياد الحمار أولا إلى مكان يدعى ” الفندق”، وبعده توضع لوازمه ” الشواري والبردعة” تحت سقف أمام رحبة الحبوب…تنطلق الجولة من رحبة الخضر بدورة استطلاعية لمعرفة أثمان الخضر….وبعض الفواكه….ليستقر القرار، قرار الوالد، على وجهة اقتناء اللوازم، التي ستوضع في الشواري ….وبعد ذلك تبدأ باقي الأنشطة التي يتم فيها تلبية بعض من طلبات الولد، وتتم فيها لقاءات اجتماعية أخــــرى ذات أهمية بالغة…..
….يوم السوق الأسبوعي مناسبة للقاء أفراد العائلة القاطنين بدواوير أخرى، وسؤالهم عن حال أفراد العائلة، وعن أحوال القرية في شموليتها. كما يتم من خلالها، توجيه الدعوات أو تكليف أحدهم بدعوة عائلة فلان وعائلة فلان للحضور في حفل أو عرس أو….يوم كذا وكذا….
يعد السوق الأسبوعي كذلك فضاء خاصا بكل منطقة على حدة، يتم من خلال أنشطته التجارية والاقتصادية التعريف بجزء من تراث المنطقة….فسوق ثلاثاء ن ماست مثلا، هي مكان تعرض فيه أنواع الحصير ” إكــــرتال” ذات الصنع المحلي…حصير مصنوع من نبات السمر ” أزماي azmay” الذي يخضع لعمليات إعدادية عديدة لا يتقنها إلا أهل البلدة صغارا وكبارا…وقد كانت لي أشواط في هذا المجال….، كما يتم عرض المنتوج الزراعـــي المميز للمنطقة والذي يكون سببا رئيسا لاستقبال زوار كثر من مناطق عدة….إنه منتوج الذرة ” أسنكار” الذي تتفن الجدات في توظيفه في ” أنوال” المطبخ الأمازيغي لإعداد وجبة ماسية بامتياز…..”أبداز abaddaz” بنوع من السمك يدعى ” تسركلت tasargalt” …تلك إذن صور مختارة بعناية من الزمن الجميل، لما كان للسوق الأسبوعــــي من وظائف اجتماعية عديدة. فضلا على تلك الأدوار والوظائف، كان للسوق وظيفة أساسية تعتبر من موضات هذا الزمن…. إنها الثقافة الغذائية السليمة….فالسوق كان يعلمنا كيف نستهلك الخضر والفواكه وكيف نستهلك اللحم مرة واحدة في الأسبوع وكيف وكيف….
تغيرت الأحوال وتغير معها الشيء الكثير، فأصبحت الأسواق في كـــل مكان وفي كل وقت….وأصبح التواصل بشتى أنواعه متاحا بين الثانية والثانية….حنى فقد معناه….وأصبحت الثقافة الغذائية ونصائحها من المهن المستجدة، لكن دون جدوى…..واندثرت معالم التراث الجميل، فاختفى الحصير وحل مكانه البلاستيك….ورحلت الأيام الجميلة ومعها لحظات جميلة….لم نتمكن نحن أبناء اليوم من الحفاظ على جوهرها ولو بإمكانيات عصرنا…..وغابت تلك العلاقات الاجتماعية التلقائية التي كانت تتم في السوق بدون حسابات قبلية ولا بعدية….بدون تأويلات ولا مخاوف ….تغير كل شيء.
إلى تأمل آخـــر، أرجــــو لكم ليلة رمضانية كلها أحاسيس إنسانية …. إلى لقاء آخر بحول الله
إبــــــــراهيم عفيف استاذ ومفتش تربوي وفاعل جمعوي.
سوس ماســـــة
05/05/2020