بوشطارت : تارودانت هي اقدم واعرق حضارة في المغرب وهي كذلك الام التي ولدت مراكش .
ما لا يعرفه جل المغاربة، هو أن تارودانت هي أقدم واعرق حاضرة في تاريخ المغرب، على الأقل هي سابقة على فاس ومراكش. إن لم نقل هي الأم التي ولدت مراكش. ومن يعرف تارودانت جيدا سيعرف أنها هي التي أنجبت مراكش وليس العكس. لأن المرابطين لولا هاجسهم لمواجه دولة بورغواطة التي تسيطر على منبسط تامسنا الذي تعيش فيه وتستقر مجموعات مصمودة، لكانوا اتخذوا تارودانت عاصمة سياسية لهم، لكن حاجز جبل درن حال دون ذلك. واستقروا بادئ الأمر في اغمات وبعدها زحفوا إلى قدم الجبل وأسسوا إغرم نوزرو قصر الحجر الذي حوله يوسف بن تاشفين إلى مدينة مراكش لمواجهة مصامدة بورغواطة ثم لتأسيس عاصمة سياسة تنافس فاس، وتلائم خصوصياتهم الصحراوية.
لكن بالرغم من تأسيس عاصمة الملك في مراكش، ظلت تارودانت هي العاصمة السياسية لكل الأصقاع التي توجد جنوب الأطلس الكبير درن، إلى الصحراء وظل الأمر على حاله إلى أن جاء الاستعمار الفرنسي بجيوشه وطائرته ودوخ البلاد والعباد. فلم تكن تارودانت ترضى بغير العاصمة، والولاية على كل نواحي الجنوب إلى مبتدأ الصحراء في بلاد صنهاجة ماوراء تارگا تازگاغت(الساقية الحمراء اليوم) ولم تكن ترضى بعامل او قائد أو عسكري يمثل المخزن، وإنما بخليفة السلطان بصيغة الوالي، ويعين بظهير وبأمر شخصي من السلطان، ونظرا لأهمية الحاضرة والناحية فإن السلاطين غالبا ما يلجأون إلى تعيين أولادهم وأقاربهم على تارودانت.
وما تتميز به تارودانت عن غيرها من الحواضر، هو أن كل من تم تعيينه على تارودانت، يعيش فيها مدة ويرتوي من نعيمها ويأكل من خيراتها الكثيرة التي تأتي من الاصقاع السوسية، إلا ويسوس عقل الوالي او الخليفة ويفكر في الثورة ويطلب الحكم، ولو كان ذلك من أبناء السلطان، كما وقع مع محمد العالم الذي عينه والده واليا على تارودانت وبعد مدة أعلن الثورة والانشقاق… لكنه فشل. لأن تارودانت هي المهد لكل الحركات الدعوية المطالبة بالملك والحكم، ومنها خرجت اغلب المشاريع السياسية الكبرى التي حكمت المغرب والاندلس والسودان، ونخص بالذكر الموحدون والسعديون…
ولابد أيضا من الإشارة إلى الفترة الذهبية التي كانت فيها تارودانت عاصمة سياسية للمغرب، حين اتخذها السلطان محمدالشيخ السعدي مقرا لسكناه وعاصمة لحكمه، ومنها أعلن مواجهة أعظم وأقوى سلطان عثماني سليمان القانوني الذي كانت جيوشه الانكشارية تجوب اربع قارات وتبحر سفنه في المحيطات والساحل، كان محمد الشيخ السعدي السلطان الامازيغي المغربي قد أعلن عن مواجهة القانوني حين طلب منه هذا الأخير إعطاء البيعة له، لكن محمد أمغار الذي تعرف المصادر التاريخية اسمه إلى الشيخ السعدي رفض ذلك وتشبت باستقلال المغرب عن الأتراك… لكن السلطان الانكشاري المعروف بالقانوني عمل على إرسال جواسيس قاموا في نهاية المطاف إلى حز رأس السلطان السعدي وهربوا به إلى استنبول وعلقه السلطان على أسوارها انتقاما من الرسالة التي بعثها له السلطان السعدي ووصفه فيها بأمير القوارب، لأن العثمانيين كانوا يزاولون القرصنة البحرية آنذاك….مؤكد جدا أن الذي تسلل في جنح الظلام ليترأس هذه الحاضرة العظيمة، التي كانت تصدر السكر من مصانعها إلى قصر الملكة البريطانية إيليزابيت خلال القرن السادس عشر، والتي كتبت في رسالة تاريخية ” أنها لا تشرب الشاي إلا بسكر تارودانت”. قلت، مؤكد أن المتسلل إلى مجلس المدينة لا يعرف شيئا عن تاريخها وحضارتها ونبوغ سكانها على مد العصور.
نقول هذا الكلام لابراز دور حاضرة تارودانت في تاريخ المغرب، وكيف عمل رجالها ونسائها وعلمائها وقيادها وحرفييها وفلاحيها وعموم سكانها على بناء حاضرة تنازعت مع العواصم الكبرى فاس ومراكش في الرئاسة والسياسة والعلم والحرب والثقافة والصناعة والبنيان والتنظيم… نقول هذا الكلام، ونتذكر كل هذه الأحداث، ونتألم بشدة عن ما آلت إليه تارودانت اليوم، ونتسائل ما الذي اصاب حاضرة المغرب والصحراء حتى تسلط عليها مثل هؤلاء السياسيين… هل أصابت الحاضرة مصيبة حتى تسلل الذي تسلل إلى رئاسة تدبير شؤونها. كيف دخل مثل هؤلاء الساسة ليجلسوا على كرسي مجلس المدينة، بالرغم من أن المدينة تحيطها أسوار عالية ومتينة وضخمة بأبواب سميكة محكمة الأقفال.
إنني أشك أن المدينة مسها شيء في ليلة من ليالي الحالكة، ولن تكون إلا ليلة 8 شتنبر المظلمة…
أنا متأكد جدا، أن من يدرك تاريخ تارودانت وتفاصيل حضارتها ووزنها التاريخي العريق، سيتألم، وينتابه الخوف والقلق بشأن هذا المصاب الجلل الذي ألم بمدينة تئن تحت وطأة سوء التسيير وسوء الحال والمآل، مدينة أصابها المس والنحس، وفقدت الحس والحدس…
وأمام كل هذا، وبما أنني عاشق لهذه المدينة، فإنني اطلب من سكانها التقاة الذين يتألمون في صمت مثل ما أتألم أن يكثروا الزيارة لوالي المدينة المصلح المشهور ضريحه لدى الساكنة، ” ب سيدي وسيدي”.
عبدالله بوشطارت اعلامي وباحث في التاريخ .