بوشطارت: قضية الأرض” قَوْنَنَةُ النٌَهْب”.
تمادت الدولة المغربية كثيرا، في تطبيق ظهائر الاستعمار التي سنتها فرنسا منذ 1912 لنزع ملكية الآراضي من السكان الاصليين، ومن القبائل في السهول والجبال والصحاري. لم تطبق الدولة تلك الظهائر فحسب، وإنما قامت باستصدار ترسانة هائلة من المراسيم والقوانين والنصوص التي تهدف إلى اغتصاب الاراضي والموارد من السكان المحليين، وحصلت بموجب ذلك على أزيد من 45 مليون هكتار. وآخر تلك المراسيم هو قانون تنظيم الرعي وتنمية المراعي الذي يسير جنبا إلى جنب مع قوانين التحديد الملك الغابوي المعروفة.
ونحن نتابع حراك الأرض، وحراك الرعي الجائر، لابد أن نساهم على قدر المستطاع في فهم وتحليل هذه القضايا ذات الحساسية المفرطة جدا، والتي تهدد السلم الاجتماعي في كثير من المناطق، تحليل وتفكيك هذا المشكل المرتبط بتشريع القوانين التي تغتصب ملكية الأرض، على ضوء الفكر السياسي والفكر القانوني الذي كتب فيه الكثير والكثير، من قبل فلاسفة ومفكرون كبار.
وتبدأ في خلخلة المزاعم السياسية والمغالطات الكثيرة المرتبطة بماهية هذه القوانين، بطرح هذا السؤال: هل ما يسنه البرلمان المغربي وغيره من البرلمانات في العالم، وتسهر الحكومات على تنفيذه ، هل هي قوانين ؟ هل يمكن أن ترقى هذه النصوص إلى مرتبة القانون ؟
نبدأ مع المفكر والعالم الاقتصادي الكبير فريدريك فون هايك 1899 – 1992، الذي ألف عدة كتب، أهمها ” القانون، التشريع والحرية” يؤكد أن هذه النصوص التي تنتج من قبل السياسيين والمشرعين في البرلمان والتي تنتجها الحكومات لا ترقى إلى قانون، هي فقط تشريعات، وذلك بسبب عدم توفر عدة شروط في هذه التشريعات التي يقال عنها قوانيين، من بينها أنها تسن بطريقة بيروقراطية جدا وتتناقض مع الحرية، وخاصة حرية الملكية، كما أنها لا تتوفر على بنيات الإستمرارية والديمومة والقدم. وهذا ما يجعلني شخصيا، أن اقتنع بكون هذه المراسيم التي تسمى قوانيين ما هي الا تشريعات تسنها طبقة مسيطرة وهي أقلية، لتحافظ على مصالحها في استدامة السيطرة والغلبة والتحكم على اغلبية تحت ذريعة الاقتراع العام.
وما يطرحه فريديريك هايك في مرتبة القانون، هو ما ينطبق عندنا في المغرب على القوانين الأمازيغية، فعلى سبيل المثال، قانون أكدال تم إنتاجه وفق حاجة اجتماعية من قبل المعنيين الأمر، من طرف المجتمع في غابر الأزمان، فهو قديم جدا، غير مكتوب ولا يحمل أي طابع ولا توقيع لأي شخص ولا لأي وزير، فهو إذن يتسم بالقدم تنقله الأجيال عبر مدة زمنية طويلة، كما أنه يضمن الملكية الفردية والجماعية ويسهر على احترامها، بل يقدس الملكية الجماعية وهي الضامنة لاستمرار المجتمع والقانون نفسه. كما أن قانون أكدال يتوخى الحفاظ حقوق الجميع، أو ما يصطلح عليه بالمصلحة العامة. باختصار مفيد حتى لا نتيه في المقاربات والتصورات، أن أكدال الذي ينعته البعض بالعرف عندنا هو الذي يسمو إلى مرتبة القانون، أما ما يشرعه البرلمانيين والسياسيين في المغرب تبقى تشريعات، ويريد بعض السياسيين أن يجعلوها مراسيم مقدسة متسلطة على رقاب الشعب.
هذا الكلام يقودنا إلى ما لا حظه المفكر الفرنسي الكبير، “كوستاف لوبون” 1841- 1931، الذي ألف كتبا عديدة، ولاحظ في كتابه “روح السياسة” أن جل الفرنسيين ينظرون إلى النصوص التشريعية بكونها قادرة على أن تحل جميع المشاكل، وجميع الأزمات وجميع القضايا التي تهم المجتمع ولو في تفاصيل جزئية جدا، وأنها تستطيع إغناء الفقير في رمشة عين بمجرد سن تشريع معين. وقال في فصل داخل نفس الكتاب الذي عنونه بالأوهام التشريعية، أن المجتمع يعاني من سلطان القوانين المطلق، حيث حلت التشريعات محل الآلهة..وجميع الأحزاب أصبحت تعتقد وتقدس هذه الآلهة الجديدة وتوهم الشعب على أنها ستخلصه من جميع همومه ومشاكله، وذلك ما جعل الحكومة تتدخل في كل شيء يهم حياة الناس. واعتبر لوبون أن هذه الأحزاب والحكومات تغرق في الطوباوية والأحلام لأنها تسعى اصلاح المجتمع بقوة النظم والمراسيم والتشريعات…ويرى لوبون دائما أن هذه المغالطات والأخطاء هي عبارة عن بدع سياسية نتجت وتطورت بعد الثورة الفرنسية. وفي فصل آخر عدد كوستاف لوبون الكثير من القوانين التي فرضتها الحكومة الفرنسية بالرغم من كونها قوانين سيئة جدا وكان لها انعكاس كارثي على المجتمع وعلى الاقتصاد ..وشدد على أن جل القوانين تحمل مساوئ عديدة.
وما دام أن الدولة المغربية الحديثة، هي صنيعة البيروقراطية الفرنسية في نموذجها اليعقوبي، فإننا ورثنا عنها نفس الأمراض وبجرعات زائدة، فإذا كانت الحكومة الفرنسية تسن قوانين في الغالب، هي تشريعات سيئة، فما بالك عندنا في المغرب…ولا داعي من الإشارة إلى كون جل القوانين التي تخرج من البرلمان والحكومة تكون لها انعكاسات مغايرة لما تتوخاه نفس التشريعات، مثلا مدونة السير جاءت لتحد من حوادث السير فجاءت النتيجة معاكسة وكارثية وارتفعت عدد الحوادث بشكل مخيف، ونفس الشيء مع مدونة الأسرة التي جاءت لتقوية التماسك الأسري عبر النقص من وثيرة الطلاق، وبعد تطبيق المدونة ارتفع عدد حالات الطلاق بشكل صاروخي…ولا يسمح المجال في تعداد مثل هذه الحالات التي تبين أن السياسة التشريعية في المغرب تعتريها نواقص كثيرة، وليست كل القوانين والتشريعات تهدف إلى المصلحة العامة، وإلى الحفاظ على حقوق الناس.
نقول هذا الكلام ونربطه مع سياق اصدار قانون المراعي واستمرار في استصدار قوانين تحديد الملك الغابوي، فهذه القوانين لا تهدف فقط إلى حماية مصالح الفئة الحاكمة، وإنما هي قوانين تساعد على النهب، أو هي تشريعات جاءت لتشرعن النهب، أي تأخذ ما للفقراء والبسطاء والفلاحيين وتعطيه للآخرين الذين لا تربطهم به أية صلة، بموجب نص القانون.
وهنا أريد أن أشير إلى كتاب قيم جدا يساعدنا على فهم هذا الموضوع بشكل واضح، وهو كتاب للمفكر “فريديريك باستيا” تحت عنوان ” القانون” وفيه يشرح مفهوم القانون وكيف يتم وضعه، وتطبيقه، والماهية الأساسية في سن القوانين، وهو يرى أن القانون ينظم النهب ويقره، حتى يبدو (النهب) عند الكثيرين عادلا ومقدسا، مما يجعل العديد من فئات الشعب تدافع عن النهب والاحتكار والعبودية أكثر من الذين يستفيدون منه…فضحايا النهب القانوني يدافعون عنه أكثر من الذين قاموا بتشريع تلك القوانين التي تشرعن النهب والاستغلال ويستفيدون منها بشكل كبير…ويرى باستيا أن القانون حين ينحرف تنحرف معه قوات الوطن الجماعية..
هل انحرفت قوانيين الدولة فيما يخص قضية الأرض والمراعي ؟ الجواب نعم.
حتى واذا كانت الحكومة تملك نوايا حسنة في اصلاح المشاكل المترتبة عن الرعي الجائر والترحال الرعوي( وهذا مستبعد) فإن تلك القوانين انحرفت عن مسارها لأنه ظهر استهدافها لملكية اراضي الساكنة ويضرب في حرية الملكية ويمس أمن المواطنين. أما قوانين التحديد الملك الغابوي فهي تشريعات سيئة جدا مستوحاة من العقلية الاستعمارية، حان الوقت لمراجعتها وإلغائها.
ع. بوشطارت
مارس 2019.